ـ 4 ـ
قد يبدو رأى لابروبير " كل شئ قد قيل ، وقد أتينا بعد فوات الأوان " .. قد يبدو هذا الرأى بليغاً ، لكنه ـ فى تقديرى ـ يكتفى برؤية نصف الكوب الفارغ . الإحساس باللاجدوى يصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ أن يثمر شيئاً إيجابياً . لكن لابروبير أضاف ، وأضاف أيضاً أبناء جيله من المبدعين ، وأضافت كذلك أجيال أخرى تالية ، وستتحقق إضافات أخرى كثيرة فى أجيال تالية ، مما يضع مقولة لابروبير فى إطار العبارة البليغة دون أن يجاوزها إلى ما هو أبعد من ذلك . لذلك فإنى من غلاة الرافضين للتعميمات فى إطلاق الأحكام ، وبالذات فيما يتصل بنهاية نوع أدبى . فقرار الحياة أو الموت لا يملكهما ناقد ، لأن ذلك القرار ، الذى ربما أصدره الناقد وهو يتأمل السماء فى ليلة قمرية ، لن يحول دون إقدام مبدع موهوب على الكتابة ـ فى الوقت نفسه الذى أصدر فيه الناقد قراره ـ فى عمل ينتسب للنوع الأدبى الذى قرر الناقد موته . لقد أعلن ت . س . إليوت ـ قبل عشرات الأعوام ـ أن الرواية ماتت ، فأعلنت الرواية عن تواصل حياتها فى أعمال محفوظ وكامى وهمنجواى ومنيف وكازنتزاكس وجويس وماركيث وغيرهم . وكما يقول هارولد نيكولسون ، فقد " بدلت الرواية تقنيتها مراراً ، لكنها كانت تصل إلى القارئ فى كل الأحوال " . كذلك فقد أعلن إدموند ولسن ـ فى الثلاثينيات ـ أن الشعر ـ بصورته التى نعرفها ـ فى طريقه إلى الزوال ، وأن الشعراء سيتجهون ـ بالضرورة ـ إلى أشكال أخرى غير الشعر .. لكن الشعراء أهملوا ذلك الإعلان الغريب ، وقدموا معطيات متميزة . ولعلى أذكر أكثر من صيحة لناقد ، ترددت فى حياتنا الأدبية ، تنعى وفاة هذا اللون الأدبى أو ذاك . ثمة من نعى الشعر ، وآخر نعى الرواية ، وثالث نعى القصة القصيرة . أهمل المبدعون ذلك كله ، وتلقفت المطابع ـ والأدراج ! ـ أعمالاً تحفل بالتميز والجدة والإضافة ، وتؤكد انتظام أنفاس الرواية . ظلت الرواية فى موضعها المتفوق بين الفنون الأخرى ، والفضل ـ فى الدرجة الأولى ـ لتلك المحاولات المتفردة ، والمتميزة ، من فنانين متفردين ، ومتميزين ، مما قد يرين عليه من استاتيكية . الثبات والتغير هما الرئتان اللتان يتنفس بهما كل شئ حياته ، ويجد تواصله واستمراره . فإذا أبقى على الثبات دون التغير ، حكم على نفسه بالجمود ، فالموت . وإذا حرص على التغير دون مراعاة للثبات ، تشوهت ملامحه ، وفقد التواصل . من هنا ، فإن القول بنظرية للرواية هو القول بضرورة أن يكون لها خطوطها العريضة ، وسماتها العامة ، فضلاً عن نجاح كل عمل روائى يريد له صاحبه التميز ، فى أن يحقق تميزه بالإفادة من خيال الفن ووعيه وحريته فى مغادرة الأطر والتقاليد ـ فنية أو اجتماعية ـ مهما تكن ثابتة . وكانت الرواية العربية ـ على سبيل المثال ـ قبل أن يبذر نجيب محفوظ محاولاته ـ أقرب إلى ما كانت تعانيه الرواية الأوروبية فى القرن التاسع عشر ، من شوائب الوعظ والترفيه ، حتى حققت تفوقاً على يدى هنرى جيمس وجوزيف كونراد اللذين خلصا فن الرواية من معظم ما كان يعانيه من شوائب ، وأضاف إليه أبعاداً جديدة باستخدام جميع الإمكانيات التى تجعل من الرواية فناً حقيقياً .
