إن التخلف الذى نرسف فى إساره يجعل من الحداثة ضرورة .. ولكن أى حداثة ؟..
هذا هو السؤال ..
الملاحظ أن البعض من فاقدى الموهبة يلجأون إلى أواخر المذاهب الفنية ، دون أن تشغلهم الظروف الموضوعية التى أثمرت ذلك ، وهى ظروف لها إرهاصاتها وبواعثها ، بحيث تشكل النتيجة التى كان المذهب الفنى محصلة لها . أخشى أن أقول إن العديد من تلك الكتابات يحاول ـ ولو بحسن نية ـ طمس هويتنا ، يبعد بإبداعاتنا عن محاولات التأصيل وتأكيد الانتماء والجذور .
الثابت ـ تاريخياً ـ أن الحداثة الأوروبية ـ عندما ازدهرت فى الأعوام الأولى من القرن العشرين ـ إنما تحقق ذلك عند التقاطع بين نظام حاكم شبه أرستقراطى ، واقتصاد رأسمالى شبه مصنع ، وحركة عالية شبه ناشئة ، أو شبه متمردة . فأين الواقع العربى ـ باختلاف الوقت وتباين الظروف ـ فى هذه الصورة ؟
إن لحظتنا الحضارية تختلف عن اللحظة التى يحياها الغرب . دعك من التعبيرات المخدرة مثل القول إن العالم قرية صغيرة .. فثمة مجتمعات منتجة ، وأخرى مستهلكة ، وثمة من يعانى مشكلات الترف والديمقراطية والحرية ، ومن يعانى مشكلات الفقر وحق الإنسان فى المقومات الدنيا للحياة ..
أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون هدف جميل ، لكن اللحظة الحضارية أشبه بنظرية الأوانى المستطرقة ، والفن ينبغى أن يعبر عن المجتمع الذى صدر عنه ، وليس عن مجتمعات الآخرين . لا أتصور أن العمل الإبداعى يمكن مناقشته بعيداً عن بيئته ، عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية التى صدر عنها ، ونشأ فيها ..
ولا شك أن الحداثة الغربية تنطلق من قلب تراث حضارى وتاريخى وفلسفى وإبداعى ، له خصوصيته المؤكدة . إنها نتاج واقع مغاير للواقع الذى يجدر بالحداثة العربية أن تنطلق منه . وعلى سبيل المثال ، فإن البنيويين ، يفرضون على النصوص الإبداعية " نظاماً ليس نابعاً منها ، ولا كامناً فيها ، بل هو سابق ومسقط عليها ، وأنه يحتمى بالتجريد والغموض لعجزه عن السيطرة على المادة " ( فصول ـ فبراير 1991 ) . حتى المفاهيم والمصطلحات التى تطالعنا فى كتابات الحداثة العربية ، تنتسب إلى ثقافة أخرى ، مغايرة ، وهو ما يفضى ـ بالضرورة ـ إلى حدوث انفصام بين المبدع والنص الذى يقرأه ..
ومع أن المناخ الثقافى فى كل من أمريكا وأوروبا أقرب منه إلى المناخ الثقافى بين كل منهما ، وبين الوطن العربى ، فإن الأمريكية إديث كروزويل ذهبت إلى أنه من الصعب على البنيوية أن تجد فى أمريكا نفس الاستجابة التى لقيتها فى فرنسا ، وذلك لاختلاف النظرة إلى التاريخ ، وإلى المستقبل . وفى المقابل ، فقد وجدت التفكيكية فى الثقافة الأمريكية تربة صالحة لاقترابها من المزاج النفسى الأمريكى أكثر من اقترابها من المزاج النفسى الفرنسى ..
