التجريب فى القصة الحديثة .. جذوره التراثية
.....................................

المؤلف المصرى ـ فى اجتهاد أستاذنا سيد كريم ـ هو المؤلف الحقيقى لأشهر الروائع القصصية الخالدة التى لا تزال نسخها تباع بالملايين منسوبة إلى غيره ، مثل سندريلا وعلى بابا ومجنون ليلى وشمشون ودليلة والشاطر حسن والسندباد البحرى والكونت دى مونت كريستو ، وغيرها .. ويعترف نوثروب فراى بأن حكاية الأخوين هى مصدر قصة يوسف ـ سماها خرافة ـ عندما حاولت زوجة الأخ الأكبر أن تراود أخاه الأصغر عن نفسه ، فلما رفض إغواءها ، اتهمته عند أخيه بأنه حاول اغتصابها . ويلاحق الأخ أخاه ، وتتنامى الحبكة فى توالى الأحداث المتسمة بالعجائبية . ويضيف ا . ل . رانيلا إن للعرب الفضل فى إبداع الحكايات بوصفها أدباً ، وبهذا ثبّتوا شكل القص الخيالى المصور للحياة .
لقد واجه الشرق اتهاماً بضعف الخيال ، بحيث غاب فن القصة فى التراث العربى . القصة ـ فى تقدير المستشرقين ، وفى تقدير معظم الباحثين العرب أيضاً ـ فن أوروبى مستورد ، يمد جذوره فى الثقافة الأوروبية ، فهو تقليد ومحاكاة للقصة فى الغرب ، وليس له أى جذور فى التراث العربى الذى يعد تراثاً شعرياً فى الدرجة الأولى ، فهو مستحدث فى الإبداع العربى . بل إن محمود تيمور يقرر ـ فى بساطة ـ أنه لم يعد بيننا خلاف ـ كذا ـ على أن الأدب العربى ـ فى عصوره الخالية ـ لم يسهم فى القصة إلاّ بالنزر اليسير الذى لا يسمن ولا يغنى ، فالقصة الفنية إذن دخيلة عليه ، ناشئة فيه ، لا أنساب لها فى الشرق ، ولا استمداد لها من أدب العرب " ( دراسات فى القصة والمسرح ـ 64 ) .
والحق أنه من المكابرة الساذجة تصور القص العربى الحديث بعيداً عن تقنيات الغرب ، لكن من الخطأ البالغ إهمال تقنيات الحكى العربى فى سعينا لتأكيد الهوية القومية لإبداعنا المعاصر . ومن الصعب ـ فى الوقت نفسه ـ أن ندعى غياب الصلة بين الأشكال القصصية التراثية ، والقصة العربية ـ والقصة بعامة ـ فى أحدث معطياتها . ولعلى أذكر بقول جارثيا ماركيث : " من الطبيعى أن يمعنوا ـ يقصد الغرب الأوروبى ـ فى قياسنا بالمعايير ذاتها التى يقيسون بها أنفسهم ، ولكن عندما نصور وفق نماذج لا تمت إلينا بصلة ، فإن ذلك لن يخدم إلا غاية واحدة ، هى أن نغدو مجهولين أكثر ، وأقل جرأة ، وأشد عزلة " ..
وإذا كان التراث العربى ـ فى تقدير المستشرقين ـ يفتقر إلى الخيال ، والنظرة الفلسفية المتكاملة ، والحاسة النقدية ، وغياب الحس والقصصى والدرامى ، إلخ ، فلعله من المهم أن نشير إلى قول رينان بأن أوروبا امتلأت بقصص لا حصر لها قدم بها الصليبيون من الشرق العربى ، إثر عودتهم إلى بلادهم . ويقول ميشيل : " إذا كانت أوروبا مدينة بديانتها المسيحية لتعاليم المسيح ، فإنها مدينة بأدبها القصصى للعرب " . بل إن البارون " كار دى فو " يؤكد أنه ليس هناك أدب سبق الأدب العربى فى ابتداع فن القصة ( محمد مفيد الشوباشى : الأدب ومذاهبه ـ 30 )
إن ضعف الخيال والإسراف فى الخيال اتهامان أملتهما الرغبة فى تحقير الملكات الإبداعية لكتاب الشرق ، وأن الشرق سيظل دوماً فى موقف التابع بالنسبة للمتبوع ، وهو الغرب الأوروبى.
الغريب أن الذين أفادوا من الخيال العربى ، ممثلاً فى ألف ليلة ليلة وحى بن يقظان ورسالة الغفران والحكايات والسير والطرف والأخبار العربية ، ينتمون إلى ثقافات أوروبية ، أو متأثرة بالثقافات الأوروبية . والثابت ـ تاريخياً ـ أن الرومانس ـ الحكايات الشعبية الأوروبية ـ تأثرت فى نشأتها بألف ليلة وليلة ..