ليس المقصود بتحديد الجنس الأدبى أن نقيم الحواجز ، ونفصل تماماً بين الأجناس الأدبية . إن بين سائر الفنون نوعاً من التكامل فى التعبير عن الذات الإنسانية . كانت وحدة الفنون قائمة فى العصور اليونانية الأولى . ثم بدأت تلك الوحدة تذوى ، وتتلاشى بالتدريج ، نتيجة للنمو المتزايد الذى فرضه التباين الاقتصادى والاجتماعى فى المجتمعات بعد العصور الأولى . وهو ما أدى إلى ظهور التخصص فى الأنشطة الاقتصادية والإنتاجية والاجتماعية . فلما صار تقسيم العمل أمراً جوهرياً بالنسبة لإنتاج السلع ، كان لذلك تأثيره المباشر فى تحويل الأدب إلى وظيفة وعمل متخصص ، تقوم به جماعة خاصة ، منفصلة عن بقية الجماعات الأخرى ( فتحى أبو العينين : نصوص مختارة فى علم اجتماع الأدب ص 116 ) . الصورة المتغيرة الآن فى الروافد التى تأتى من النبع الواحد ، وتتجه إلى المصب الواحد ، روافد متشابكة تشمل الشعر والرواية والموسيقا والتشكيل والمسرح والسينما والتاريخ والموروث الشعبى وعلم الاجتماع وعلم النفس . وكما يقول الشاعر الإنجليزى صمويل بيكر ، فإن فنون الموسيقا والتصوير والكتابة هى شئ واحد . إن محصلة كل فن تأتى بتفاعله مع فنون أخرى ، تفاعل بين الوسائط والأدوات والأساليب الذاتية ، وإن كان من المهم أن نشير إلى أن عناصر علم النفس والتاريخ والاجتماع إلى غير ذلك ، والتى يحتويها العمل فى أحيان كثيرة ، لا تهمنا فى حد ذاتها ، لكن ما يهمنا ـ والكلام لألكسندر سكافتيموف ـ هو الدفعة التى تحققها داخل وحدة الكل . وحدة الفنون تعنى كسر التخوم بين السرد الروائى وفنون الشعر والمسرح والسينما والموسيقا والفن التشكيلى وغيرها ، بالإضافة إلى علوم مثل علم التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس إلخ . إسقاط الحواجز المفتعلة بين الفنون المختلفة ـ والعلوم المختلفة أيضاً ـ خطوة مهمة لتطوير فنوننا بعامة ، سواء أكانت فنوناً سمعية أو بصرية . وكما يقول شاعر افريقيا العظيم ليوبولد سنجور فلا يمكن " تصور الموسيقا بدون حركة أو بدون رقص . وهذا ما نستطيع تسميته بالموسيقا التشكيلية . كما أن الرقص لا يمكن أن يعيش بدون رسم أو نحت . والحقيقة أن الرقص ـ على الأقل فى فترة الحماس الدينى فى العصور الغابرة ـ كان يعتبر دراما غيبية أو تمثيلية عن المعجزات ، ومهمة الراقص هى تجسيد الأسلاف أو الأرواح الطوطمية ، وبعثها حية من خلال الزى الذى يرتديه ، والأقنعة والشعر والموسيقا والرقص . وإلى حين ، لم يعد الرسم مقدساً ، فقد احتفظ بالكثير من أصوله " ..