نحن نلجأ ـ فى خطابنا الأدبى ـ ربما دون تبصر ـ إلى المفردات والتعبيرات المستوردة . لا نحاول التعبير بما يعكس خصوصية لغتنا وثقافتنا وفكرنا . إن المذاهب الأدبية والنقدية الأوروبية هى إفراز لإبداع الغرب . ولعلنا فى حاجة إلى الحداثة التى تجاوز التخلف ، وتسعى إلى الإضافة والتطوير والتقدم فى كل الآفاق ، وهى حداثة يجب أن تصدر عن ظروفنا ، تنبع منها . لا تحاكى ، ولا تقلد ، ولا تقتات على موائد الآخرين ، ولا تعبر عن واقع ليس هو الواقع الذى نحياه ..
ولعلى أزعم أن أعمالى التى توظف التراث قد تنتسب إلى ما بعد الحداثة من حيث إن ما بعد الحداثة تسعى " عن وعى إلى إعادة طرح صور من الماضى ، باعتباره كياناً مبهماً ، لا يمكننا التعرف عليه يقيناً ، ولا نملك إلاّ أن نعيد بناءه المرة تلو الأخرى من خلال الجدل المستمر بين العديد من الصور المعاصرة التى تحيل إليه ، وتسعى إلى تجسيده ، باعتباره فكرة مجردة " ( ما بعد الحداثية والفنون الأدائية ـ 26 ، 27 )
***
أعرف أن مدّعى الحداثة العرب يوجهون الاتهام إلى كل من يختلف معهم بالجهل والتخلف ، لكن الاستيراد قد يصح فيما يصعب على قدراتنا أن تنتجه ـ التكنولوجيا مثلاً ـ فى حين أنه من غير المتصور أن نستورد الفكر والإبداع أيضاً . الأدب تعبير عن خصوصية فى التاريخ ، وأنماط التفكير ، واللحظة المعاشة ، بالإضافة إلى أن متلقى الأدب ـ فى الدرجة الأولى ـ هو الوجدان ..
إن البنيوية والتفكيكية وغيرها من معطيات الحداثة ، ليست إلاّ مرحلة أخيرة ـ وليست نهائية ـ للفكر الفلسفى فى الغرب ، متداخلاً مع الإبداع الذى يحاول أن يعبر عن فلسفة حياة . إنها نتاج للحداثة الغربية بكل ما تنطوى عليه من ظروف وملابسات . فإذا تم نقلها إلى العربية فى عزلة عن تلك الظروف ، افتقدت شرعية الأبوة والبنوة ، وعانت غياب النسب !
المؤكد أن عمقى الحضارى يمتد بضع آلاف من السنين ، بينما العمق الحضارى للغرب يمتد بضع مئات من السنين ، مما يفرض مغايرة حادة ، والتأكيد على عدم النقل عن الحداثة الغربية ، يعنى ـ ببساطة ـ إنشاء حداثة عربية ، وهو ما لم يتبد ـ حتى الآن ـ فى الأفق القريب ، أو البعيد ..
ثمة بعد آخر : إذا كان من حق الفنان الموهوب أن يستشرف فى إبداعه أفقاً أوسع ، فإن من واجب الذين يعانون غياب المعرفة والموهبة ألا يحاولوا القفز دون أن تسعفهم قدراتهم ، والبديهى أن طالب الفن التشكيلى يبدأ بدراسة التشريح قبل أن يدرس الكلاسيكية وينتهى بالتجريبية والسوريالية وغيرها من المذاهب الحديثة ..
والحق أنى أنظر إلى العمل الإبداعى من وجهة نظر تناقش وتحلل وتفيد من القراءات والخبرات والآراء ، فلا تأخذ إلاّ بما ترى أنه أقرب إلى فهمى وتفهمى ، وإلى صلتى بالعملية الإبداعية ..