ثمة رأى أن الرواية والقصة القصيرة والمسرحية لم يعرفها العرب إلاّ بعد اتصالهم بالأدب الأوروبى . وقد نقل العديد من الدارسين العرب عن المستشرقين ـ وكم تظلمنا النقلية ! ـ ما ذهبوا إليه من أن ما عرفه التراث العربى من الإبداع القصصى والروائى والمسرحى ، لا يعدو مجموعة من الأخبار والطرائف التى تخلو من الحرفية الفنية كما فى الإبداع الغربى . عمق من المشكلة أن المسرحية والقصة والرواية قد اقتصر تناولها على النقد الأوروبى والدراسات الأوروبية . وهو ما يزال قائماً ـ للأسف ـ حتى الآن . ومع أن نجيب محفوظ هو أحد الكتاب العالميين ـ باعتراف نوبل ! ـ فإن كل المراجع النقدية الحديثة ـ قبل نوبل وبعدها ، وحتى الآن ـ تخلو من عمل له ، بل ولا تشير إلى أعماله على أى نحو . إنهم يناقشون إبداعاتهم باعتبارها هى الإبداع الذى ينبغى تناوله . إنها ـ مع التقاط شذرات من هنا وهناك ـ هى الإبداع العالمى إطلاقاً ..
***
فى القرآن الكريم يقص الله ـ سبحانه ـ على رسوله الكريم أحسن القصص . وكان العرب يبدءون حكاياتهم أو طرفهم أو نوادرهم بعبارة : قال الراوى ، يحكى أن ، زعموا أن ، كان ما كان ، إلخ .. وقد أسهمت ألف ليلة وليلة ورسالة الغفران وحى بن يقظان وغيرها ، فى تطور فن القصة ـ والرواية طبعاً ـ فى الغرب . أديب أمريكا اللاتينية ألفريدو كاردنيا بنيا يجد فى ألف ليلة وليلة مخزناً لأكبر عدد من القصص الإسبانية . إنها النبع الثرى المتعدد الروافد للكثير من القصص الواردة فيه ـ على حد تعبير الكاتب ـ فم تترك أى موضوع إلاّ وتطرقت إليه ، بحيث تحولت الكتابات التالية إلى مجرد تقليد ، أو نقل غير مبدع . وتبدو إفادة الثقافة المكتوبة بالأسبانية من الثقافة العربية المعاصرة ـ إبان حكم المسلمين لشبه الجزيرة الأيبرية ـ ظاهرة محيّرة ، مقابلاً لإخفاق الثقافة العربية المعاصرة فى الإفادة من ذلك التراث ، مع أنه يتصل بنحن ، وليس بالآخر . إنها ثقافة تعتمد على الدين الإسلامى والتاريخ العربى واللغة العربية . يغيظنى ـ على سبيل المثال ـ زهو بعض المبدعين بأنهم قد تأثروا بواقعية ماركيث السحرية ، بينما أعلن الكاتب الكولومبى أنه قد تأثر بغرائبية ألف ليلة وليلة !..
يقول محمد فهمى عبد اللطيف : " كان من الطبيعى أن يتميز القاص المصرى فى هذا المجتمع الخصيب ، وأن يكون محصوله فى ذلك وافراً ، ونتاجه وافياً .. فكان أبرز وأوفى من أجدى فى هذه الناحية . وما ألف ليلة وليلة ، وقصة الهلالية ، وقصة الظاهر بيبرس ، وقصة سيف بن ذى يزن ، وغيرها من القصص ، إلاّ من فيض براعة القصاص المصريين ، وقدرتهم على التحليل والإفاضة ، سواء ما ابتدعوه منها ابتداعاً ، أو ما مدّوا فيه بالتزيد والإغراق والاختراع والاختلاق . وإذا كان هؤلاء القصاص قد تناولوا ألف ليلة وليلة نصاً عن الفارسية ، مدّوا فى فروعه ، وأساساً ارتفعوا ببنائه ، فإنهم كذلك فى قصة الهلالية تناولوها عن الأصل التاريخى ، وأخذوها مما جرى فى رحلة أولئك الأغراب إلى مصر ، ثم إلى بلاد إفريقية ، وما وقع لهم من الحروب والأحداث ، وانتقلوا بذلك الأصل التاريخى إلى ميدان الخيال الفسيح " ( أبو زيد الهلالى ص 59 ) .