لاحظ كلمات : الموسيقا ، التشكيل ، الرسم ، النحت ، الدراما ، الشعر . وبوسعنا أن نضيف إليها الرواية والسينما ليكتمل معنى وحدة الفنون . نحن نتحدث عن اللون فى الموسيقا ، والإيقاع فى الرسم ، والنغمة فى الشعر إلخ ، ذلك لأنه ليست هناك ـ كما يقول ميخائيل كيسيلوف ـ حدود فاصلة بين الفنون . فالموسيقا توحد الشعر والرسم ولها معمارها . ويمكن للرسم أيضاً أن يكون له النوع نفسه من المعمار كالموسيقا ، ويعبر عن الأصوات بواسطة الألوان . لابد أن تكون الكلمات فى الشعر موسيقا ، ويجب أن يولد ارتباط الكلمات والأفكار صوراً جديدة . ويذهب جبران إلى أن " الموسيقا كالشعر والتصوير ، تمثل حالات الإنسان المختلفة ، وترسم أشباح أطوار القلب ، وتوضح أخيلة النفس ، وتصوغ ما يجول فى الخاطر " ( المؤلفات الكاملة لجبران ـ 40 )
تعددت الأحكام فى تاريخ الفن . قيل إن عصر الشعر انتهى ، وعصر المسرح انتهى ، وعصر الرواية انتهى ، وعصر القصة القصيرة انتهى .. لكن كل الأجناس بقيت ، وتداخلت . ولعل أهم عوامل المفارقة بين الأجناس الأدبية المختلفة ، ان كل جنس لابد أن يقيم عالمه الخاص به . قد يفيد من جنس أو آخر ، لكنه يقدم فى النهاية جنسه الخاص ، صورته المتميزة .
يقول رولان بارت : إن الحكاية كامنة فى الأسطورة والخرافة والقصة والرواية والملحمة والتاريخ والمأساة والملهاة والمشهد الصامت واللوحة المرسومة والزجاج الملون والأحداث المختلفة والحوار بين الأفراد . وهى موجودة تحت أشكال تكاد أن تكون غير متناهية فى كل الأزمنة والأمكنة ، فى كل المجتمعات " ( ت أحمد درويش ) .
الحكاية ، الحدوتة هى الدعامة الأولى فى بناء أى عمل روائى ، ثم تأتى بقية الدعامات ، وهى بالنسبة للتقنية عندى الإفادة من العناصر والمقومات فى وسائل الفنون الأخرى ، كالفلاش باك فى السينما ، والتقطيع فى السينما أيضاً ، والتبقيع فى الفن التشكيلى ، والهارمونى فى الموسيقا ، ودرامية الحوار فى المسرحية إلخ .. أومن بقول بريخت : " يجدر بالكاتب ـ لكى يسيطر على القوة الدينامية للواقع ـ أن يفيد من كل الوسائل الشكلية المتاحة ، بصرف النظر عن جدتها أو قدمها " . وأتصور أن ذلك يتبدى ـبدرجة وبأخرى ـ فى كل رواياتى بدءاً بالأسوار وانتهاء برباعية بحرى ، مروراً بالصهبة و قاضى البهار ينزل البحر ومن أوراق أبى الطيب المتنبى والنظر إلى أسفل وقلعة الجبل وغيرها ..
نحن نجد فى الرواية رداً على كل ما طرح من أسئلة وهى تقدم ردها بصورة أعمق وأشد وضوحاً من الفنون الأخرى كالشعر والموسيقا والرسم وغيرها . إنها ـ كما يصفها بعض النقاد الأوروبيين ـ فن المشكلات ، بوسعها ـ وحدها ـ أن تعالج كل الأبعاد للمشكلة الواحدة .
الرواية تجسيد للحياة على نحو أعمق ، بينما وسائل التعبير الأخرى قد تعنى ببعد واحد . فثمة اللون فى الرسم ، والحركات التى تستهدف توترات صاخبة الموسيقا ، والمزاوجة بين اللغة وفهم الحياة الإنسانية
ناتالى ساروت تجد فى الرواية الجديدة ضرورة ، لأن الأرض الخصبة ـ والتعبير لساروت ـ إذا طال استغلالها ، تتحول إلى أرض عقيم . ومن الواضح أن التجديد المستمر شئ لابد منه لحياة الرواية ، بل لحياة أى فن "
(Les Nouvelles Litteraires 9, 6 ,1966 )
وفى تقديرى أن إفادة الرواية من الفنون الأخرى كالموسيقا والتشكيل والشعر وغيرها ، يعنى إفادتها ـ بلغة ساروت ـ من مخصّبات تضيف إلى الأرض المنهكة تجدد حياة . [ هنرى جيمس ينادى بوحدة الفنون من زاوية أخرى : إن بعض الفنون ـ مثل التصوير والموسيقا والعمارة ـ إذا استعان بها الروائى فى روايته ، فإنها ستساعد فى التخلص من اقتحام ذاتية المؤلف لروايته ] . الرواية الحديثة تفيد من الموسيقا : التركيب الموسيقى للسيمفونية ـ مثلاً ـ أو التركيب الموسيقى للسوناتا ، كما تفيد من فهم الفنان التشكيلى للشكل ، ومن فن المونتاج فى السينما . ويلح د . س بلاند فى أن نتعامل مع الكلمات فى الرواية ، كما نتعامل معها فى الشعر والدراما . أما همنجواى فإنه يشير إلى أن ما يتعلمه الكاتب من الملحنين ، ومن دراسة الهارمونى والكونتربونيت يبدو واضحاً فى أعماله ، كما لا يتطلب تفسيراً
على الروائى أن يثرى إبداعه بإسهامات الفنون الأخرى ، بما تملكه الفنون الأخرى من خصائص جمالية وتقنية ، فيتحقق للنص الأدبى أبعاد جديدة ـ أشارت إليها ناتالى ساروت ـ وتتحقق كذلك أبعاد جديدة للفنون الأخرى ..
