لقد بدأ بلزاك حياته الأدبية شاعراً ، ثم انتقل إلى كتابة الرواية . الأمر نفسه بالنسبة لهمنجواى وفوكنر وعشرات غيرهم . وظل فيكتور هوجو ـ إلى نهاية حياته ـ يزاوج بين الشعر والرواية .. وكان وليم بليك شاعراً ورساماً . وكان اليوت شاعراً وناقداً . ويذهب بول فاليرى إلى أن كل كتابة أدبية هى كتابة شعرية ..
أذكر أنى حاولت الشعر فى البداية ، وتأثرت بشعراء أبوللو . فلما أدركت أن القصيدة يصعب أن تكون لغتى التعبيرية ، تبدّت لغة الشعر فى أعمالى الروائية والقصصية ، وهو الأمر الذى يعد ملاحظة أساسية فى التناول النقدى لأعمالى . تهمنى اللغة فيما أكتب . الكلمة المناسبة فى موضعها ، الكلمة الفلوبيرية ـ على حد تعبير بورخيس ـ التى تحسن التعبير عن الفوضى الدنيوية الغامضة ، أو عن الرؤيا اللحظية الكاشفة . لا تهمنى الألفاظ الضخمة أو المهجورة أو القديمة ، ولكن تشغلنى موسيقا الحرف والكلمة والجملة ، أحذف وأضيف وأعدّل بما يحقق الاتساق والهمس الشعرى والإيحاء ذى الدلالة . . وثمة بعض النقاد يطالب القارئ أن يتمرس على تذوق الشعر حتى يمكنه قراءة الرواية الأقرب إلى صورة ذات تركيب شعرى ..
أوافق أدونيس ـ واختلافاتى معه كثيرة ـ فى أنه يمكن للقصيدة أن تفيد من الرواية كثيراً ، والرواية تفيد من الشعر كثيراً ، وبهذا المعنى تتداخل الأنواع ، لكن تظل الرواية رواية ، والقصيدة قصيدة " ( الأربعاء الأسبوعى 21/10/1987 ) . ذلك لأن الموضوع الذى يصلح فى الرواية ، قد لا يصلح ـ أو أنه لا يصلح ـ فى القصة القصيرة ، والعكس صحيح . وإلاّ فلا معنى لاختيار الفنان هذا الجنس الأدبى أو ذاك .
يقول هوجو لايختنتربت : " الحضارة فى أى عصر من العصور تعتمد على الحياة الاجتماعية والتاريخ السياسى والأحوال الجغرافية ، إلى جانب اعتمادها على لغة البلد ، ومن ثم فهناك صلة ضرورية بين الموسيقا وبين هذه الموضوعات كافة ، وفضلاً عن ذلك فإن الموسيقا تستند إلى أساس علمى يتضمن الطبيعة والرياضة . كما أن بينها وبين كل من الأدب وسائر الفنون روابط وثيقة إلى حد ما . ولقد تأثرت الموسيقا بالشعر وفن العمارة والنحت والتصوير والرقص والتمثيل والفنون الآلية ، إلى جانب تأثيرها فى هذه الفنون بدورها " ( ت . أحمد حمدى محمود ) . وكما يقول نيتشة فإن العمارة موسيقا تجمدت .
ثمة علاقة منطقية بين الشعر والموسيقا ترتكز إلى العوامل التى تجمع بين هذين الفنين . والقول بموسيقا الشعر يعنى أهمية الموسيقا بالنسبة للشعر . إن الشعر لا يصبح شعراً بدون موسيقا . ويرى جاتشيف أن الموسيقا هى أقرب الفنون إلى الأدب ، وإن تباينا فى طريقة التعبير عن الإيقاع العام للوجود ، وللعالم الداخلى للإنسان ( ت نوفل نيوف ) . أما السينما ، فإن لنا أن نتصور فيلما خالياً من الموسيقا . الموسيقا ـ كما نعرف ـ بعد مهم فى الفيلم السينمائى ، وهى كذلك بعد مهم فى المسرحية ، وكلاهما يضم القصة والديكور والأزياء والشعر ، وبالذات المسرحية الشعرية ..
