الإضافة فى الفن
....................

إذا كنت قد ألزمت نفسى ـ ذات صباح خريفى فى مطالع الستينيات ـ أن أقرأ كل ما تصادفه يداى من أعمال إبداعية ـ روايات وقصص قصيرة على وجه الخصوص ـ فإن النتيجة التى أعانيها الآن هى أن الجديد فى الإبداع الروائى والقصصى ـ هذا ما يشغلنى ـ وفى فنيات الإبداع تحديداً ، مطلب فى غاية الصعوبة ، ويحتاج إلى موهبة من حقها أن تنتسب إلى العبقريات . العادة فى الندوات الأدبية أن يجامل آخر المتحدثين من سبقوه ، فيشير ـ بتواضع غير حقيقى ـ إلى أنه لم يعد لديه ما يضيفه ، وإن قرر ـ بينه وبين نفسه ـ أن يقذف بعصا موسى لتبتلع أفاعيل السحرة . ولأنى لا أمتلك ما يهبنى الثقة فى تقديم " الإضافة " ، فإنى أكتفى بالغيرة الفنية ـ هل هذا هو التعبير الأنسب ؟ ـ وأنا أقرأ تلك الإضافات الجميلة فى فنية القصة القصيرة والرواية ..
الإضافة لا تعنى الإلغاء ، وإلا لألغينا أعمالاً روائية وقصصية مهمة فى تاريخ أدبنا المعاصر ، فى ضوء أعمال نجيب محفوظ على سبيل المثال . الإضافة التى أقصدها ، هى التى يحاول التجريب تقديمها . لا إضافة بدون تجريب ، أو أن التجريب المتفوق يقدم إضافة . لا يوجد مبدع حقيقى لم يحاول أن يقدم إبداعاً غير مسبوق فى مقولته وفنيته . قرأت لمحمد النويهى فى أواخر الخمسينيات أن الأديب لا يمكن أن يكون عظيماً إلا إذا ابتكر شكلاً فنياً جديداً ، وشق طريقاً غير معروف ولا مألوف . وأضاف النويهى أنه مستعد لأن يسامح أدباءنا على كل ما يرتكبون فى سعيهم نحو تحقيق هذه الصورة الملحة من خطأ وشطط ، فهم يأملون أن ينتهوا من تلك التجارب إلى استكشاف سواء السبيل . وكانت قراءتى للنويهى مساوية من حيث التفاتى إلى ضرورة أن يضيف المبدع جديداً ، لما قرأته لمحمد مندور عن ضرورة أن تكون للمبدع فلسفة حياة ..
***
الإبداع هو إضافة شىء جديد إلى الوجود . لكن لابروبيير يذهب إلى القول : " كل شئ قد قيل . وقد أتينا بعد فوات الأوان ، منذ ما يزيد على سبعة آلاف سنة ، حين وجد أناس ومفكرون . أما العادات ، فقد انتزع خيرها وأجملها ، ولم يبق لنا إلا أن نلتقط سقط المتاع على إثر ما جمعه الأقدمون " . ويقول الكاتب الأيرلندى أوفلارتى : " إن أشد ما يؤلم الكاتب هو معرفته أن كل ما يقدمه قد قيل من قبل " . أصعب الأمور ـ أو أقساها ـ أن تبدع عملاً بتصور أنه غير مسبوق ، ثم يبين توارد الخواطر ـ هذا هو التعبير الذى تفضله النصيحة المشفقة ـ عن الأعمال التى تلقى على عملك ـ غير المسبوق ـ ظل التأثر . وقد بدأ اهتمام جابرييل جارثيا ماركيث بفن القصة ، حين قرأ قصة " المسخ " لكافكا . قرأ فى أولها هذه الجملة " عندما صحا جريجور سامسا ذات صباح ، بعد أحلام مقلقة ، وجد نفسه قد تحول إلى خنفساء " . وأغلق جارثيا الكتاب فزعاً ، وهو يهمس لنفسه : هل يمكن أن يحدث هذا ؟ . وكتب ـ فى اليوم التالى ـ أول قصة له . وللكاتب الأمريكى اللاتينى ألفريدو كاردينا بنيا قصة بعنوان " آثار النمل على الرمل " ، يعتذر لقرائه ـ بداية ـ عن إخفاقه فى العثور على قصة جديدة لم يسبق أن قرأ مثلها ، وعلى حد تعبيره فإن ألف ليلة وليلة مخزن لأكبر عدد من القصص الإنسانية . لقد أصبح هذا الكتاب نبعاً ثرياً متعدد الروافد للعديد من القصص والحكايات التى تروى فى كل أنحاء العالم ، وجعل الكثير من الكتابات التالية لصدوره مجرد تقليد ، أو نقل غير مبدع . وتنقّل الراوى / الكاتب بين العديد من موضوعات الأحلام والحب ، وحكايات الجنيات والعفاريت ، وقصص الفزع والأشباح والأرواح الشريرة . ثم توصل ـ أخيراً ـ إلى قصة وجد فيها تفرداً عن كل ما سبق تأليفه من قصص : " كان ذات مرة " . وقرأ القصة على متلقين كثر فى أنحاء العالم ، ثم أسلم عينيه لإغماضة الموت ، وهو يبتسم فى هناءة !