أصارحك بأنى أقف ـ فى الأغلب ـ موقف المتحير أمام الخطوط المتوازية والمتقاطعة والمائلة ، والزوايا الحادة والمنفرجة ، والدوائر ، والمستطيلات ، والمثلثات ، والمعادلات الجبرية ، والشفرات ، والطلاسم . وتشتد بى الحيرة حين تتقابل " القطيعة المعرفية " بعدم معاداة التقاليد بمعناها الإيجابى ، وإنما إقامة علاقة حوارية معها . وهو قول الحداثيين أيضاً . بل إنى حاولت أن أفيد من إضاءة النقد البنيوى لما قرأته وقرأه نقاد البنيوية من أعمال إبداعية ، فدفعنى شحوب الإضاءة إلى الاكتفاء باجتهاد شخصى ، يستند ـ فى كل الأحوال ـ إلى قراءات وخبرات ، ومتابعة للمدارس والمذاهب الأدبية والنقدية . أفادتنى ـ بلا جدال ـ فى تأليف كتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " الذى نلت به ـ ولست ناقداً ـ جائزة الدولة فى النقد !..
إن نقاد الحداثة يسعون إلى " تأصيل دراسات تحاول تطوير منهج علمى فى النقد ، يبتعد عن الانطباعية التى تغرق الدراسات النقدية على وجه العموم " ..
كلام جميل كما ترى ، وينشده الحداثيون وغير الحداثيين . ينشده من يجد فى النقد محاولة لإضاءة النص ، وليس التعتيم عليه ، لتحليله ، وليس الربط بين الغلاف ونوعية الخطوط والأبناط ، واعتبارها جزءاً مكملاً للعمل الإبداعى ، فى حين أنها رميات بغير رام . إنها تخضع للاجتهاد الشخصى الذى لا صلة له بالنص ، سواء من الفنان التشكيلى الذى يصمم الغلاف ، أو فنّى الكومبيوتر الذى تختلف نظرته إلى العمل ـ بالتأكيد ـ عن نظرة المبدع .
أعجب الأمور عندما يحاول الناقد أن يستنطق الإبداع بما ليس فيه . إن التعبير عن فلسفة الحياة هم للمبدع ، مثلما أن البحث عن فلسفة الحياة هم للناقد ..
المذاهب الفنية ليست موضة ، لكنها تعبير عن موهبة ومعرفة وفلسفة حياة . إن الوجه العربى من الحداثة يجب أن تكون له ملامحه المميزة . وكما أن المواطن الأوروبى له ملامحه التى تختلف ـ بدرجة وبأخرى ـ عن ملامح المواطن العربى ، فإن هذا الاختلاف قائم أيضاً ـ بدرجة وبأخرى ـ فى القيم والمثل والعادات والتقاليد ، والثقافة فى إطلاقها . ولعلى غير مغرم بالتسميات : الحداثة ، وما بعد الحداثة ، وما يتصل بهما من تسميات البنيوية والتفكيكية والأسلوبية وغيرها . أميل إلى التجريب بعامة . أرفض المحاكاة أو التقليد ، وأحاول الخصوصية . الحداثة العربية كما يصفها إلياس خورى ـ الأدق أن هذا هو ما يأمله ـ " محاولة عربية داخل مبنى ثقافى له خصوصياته التاريخية ، ويعيش مشكلات نهضته " ، فالحداثة العربية إذن حداثة نهضوية . إنها محاولة بحث عن شرعية المستقبل ( الذاكرة المفقودة ص 25 )
***
من السذاجة نقل المصطلحات النقدية الجديدة ، والتعامل بها ، فى عزلة عن خلفيتها الثقافية ، عن التطورات السياسية والفلسفية والاجتماعية التى انبثقت منها ، ونشأت فيها . وإذا لم يكن بوسع الحركة النقدية ـ لاعتبارات ليس هذا مجالها ـ أن تشكل نظرية نقدية عربية ، فإن ما نتطلع إليه فى المدى القريب ، أن تقدم اجتهادات نقدية عربية ، تجعل الإبداعات العربية ـ فى إطار الظروف العربية ـ محوراً لها . وبتعبير محدد ، فإننا فى حاجة إلى اجتهادات نقدية ، تصدر عن أعمالنا الإبداعية ، فهى اجتهادات عربية فى الدرجة الأولى .
........
1999