ويرى البعض فى القصة اقتراباً من الشعر الغنائى . يؤكده ـ كما يقول أوكونور ـ الوعى الحاد بالتفرد الإنسانى . أما الموسيقا والرواية ، فإنهما ـ كما يقول ميشيل بوتور : " فنان يوضح أحدهما الآخر . ولابد لنا فى نقد الواحد منهما من الاستعانة بألفاظ تختص الثانى ، وما كان حتى الآن بدائياً ، عليه ـ بكل بساطة ـ أن يصبح قياسياً . وهكذا يجدر بالموسيقيين أن يكبّوا على مطالعة الروايات . كما يجدر بالروائيين أن يكونوا مطلعين على بعض المفاهيم الموسيقية " (ت فريد أنطونيوس ) . ويذهب الفيلسوف الألمانى ليسنج إلى أن الرواية والموسيقا تشتركان فى الطبيعة الزمنية التى تميزهما على بقية الفنون ذات الامتداد الفضائى . الرواية هى فن الزمن ، والموسيقا كذلك ( عبد الملك مرتاض : فى نظرية الرواية ص 199 )
لا يخلو من دلالة قول بابلو بيكاسو : " إذا أردت تعلم التكوين فى الرسم ، فإن عليك بدراسة مسرح مايرهولد ، لا يستوقفنى الفنان الذى تدرس مسرحياته ، بقدر ما يبدو مطلوباً تفاعل الفن التشكيلى والمسرح . يغيظنى ذلك الذى يحاول التجريب فى القصة القصيرة ـ مثلاً ـ ويرفضه فى الفن التشكيلى . يكتب أعمالاً يؤطرها النقد فى السوريالية ، بينما يعجز عن قراءة إبداعات تشكيلية مماثلة . الفن التشكيلى يلتحم بالفنون الأخرى ، من خلال التكوين والإطار والأبعاد والأضواء والظلال . واتساقاً مع قول سرفانتس : الرسام والأديب هما سواء ، فإن أرنولد بينيت يذهب إلى أن " التشابه بين فن الرسام وفن الروائى تشابه تام ، فمصدر الوحى فيهما واحد ، وعملية الإبداع فى كل منهما هى نفس العملية ـ مع اختلاف الوسائل ـ ونجاحهما أيضاً واحد ، وبوسعهما أن يتعلما كل من الآخر ، وبوسعهما أن يشرحا ويساندا كل الآخر ، فقضيتهما واحدة ، ومجد الواحد هو مجد الآخر " ( نظرية الرواية ـ 72 ) . أذكرك برواية " ممر ميلانو لميشيل بوتور التى تشبه فى تكوينها لوحات بول كيلى المسماة " تكوين " ، فهى تعرض للحياة فى احدى عمارات باريس أثناء فترة محددة ومحدودة من الزمن . ثمة علاقات متشابكة بين كل شقة والأخرى فى العمارة بقطع صغيرة ، تتحرك على لوحة شطرنج .