ما نستطيع الاطمئنان إليه أن القصة العربية لها جذورها الممتدة فى تربة التراث . وهى تختلف ـ بالتأكيد ـ عن تربة الترجمة التى أعطت لإبداعنا ثماراً يصعب التقليل من قيمتها . وإذا كان محمود طاهر لاشين قد أعلن أنه " لا ميراث لقصاصينا فى الأدب العربى " ( المجلة الجديدة ـ يونيو 1931 ) فإن مجرد التنقيب فى التراث العربى الأدبى القديم ، سعياً لاكتشاف شكل فنى يمكن نسبته إلى القصة والرواية ، اتساقاً مع شكل القصة والرواية الغربية .. ذلك التنقيب لم يكن يخلو من نظرة أحادية متعسفة ، فالقصة ـ فى تقدير هؤلاء ، وفى سعيهم لاكتشاف ملامحها فى الأدب العربى القديم ، هى القصة فى الغرب من حيث البنية والحبكة والتكثيف وغيرها . وحين أهملت إبداعات الغرب القصصية والروائية تلك الخصائص ، فإن محاولاتنا الإبداعية ـ والنقدية ـ قد أهملتها كذلك !
***
لقد غابت القصة الموباسانية ـ أو ذوت فى أقل تقدير ـ منذ فترة بعيدة ـ فى الأدب العالمى . وغاب ذلك النوع من القصص فى إبداعنا العربى ـ منذ الخمسينيات ـ على يد اليوسفين إدريس والشارونى وإدوار الخراط ، ثم فى أعمال أدباء الستينيات التى اختلط فيها الوعى باللا وعى وتيارات الشعور . لم يعد الواقع هو تلك الثنائيات المكرورة : التقدم فى مواجهة التخلف ، الخير فى مواجهة الشر ، الغنى فى مواجهة الفقر إلخ .. أصبح الواقع ملتبساً وظنياً ، وقدمت محاولات تنتسب إلى الواقعية السحرية والعجائبية والغرائبية وخارج الواقع وما فوق الواقعى . النص الأدبى ـ فى تقدير تودوروف ـ هو النص الذى يحطم القواعد النوعية ، ولا يمكن أن يتقلص إلى مجرد معادلة ، ومن ثم فلا يمكن وضعه ـ بصورة نهائية ـ فى جنس محدد . ويذهب جوناثان كلر إلى أن الأنواع ليست مجرد فئات للتصنيف ، بل مجموعات من المعايير والتوقعات التى تساعد القارئ فى تحديد وظائف العناصر المختلفة فى العمل الأدبى . وهو رأى يبدو مقنعاً فى عمومه . مع ذلك ، فإنى أرجو ألا نختلف فى أنه توجد خصائص أو سمات يشترك فيها النص الإبداعى مع نصوص إبداعية أخرى ، تختلف عن نوع ذلك النص . فالقصة ـ على سبيل المثال ـ قد تستعين بدرامية الحوار ، أو تلجأ إلى هارمونية الموسيقا ، أو إلى أسلوب التبقيع ، أو الكولاج ، كما فى الفن التشكيلى ، أو تقنيات السينما والمسرح وغيرها . وثمة رأى أن الرواية نوع أدبى يقاوم التقيد بما هو تأملى وفنى خالص ، بحيث تذوب فى المجموع الكلى للتجربة الإنسانية من أفكار وآراء وطموحات وغرائز . لا تفرد مطلقاً فى الجنس الأدبى ، فهو لابد أن يفيد من الأجناس الأدبية الأخرى ويفيدها ، يتأثر بها ويؤثر فيها . وإذا كانت كتابات ما بعد الحداثة تتجاوز الأنواع ، الأجناس الأدبية ، تذيب الفوارق والحدود ، فإن التخلى عن الفروق بين الأنواع ، وظهور صيغة جديدة ، تأتلف وتختلط فيها كل الأجناس ، يعنى التحول إلى نص بلا ملامح ، وبلا هوية محددة [ عندما ظهرت اللا رواية واللا مسرحية ـ فى الستينيات ـ تصور الكثيرون أن الرواية والمسرحية حان أوان موتهما ! ]. القصة قد تفيد من لغة الشعر ، بينما تلجأ السينما إلى الرواية الأدبية ، وتعتمد الرواية على درامية الحوار ، إلخ .. لكن القصة يصعب إلا أن تكون قصة . الأمر نفسه بالنسبة للقصيدة والمسرحية والفيلم وغيرها . وإذا كانت بعض الأعمال الحديثة تطالعنا باعتبارها كتابات أو نصوصاً ، لا تسمية نوعية محددة ، كقصة أو قصيدة أو مسرحية ، فلعلى أومن بمقولة هيثر وابرو التى تؤكد أن معرفة النوع تهبنا مفاتيح عالية القيمة ، فيما يتصل بالكيفية التى نفسر بها قصيدة ..
***
(يتبع)