***
ثمة مقولة : " هناك من يظن أنه ابتكر قصة ، لكن هناك من اخترعها قبله " . وعلى حد تعبير إرسون Euerson فإن الأعمال ـ حتى الأصيلة ـ ليست أصيلة ، بمعنى أن الأصالة لاحقة لأعمال سابقة . ويقول نورثروب فراى : " إن الشعر لا يمكن صنعه إلاّ من قصائد أخرى ، والروايات لا يمكن صنعها إلاّ من روايات أخرى ، والأدب يشكل نفسه ، ولا يشكّل شيئاً خارجاً عنه ، وكل شئ جديد فى الأدب هو إعادة تصنيع لشىء قديم " . ويضيف إرنستو ساماتو : " ليس ثمة تقدم فى الفن ، بل تغيّر ومحطات وصول جديدة فقط " . فهل كل الكتاب الذين ماتوا ، والذين يعيشون ، ومن سيولدون فى الدنيا ـ والتعبير لإنريكى أندرسن إمبرت ـ مجرد أناس يقومون بالتكرار والتقليد وإعادة السبك والانتحال ، ووجود صلات ضعيفة ، أو قوية، بين النصوص ؟
الكثير من الإبداعات الروائية والقصصية لا يضيف شيئاً إلى القصة والرواية . إنه مقيد بسيطرة العادى . إن التقاط سقط الحصاد لن يضيف إلى الفن ، ولا إلى الفنان ، والتعبير عن الخصوصية هم كل الأدباء ـ أو هذا ما أقدره ـ بصرف النظر عن انتماءاتهم السنية ، أو الفنية . ليس بأمل أن يجدوا قارئاً لم يقرأ الأعمال السابقة عليهم ـ والقول لأندريه جيد ـ وإنما بأمل أن يجد القارئ تميزاً وإضافة عما كتبه أدباء الأجيال السابقة ..
مشكلة المبدعين ـ فى زمننا الحالى ـ هى ما عبر عنه موباسان ـ منذ عشرات الأعوام ـ فى قوله : " من يكتب اليوم لابد أن يكون مجنوناً أو جسوراً أو وقحاً أو غبياً . فبعد كل هؤلاء الأساتذة العباقرة ، ماذا تبقى لنا أن نفعل ؟ ماذا نقول بعد كل ما قيل ؟.. من منا يمكنه أن يفخر أنه كتب صفحة أو جملة ، لا يوجد مثلها فى كتاب ما " ..
وحين كنا نحتفى بطريقة تيار الشعور ـ كما جاءت على استحياء فى ثلاثية نجيب محفوظ [ أواسط الخمسينيات ] ، أو بصورة واضحة فى الطريق واللص والكلاب [ أوائل الستينيات ] فقد كان رأى " أولسوب " أن أحداً من الكتاب الإنجليز المعاصرين لن يجرؤ على استخدام تكنيك الشعور حتى لا يتهم باتباع أسلوب عتيق عفى عليه الدهر .
المقولة الشهيرة تؤكد أن الأفكار ملقاة على الأرصفة . لكن فلوبير ينصح كتاب الأجيال التالية بألا يكتبوا شيئاً دون أن يشعروا بما لم يشعر به ، أو عبر عنه ، كتاب آخرون . الجديد اكتشاف وإضافة وارتياد مناطق لم يسبق ارتيادها [ أذكرك بمقولة الفنان التشكيلى الفرنسى سيزان : " إننى أريد أن أرسم ، وكأن رساماً واحداً لم يقم بهذه المهمة من قبلى " ] . ولعلى أعتبر كل عمل أبدأ فى كتابته تجربة أولى . قد يشابه ـ فى فنيته ـ أعمالاً لى سابقة ، وقد يختلف مع ما سبق أن كتبته ..