لقد نشأت الرواية من الدراما ، ومن ثم فهى تشتمل على بعض المكونات المسرحية . وتؤكد آراء نقدية عمق الصلة بين القصة القصيرة والمسرحية . لقد تنبأت الرواية ـ والقول لكونديرا ـ بفن السينما ، وتمثلته مسبقاً ( الطفل المنبوذ ـ ص 125 ) . السينما هى رواية بالصور ، حتى أن السؤال يثار : ما أساس الفيلم السينمائى : هل هو صور لرواية ، أم رواية لصور ؟. إذا كان رأى جان كوكتو أن " الفيلم هو كتابة بالصور " فإن السينما هى الأداة الشعبية ـ أو الجمعية فى تعبير آخر ـ لتقديم الفنون فى وحدتها . فقد أفادت السينما من المدارس الفنية التشكيلية المختلفة مثل التأثيرية والتعبيرية والتجريدية والسوريالية . كما أفادت الرواية من تقنية المدركات الحسية والبصرية : المونتاج ، التبئير ، الزاوية القريبة ، التناوب ، الاسترجاع . وتبادلت الرواية والسينما بعامة التأثر والتأثير . لقد أوجد كاتب السيناريو والروائى ـ فى زمن متقارب ـ طريقة الفلاش باك ـ ارتدادات زمنية إلى الماضى فى ذهن الشخصية ـ وكان ذلك نتيجة مباشرة للتأثير المتبادل بين المبدعين . كما أفاد الروائيون وكتاب القصة من القص واللصق والمزج والتقطيع ، وغيرها من فنيات المونتاج . من المبدعين الذين طبقوا ـ فى السرد الروائى ـ تقنيات السرد المرئى ، وإفادته من السرد السينمائى : نجيب محفوظ وفوكنر وهمنجواى ودوس باسوس وشتاينبك وفوينتس وماركيث وغيرهم . تبين إفادة نجيب محفوظ من تقنيات السيناريو ، منذ لاحظ صلاح أبو سيف حسه الدرامى المتفوق ، فلم يجد عناء فى تدريس السيناريو لمحفوظ ، بحيث أقبل ـ فى ما يشبه التفرغ ، على مدى خمس سنوات ـ حتى من الكتابة الروائية التى نذر لها موهبته الإبداعية ، وزواج جارثيا ماركيث بين الكتابة الروائية والسيناريو السينمائى . الأمر نفسه بالنسبة لكتاب آخرين . وقد أفدت ـ شخصياً ـ من دراسة السيناريو على أيدى أساتذته الكبار : صلاح أبو سيف وعلى الزرقانى وصلاح عز الدين وغيرهم . تبينت إمكانية ـ بل حتمية ـ تلاقح السرد القصصى وتقنية السيناريو من تقطيع واسترجاع إلخ .
ثمة آراء أن السينما فى منتصف الطريق بين الرسم والموسيقا ، والسينما ـ فى بعض الاجتهادات ـ ثمرة زواج شرعى بين الرسم والمسرح ، وقد أخذت عنهما أهم خصائصهما . أما العلاقة بين السينما والتشكيل فإننا نشير إلى قول مارسيل مارتن : " إنه فى وسعنا أن نزعم أن التاريخ الجمالى للسينما هو خلاصة مركزة من التاريخ الجمالى للرسم " . وعموماً ، فقد " ترك كل فرع من فروع الفنون التقليدية بصماته على الفيلم . كما أسهم فى تحديد قواعد تكوينه . فإلى جانب الرسم التقليدى ، هناك الرسم السينمائى على الشاشة . وإلى جانب الأدب المكتوب هناك الأدب المرئى والمسموع . وإلى جانب العرض المسرحى ، هناك العرض على الشاشة . وأخيراً ، إلى جانب الموسيقا التقليدية هناك موسيقا تحكم تركيب العمل السينمائى " ( عالم الفكر ـ المجلد السابع ـ العدد الثانى ) .
وبالطبع ، فإن العمل الإبداعى يضع قوانينه ، فلا تأتى بالضرورة من خارجه ، لا تقحم عليه ، أو تنبو عن سياقه . وعلى حد تعبير إليوت فإن القانون الأدبى الذى جذب اهتمام أرسطو لم يكن قانوناً وضعه هو ، بل قانوناً اكتشفه . لكن القصة والقصيدة والرواية والمسرحية إلخ .. من خلال التراث الهائل لكل منها ، يظل لها مواصفاتها الخاصة ، شكلها الفنى الخاص . ولعلى أصارحك أمام قول البعض وهو يدفع إليك بأوراقه : هذا نص ! . أنى أعتبر هذه الأوراق مجرد محاولة ، نثرية أو شعرية ، حتى أتبين مدى اقترابها ، أو ابتعادها ، عن هذا الجنس الأدبى أو ذاك . لا أغفل إمكانية توقعى للعمل المتميز ، العبقرى ، الذى قد يفاجئنى بجنس إبداعى لم يكن موجوداً من قبل ، لكن هذا العمل لابد أن يحمل قوانين أخرى ، خاصة ، ومغايرة ..