وعلى سبيل المثال ، فإن الروائى ينبغى أن يكون ذا حس عال بالشعر ، بالقصيدة الشعرية ، فثمة حس للكلمة ، وحس للصورة ، وهما حسّان شاعريان . اللفظة مهمة فى الرواية ، والصورة أيضاً بالقدر نفسه لأهميتها فى القصيدة الشعرية . " الرواية الحديثة تحتوى إطاراَ شعرياً ، بل انها بدون الشعر لا يمكن أن تحيا ، ولا أن تبشّر بآفاق أخرى للمعرفة غير المنظورة " . إن المزاوجة بين التوتر الشعرى والفن السردى إضافة مطلوبة فى فن الرواية . ولعلنا نذكر اعتراف ميشيل بوتور بأنه لم يكتب قصيدة واحدة منذ كتب روايته الأولى ، فقد أحس أن الرواية ـ فى أكمل أشكالها ـ قادرة على تلقّى ميراث الشعر القديم . وكما يقول جبرا ابراهيم جبرا فإننا " لن ندرك حقيقة الطاقة الفاعلة فى الفن الروائى النثرى مالم نرجع بأصوله إلى محركاته الشعرية الأولى " .
أما اقتراب الرواية من الشعر ، واقتراب الشعر منها فى زماننا الحالى ، فلعلنا نجد تدليلاً له فى قول والتر بيتر : " يطمح الجميع لبلوغ الحالة الشعرية " . إن كل الفنون تطمح إلى الحالة الموسيقية ، وهى تفعل ذلك بواسطة الشحنة الشعرية الكامنة فيها ، والتى تحمل فى تضاعيفها الكثير من سر الموسيقا . فإذا عزلت الشعر عن تلك الفنون سقطت حالاً ، وأضحت شيئاً غير الإبداع . مهمة الروائى المبدع هى أن يحول الحياة بزخمها وتوتراتها إلى ما يشبه القصيدة ، كمن يستخلص الذهب من المعادن الأخرى ، فيتحقق للكتابة الإبداعية تألقها وتفوقها قياساً إلى بقية الكتابات . أذكر قول جبرا إبراهيم جبرا : " فالشعر سمة الأصالة فى كل فن بمعنى الكلمة . وإذا كانت الفنون كلها تطمح إلى الحالة الموسيقية ـ كما قال ولتر باتر ـ فهى إنما تفعل ذلك عن طريق الشحنة الشعرية الكامنة فيها ، والتى تحمل فى تضاعيفها الكثير من سر الموسيقا . اعزل الشعر عنها ، تسقطها جميعاً ، وتصبح شاهداً غيرالإبداع . ولعل واجب الروائى المبدع فى النهاية ، هو أن يكون قد حوّل الحياة ، بزخمها وبؤسها وروعتها ، إلى ما يشبه القصيدة ، فيكون بذلك قد استخلص الذهب من المعادن الأخرى ، وبهذا يحقق الروائى المبدع امتيازه على غير المبدع ، رغم أن الإثنين قد يعرفان الأفراح والمآسى نفسها ، ويتحدثان عن الأفراح والمآسى نفسها ، التى هى إطار الحياة اليومى لكل إنسان " .
(يتبع)