الحبكة تعنى الخطة التى نكتب فى ضوئها العمل الفنى . أوافق على أن الحكى هو أساس الرواية ، لكن الحكى المتتابع ، المتسلسل ، لم يعد شرطاً صارماً للعملية السردية ، فضلاً عن الحبكة التى تصنع فنية العمل الإبداعى . وكما يقول ا . م . فورستر فإن القصة هى حكى لأحداث مرتبة حسب تتابعها الزمنى ، بينما الحبكة تنظم الأحداث تبعاً لإدراك ما بينها من أسباب وعلل . ثمة المحاولات التجريبية التى تحاول كسر قواعد الرواية الواقعية ، والتحرر من تقاليدها شبه الثابتة ، وتفيد من لغة الشعر ، ومن الإيقاعات الجمالية ، وتترك النص الروائى مفتوحاً ..
إن عوليس تستغرق ثمانى عشرة ساعة من الحياة اليومية ، وإن احتلت مئات الصفحات . ورواية جابرييل جارثيا ماركيث خريف البطريرك تتكون من ستة فصول ، بلا أرقام أو عناوين تبدأ بها . إنما مساحة بيضاء صغيرة تفصل بين كل فصل والفصل الذى يليه. وتتواصل السطور دون أن يعوضها فواصل إلا القليل من النقط . وكانت تلك ـ فيما أقدر ـ بداية تقنية أسلوبية فى الأدب العالمى كله . وفى رواية المسيح ضد أريزونا لكوميلو خوسيه ثيلا يعتمد الفنان تقنية الرواية الدائرية ، إلى جانب تشابك التقنيات الروائية الحديثة بصورة لافتة ، فأحداثها تستغرق 238 صفحة ، يبدأ فيها الراوى الحكى ، ثم يتوقف فى منتصفها عن السرد ، ويحل مكانه شخص آخر يكمل الحكاية . ونكتشف أن الراويين هما شخص واحد ، غيّر اسمه ولقبه وبعض حياته . الرواية سرد متصل ، لا يتوقف . تختفى الفصول وعلامات الترقيم ـ عدا الفاصلة ـ وتختفى النقاط إلا نقطة النهاية . إن البطل بالمعنى المتواتر يغيب عن هذه الرواية . ليس ثمة بطل محدد بين الشخصيات التى تزيد عن 450 شخصاً .
والأمثلة كثيرة .
***
ظل الإبداع السردى العربى يتمثل التجربة الغربية وفق مفهوم الحبكة ، وفى ضوء متغيرات الواقع العربى . ثم لم تعد الرواية ـ ولا القصة القصيرة ـ تشترط ملاحظة ا . م . فورستر أن تكون عبارة عن قص حوادث حسب ترتيبها الزمنى ، الغداء بعد الإفطار ، والأحد بعد السبت ، والموت بعد الحياة ، والتحلل بعد الموت ، إلخ . القصة الحديثة ـ هذا هو التعبير الذى يحضرنى ـ تهمل السرد المتتالى للأحداث ، الأحداث المتصلة ، وإن اتصلت الفجوات والفقرات ، وتلاصقت ـ لتصنع اكتمالاً فنياً من خلال حبكة واعية . ثمة تداخل فى الأزمنة والأمكنة ، وفى الأنواع الأدبية ، وفى الأنواع الفنية بعامة . إن كل ما يخدم القص تفيد منه الرواية . ليس ثمة ما لا تقبله الرواية . إنها تجاوز حدود الزمان والمكان ، وتتماهى مع الأجناس الأدبية ـ والفنية ـ الأخرى . ثمة الكولاج ، والمونولوج الداخلى ، وإدخال عناصر من السيرة الذاتية ، واستخدام الأقواس ، وعلامات الترقيم ، واستخدام أبناط مختلفة ، وأنماط مختلفة من الخطوط ، إلخ .
وبالنسبة لى ، فإن الفن ـ كما يقول نور ثروب فراى ـ يبدأ حالما تنقلب " أنا لا أحب هذا " إلى " ليست هذه الطريقة التى أتخيله بها " . ودون تطلع إلى محاولة تجاوز الأستاذية التى أدين بها للعشرات ممن كتبوا بالعربية وبلغات أخرى ، فليس ثمة المبدع الذى أتوق إلى تحطيمه ، تخلصاً من مأزق تأثيره فى فهمى للإبداع ، وفى إبداعه نفسه ، وذلك لسبب بسيط هو أنى قد أفلحت ـ من زمن بعيد ـ فى التخلص من كل التأثيرات . أنا أكتب ما يعبر عن رؤيتى ، وذاتيتى الخالصة ، فى الفنية واللغة والسرد والحوار إلخ . لذلك ، فقد أديت صلاة الجنازة على مجموعتى القصصية تلك اللحظة عقب صدورها مباشرة . تبينت ـ فى معظم قصصها ـ أجنة غير مكتملة ، أو أنها نواة لتجارب لاحقة ، لقصص قصيرة تالية . فهى ـ بلغة الفن التشكيلى ـ أقرب إلى الاسكتشات التى تعد إرهاصاً ، أو مقدمة ، للأعمال المتكاملة ..