إن تقييم العمل الفنى ، التمييز بين الفن واللافن ، الجيد والردئ ، لا يصدر عن مجرد الذوق الشخصى ، لكنه لابد أن يخضع لمواضعات ، لمواصفات ، توجد فى العمل الفنى ، أو تغيب عنه . بمعنى أنه لابد للمبدع أن يكون على اتصال بتراث العالم ـ وليس تراث لغته فقط ـ من الإبداع ، وأن يكون على صلة بتراث العالم النقدى ، بالإضافة إلى اتصاله بالثقافة العالمية فى إطلاقها ..
طبيعى أن العمل الفنى يحتاج إلى تلقائية مساوية للتلقائية التى يريد الفنان أن تكون عليها صورة عمله ، بحيث يحدث تأثيراً وجدانياً ، هو المطلوب ـ ابتداء ـ ليسهل على القارئ متابعة العمل ، والتفاعل معه ، والتأثر به ، وإحداث الهزة ـ أو التغير ـ فى وجهة نظره للحياة من حوله . بداية لحظة الكتابة عندى فى الإمساك بتلابيب اللحظة . أبدأ الجملة الأولى ، السطر الأول ، الفقرة الأولى ، فأجاوز العالم الذى تصورته ، ودخلت عالماً آخر ، هو عالم العمل الإبداعى : أحداث وشخصيات وملامح وتفصيلات وجزئيات ومنمنمات تتخلق من داخل العمل . تفرض نفسها عليه . لا شأن لها بتصوراتى المسبقة . فى تقديرى أنه إذا أراد الفنان لروايته أن تكون فناً حقيقياً ، فإن عليه أن يوجه تأثيرها إلى مزاج القارئ ، بإضفاء صورة الحياة الحقيقية على الأحداث . تلك هى الوسيلة التى تحرص الفنون الأخرى ـ مثل الموسيقا والتصوير ـ أن توجه لها تأثيرها . أما الإسراف فى " الصنعة " ، وإقحام بعض المستحدثات التكنيكية لغير سبب ، والإلحاح على صورة العمل الفنى بزوائد الظلال والتفاصيل ، فإن ذلك كله يصنع للرواية قبراً جميلاً ، تنعم فيه بالموت من قبل أن ترى الحياة . أستعير من هنرى جيمس تأكيده بأن الرواية شئ واحد متماسك ، كطبيعة الكائنات الحية ، وبقدر تماسك أجزائها ، واتصال كل جزء ـ عضوياً ـ بالأجزاء الأخرى ، تحصل الرواية على ما يريده لها الفنان من حياة . وبديهى أن الفنان لا يكتب محاولاته لتزجية الفراغ ، أو لحفظها فى الأدراج ، ذلك لأن العمل الفنى هو وسيلة الفنان للتخاطب مع مجتمعه ، وهذا المجتمع ـ بالطبع ـ لا يتشكل من ثقافة واحدة ، أو درجات متساوية من الوعى ، أو ذوق فنى عام موحد . المجتمع ـ أى مجتمع ـ يتكون من أفراد ، لكل منهم حصيلته المعرفية ، ووعيه وانتماؤه الفكرى والطبقى ، بحيث يصبح من السذاجة تصور أن فناناً ما يصل إليهم جميعاً فى محاولاته . لذلك فإن الحرص الأهم للفنان هو أن يكون مخلصاً فى التعامل مع فنه ، ومع نفسه ، لتجد محاولاته جمهورها الذى قد تضيق قاعدته أو تتسع ، لكن هذا الجمهور هو بعض شرائح المجتمع الذى يخاطبه الفنان فى محاولاته . وبتوالى الأعمال ، وتعددها ، فى المقولة والتكنيك ، فإن اتساع قاعدة المتلقين سيصبح أمراً شبه مؤكد ، فضلاً عن قيام الاحتمال بانضمام شرائح أخرى من المجتمع . باختصار ، فإن الرواية الجديدة ليست مودة تختفى بقدوم مودات أخرى . إنها نظرية واضحة ، متكاملة الأبعاد ، قد تطور نفسها ، وقد تستغنى عن بعض المقومات ، وتضيف مقومات أخرى . لكن المقومات الأساسية تظل فى صلة الرواية العضوية بالفنون الأخرى ، والإفادة المتبادلة بينها وبين تلك الفنون [ الرواية الجديدة هى التسمية التى تطلق ـ الآن ـ على التوجهات الطليعية فى المشهد القصصى الأمريكى اللاتينى ] . وإذا كان من البديهى أن تكون للعمل الفنى مقولته ، أو دلالته ـ راجع البداية ـ فإن هذه المقولة / الدلالة يجب أن تبين عن نفسها فى ثنايا العمل الفنى ، وليس من خلال الافتعال والمباشرة . الإيحاء ـ لا التقريرية ـ هو قوام العمل الفنى . وإذا أفصح الغرض عن نفسه ، فقد العمل الفنى صفته ، واستحال منشوراً دعائياً . وكما يقول نور ثروب فتراى فإنه لا يوجد فى الإبداع خطاب مباشر ، ذلك لأن الأمر ليس ماذا نقول ، بل كيف نقول . مع ذلك ، فإن الزيف ما يلبث أن يتكشف ـ ربما للقارئ العادى ـ إن كان الهدف من التجديد مداراة نقص أو قصور فى بعض أدوات الفنان . وعلى سبيل المثال ، فإن بعض الأدباء قد يلجأ إلى اللغة البرقية السريعة ، لا لضرورة يتطلبها العمل الفنى ، أو الرغبة فى التجديد ، وإنما لقصور فى ملكات الفنان الأسلوبية واللغوية . وقد يستغنى الأديب بالحوار عن السرد للسبب نفسه ، وإن غلف محاولاته بدعوى التجديد . أذكر فيلماً أمريكياً شاهدته منذ سنوات بعيدة ، عن فنانين يعيشان فى شقة واحدة ، أحدهما موهوب ، والثانى يحاول استكمال موهبته ودعا الثانى أحد أصحاب المعارض لشراء بعض لوحاته ، فلم يجد الرجل فيها ما يستحق الشراء . وقبل أن ينصرف ، لمح لوحة تجريدية مستندة إلى الجدار فى أقصى الحجرة . وعرض شراءها حالاً . كانت اللوحة للفنان الأول . وكان الفنان ذو الموهبة الناقصة يميل إلى التقليدية فى لوحاته ، فادعى اللوحة لنفسه ، ثم راح يدلق كميات من الألوان الزيتية على مساحات من القماش ، قدمها لصاحب المعرض على أنها لوحات تجريدية ، فرفضها الرجل بالطبع ، وأتيح للفنان " الحقيقى " ـ ختاماً ـ أن يحصل على فرصته . أما ذلك الذى كان يحاول تبين هويته ، فقد ظل يحاول . إن الموهبة المتكاملة التى تسيطر على أدواتها جيداً ، هى الأرضية التى ينشأ العمل الفنى ـ بدونها ـ فى فراغ .. فهل يمكن لبناء أن يقوم على فراغ ؟

ـ 5 ـ
يقول بولان " يعرف كل امرئ أن فى عصرنا نوعين من الأدب : الأدب الغث الذى هو حقاً غير جدير بالقراءة ، وهو المقروء غالباً ، ثم الأدب الجيد الذى لا يقرأ " ..