روايتى إمام آخر الزمان تقوم على التكرار ، لكن تعدد الحالات التى يقدمها هذا التكرار تجعله ـ فى تصورى ـ مطلوباً . فإمام الفصل الثانى يختلف ـ فى أفكاره وما يدعو إليه وممارساته ـ عن الأئمة فى الفصول التالية . وحين يقتل الناس من بدا كأنه الإمام الحقيقى ، فلأن القارئ كان تابع توالى الأئمة بكل ما عبّروا عنه من تناقضات .
ولرواية بوح الأسرار ـ المتعددة الأصوات ـ أنصارها من النقاد المعاصرين مثل رولان بارت وباختين وغيرهما . ثمة العديد من النقاد ـ كما يقول رامان سلدن ـ يرون أن الرواية المتعددة الأصوات أقرب إلى التعبير عن حقيقة الأدب من النصوص الأحادية المعنى ( المونولوج ) . فى قصة الآنسة كورا لخوليو كوتا ثار تتعدد الأصوات داخل القصة ، لكن التعدد يتداخل ، ولا تفصله تقنية ما ، فهو يختلف ـ مثلاً ـ عن ميرامار محفوظ ، و رباعية داريل " ، ورجل فتحى غانم الذى فقد ظله ، وحتى عن بوح الأسرار . ليس ثمة توقف عند نهاية فقرة لأحد الأصوات ، ليقدم الفنان بالتالى صوتاً آخر يروى الحدث من وجهة نظر مغايرة ، وإنما الأحداث تختلط وتتشابك وتستمر إلى نقطة النهاية ، من خلال تعدد متداخل للأصوات ، لا تفصله نقط ولا فصلات ، ولا أدوات وصل من أى نوع . ولعل السؤال الذى يلقيه القارئ على نفسه : من يقول الصدق بين الشخصيات المتكلمة ، ومن يقول الكذب ؟
ظنى أن الإجابة يملكها القارئ وحده . هو الذى سيتأمل الروايات المتباينة ، وتحرى أقربها إلى الصدق وأبعدها عنه ..
وإذا كان تعدد الأصوات يعنى رواية الحدث على لسان إحدى شخصيات الرواية ، ثم يروى الحدث نفسه من زاوية أخرى ، على لسان شخصية أخرى ، ثم يرويه شخص ثالث من زاوية مغايرة ، وهكذا ، حتى تكتمل الصورة فى النهاية .. إذا كان ذلك كذلك ، فإن الأحداث فى رباعية بحرى تتوالى كما يرويها الراوى العليم ، وهو الكاتب نفسه ، فيما عدا المونولوج الداخلى ، والتداعى ، والاسترجاع ، والفلاش باك ، والتقطيع السينمائى ، وتداخل الأزمنة ، وعناصر اللون والضوء والموسيقا ، وغيرها من التقنيات التى ربما يفرضها العمل .. لكن اللوحات المنفصلة ، المتصلة ، التى تتشكل منها رباعية بحرى لا تجاوز الرواية الواحدة ، رواية الراوى العليم لا رواية الأصوات المتعددة .
والراوى ـ فى الحكى الذى كتبت به روايتى النظر إلى أسفل ـ لا يتجه إلى القارئ وحده ، لكنه قد يتجه إلى متلق آخر فى داخل العمل ، متلق مشارك ، أو غير مشارك ، فى الحدث القصصى ، لا يراه القارئ وإن تخيله . يتجه إليه الراوى بما يقول ، فهو قارئ مفترض ، متلق اخترعه الكاتب وتصوره القارئ . المتلقى الحقيقى للعمل ، وان اختلف عنه المتلقى داخل العمل فى أنه جزء من العمل بالمشاركة ، أو أنه يتحدد فى إطار السلبية ، لا يسهم فى تجسيد الحدث القصصى ولا نموه . ملامحه ضائعة أو باهتة لأنه غير موجود بالفعل داخل العمل . ولعلى أشير إلى روايتى النظر إلى أسفل فلا أحد على مستوى النقد المتخصص ، أو القراءة العادية تعرف إلى ذلك المتلقى : هل هو صديق لشاكر المغربى ؟ هل هو وكيل النيابة ؟ هل هو محقق الشرطة ؟ هل هو شاكر المغربى نفسه ؟.. صعب القول بتعريف محدد ، لأن المتلقى الذى تتجه إليه الرواية ـ فى داخلها ـ غير مشارك ، فهو غير موجود فعلاً ، وتغيب من ثم ملامحه الجسمية والنفسية .
(يتبع)