وكانت المعادلة الصعبة التى طرحت نفسها فى البداية ، هى أن أكتب ما أطمئن إليه ، وأن يطمئن القارئ إلى قيمة ما أكتب . وبالتحديد ، فقد كنت أحب أن أضع القصة فى الإطار الذى أتصوره ـ فى عصرنا ـ مناسباً لها ، وليس فى الإطار السلفية الثابتة . ولم يكن التجديد لمجرد التجديد هو هدفى فى الحقيقة ، بقدر ما كان يصدر عن نظرة يقينية أن دائرة الفنون الخلاقة مكتملة ، وأن الأسلوب الذى يعالج به الفنان لوحة ، ربما يفيد منه كاتب القصة القصيرة . والوسائل التكنيكية التى يلجأ إليها كاتب السيناريو السينمائى قد تحقق التأثير ذاته فى رؤية أدبية ، والهارمونى الذى يحرص عليه المؤلف الموسيقى هو ما يحقق للقصيدة الشعرية وحدتها العضوية . ولفرجينيا وولف مقولة شهيرة " فى ديسمبر 1910 ، أو حوالى هذا التاريخ ، تغيرت الطبيعة الإنسانية " . وكانت فرجينيا وولف تقصد بتغير الطبيعة الإنسانية ، تغير المعرفة بالطبيعة الإنسانية . أما التاريخ الذى كان بداية لذلك التغير ، فهو تاريخ إقامة معرض للرسامين بعد الانطباعيين فى لندن ، عرضت فيه أعمال لسيزان وفان جوخ وماتيس وبيكاسو ، كانت تمثل ثورة على المدرسة الانطباعية فى الفن التشكيلى ، والتى تقف فى موازاة المدرسة الطبيعية فى الرواية [ حددت فرجينيا وولف تاريخ الثورة على المدرسة الانطباعية فى الفن التشكيلى ، والطبيعية فى الرواية ، بأنه ديسمبر 1910 . مع ذلك ، فإن محاولات نجيب محفوظ ـ فى الأربعينيات من القرن العشرين ـ جاءت أشبه بثورة فى دنيا الرواية العربية ! ] . بلغ يقينى بصلة الفنون بعضها ببعض ، وضرورة تأثر كل فن بالفنون الأخرى ، أنى رفضت " قد " فى رأى سارتر بأن الفنون فى عصر واحد قد تتبادل التأثير فيما بينها . ذلك لأنى كنت أومن ـ ومازلت ـ بضرورة ـ إن لم يكن بحتمية ذلك التأثر والتأثير الذى تتبادله فنون العصر الواحد . وطبيعى أن الرفض ينسحب على قول ميشيل بوتور بأن الرواية جديدة انتهت " ومهمتها كانت إزالة الحواجز بين الفنون " . إنه رأى متناقض وغير منسجم ، لأن إزالة الحواجز بين الفنون ليست عملاً طارئاً ، ولا وقتياً ، ولا تعبيراً عن مودة موسمية . إن الأدب ـ على نحو ما ـ محور لبقية الفنون . نقطة جذب واتصال . إيقاع المفردات والتعبيرات يتسلل إلى الأذن ، فيحمل طبيعة الموسيقا ، ويطالع العين ، فيحمل طبيعة الفن التشكيلى . وقد استطاعت الرواية ـ عندما لجأت إلى فنيات الإبداعات الأخرى ، مثل السينما والمسرح والموسيقا وغيرها ـ أن تغادر عنق الزجاجة ، تجاوز الاستاتيكية إلى ديناميكية متجددة ، تستوعب الإبداعات الأخرى ، وتسيطر ـ وربما تفوقت ـ عليها . وبالطبع ، فإن فنية العمل هى التى تفرض اللغة ، وأسلوب التناول ، وإن كنت أحاول أن أفيد من لغة الشعر . ثمة روائى يقبل على روايته بروح " السيناريست " ، كأن يضع فى تصوره حركة مجسدة ، تسترسل ، أو تتصاعد ، أو تمضى إلى الأمام وإلى الوراء ، تماماً كالمونتاج السينمائى [ أذكرك بقصيدة إليوت الأرض الخراب التى تأثرت بالمونتاج السينمائى فى بداياته ] والسيناريو الأقرب إلى الاكتمال هو السيناريو الذى يقترب من الرواية الجيدة . لكن تميز الرواية فى مساحتها العريضة التى يصعب على أى فيلم ـ مهما يستغرق من وقت ـ أن يغطيها . والقصيدة المكتملة هى التى يتشكل بناؤها فى قالب قصصى .
والواقع أنى لم أتعمد طريقة الفلاش باك فى الأسوار . لكن الجلسة التى تشابه عشاء المسيح الأخير مع حوارييه ، كان لابد لها أن تعود إلى نقطة البداية . ولم تكن ـ فى الحقيقة ـ نقطة واحدة ، وإنما كانت عشرات النقاط ، البدايات ، التى يتشكل من مجموعها واتصالها واستمراريتها سدى الأسوار كرواية ..
الرواية هى أشد الأجناس الأدبية قدرة على احتواء بقية الأجناس من قصة وشعر وحوار درامى ، وهى الأشد قدرة على استيعاب الفنون الأخرى من مسرح وسينما وموسيقا وفن تشكيلى إلخ . بل إنها الأشد قدرة على احتواء الموروث الشعبى والأسطورة والاجتهاد الفلسفى والمشكلة الاجتماعية والواقعة التاريخية والتحليل النفسى ، بحيث تتشكل من ذلك كله ـ أو بعضه ـ ضفيرة العمل الروائى . أخيراً ، فإن الرواية هى الأشد قدرة على احتواء الإنسانيات فى إطلاقها ، واستيعابها لصالح بنائها المضمونى والشكلى ، بما يجعل من الرواية فناً يعنى بالتواصل والمعرفة معاً . إن تعبير الرواية الجديدة يستفز التأمل ، ذلك لأنه سوف تولد دائماً رواية جديدة . إلى جانب أن الرواية الجديدة لا تعنى اتجاهاً محدداً لكل الأدباء . فاتجاه ميشيل بوتور ـ مثلاً ـ يختلف عن اتجاه ناتالى ساروت وألان روب جرييه ، واتجاه جرييه يختلف عن اتجاه ساروت وبوتور إلخ . ولعلى أوافق جرييه على قوله بأن تعبير الرواية الجديدة ليس دلالة على مدرسة " بل ولا جماعة معينة من كتاب يعملون بطريقة واحدة ، وإنما هى تسمية مناسبة تشمل كل من يبحثون عن أشكال جديدة للرواية ، قادرة على التعبير عن علاقات جديدة ، أو على خلق هذه العلاقات بين الإنسان والعالم . كل أولئك الذين عقدوا العزم على اختراع الإنسان . هؤلاء يعلمون أن التكرار المنظم للأشكال الفنية التى تنتمى إلى الماضى ، ليس أمراً غير معقول ، وغير مفيد ، فحسب ، بل إنه قد يصبح ضاراً إذ يغلق عيوننا عن موقفنا الحقيقى فى عالم الحاضر ، فيمنعنا آخر الأمر من بناء عالم الغد ، وإنسان الغد .
كانت الرواية جديدة دائماً ، وينبغى أن تظل كذلك . حقق جدة الرواية ـ كل فى زمانه ـ جوجول وبلزاك وتورجنيف وفلوبير وزولا وديكنز وديستويفسكى وبروست وفرجينيا وولف وكافكا وجويس وهمنجواى ومحفوظ وعشرات غيرهم ..
ـ 6 ـ
فى العاشر من ديسمبر 1973 قرأت إعلاناً للهيئة المصرية العامة للكتاب ، عن صدور أول مطبوعات " روايات مختارة " روايتى الأسوار ..
غمرنى شعور عميق بالارتياح .
..........................................
1975 ـ نشر فى كتاب " محمد جبريل وعالمه القصصى " ـ 1984