ثمة تعريف اشتقاقى للحرية بأنها " انعدام القسر الخارجى " . وكان القسر الخارجى ـ تحديداً ـ هو ما واجهه محمد قاضى البهار . كانت التهمة التى طاردت جهات البحث محمد قاضى البهار من أجلها ، أنه يمارس نشاطاً ضد الجماعة ، ضد الحكومة ممثلة الجماعة . ومع أن محمد قاضى البهار لم يكن مهموماً سياسياً ، ولا هو صاحب رأى ، فإنه وجد نفسه مدافعاً عن حريته فى ألا يكون مهموماً سياسياً ، وألا يكون له رأى !. وجد قاضى البهار نفسه معرضاً لفقد حريته الشخصية ، وهى الحرية الأهم . وكما يقول برجسون فإن الإنسان لا يكون حراً إلا عندما تصدر أفعاله عن شخصيته كلها .
وفراراً بحريته ، نزل محمد قاضى البهار إلى البحر . توالت التقارير تؤكد خلو تصرفاته من كل ما يدعو إلى مصادرة حريته ، إلى اعتقاله ، لكن جهة الأمر أكدت النشاط المريب لقاضى البهار ، وأن إدانته ثابتة ، وأن احتاجت إلى الأدلة التى تدعمها ، ومارس كتبة التقارير ضغوطاً على قاضى البهار بلغت حد الإيذاء البدنى ، لتحصل على الأدلة التى تثق فيها جهة الأمر ، لفقت لقاضى البهار عدة تهم ، من بينها أنه شارك فى مناقشات قهوة البورى ، وزملاء العمل ، فعاب على النظام فساده وقسوته ، وأنه كان يحمل متفجرات فى حقيبته عندما زار ملهى " زهرة البنفسج " . أما تردده على زاوية الأعرج لأداء صلاة العصر ـ قبل توجهه إلى قهوة البورى ـ فلتدبير اغتيال بعض القيادات السياسية ، بعيداً عن أعين الأمن . أذكرك بمسرحية " حالة حصار " لألبير كامى " إن اقتناعنا هو أنكم مذنبون ، ولن تجدوا أنكم مذنبون ما دمتم تشعرون بأنكم متعبون ، إنهم يتعقبونكم ، وعندما يرهقكم التعب ، سيسير الباقى وحده " .
لم تثبت التهم فى مواجهة صمت الشهود ، وإنكار رواد قهوة البورى مناقشات السياسة ، وتأكيد بائع الصحف سيد النن أن ما رآه فى طفولة قاضى البهار لم يعد يتكرر فى شبابه ، وأضاف أنه ربما اختلط عليه الأمر ، فشهد بما لم يشهده ، ونفى رواد القهوة أنهم يعرفون قاضى البهار أصلاً . وحين نزل محمد قاضى البهار مياه الأنفوشى ، واختفى ، فإنه ربما فعل ذلك فراراً من القوى الضاغطة ، لكنه مارس ـ بفعله ـ فى الوقت نفسه ـ حريته . وكما يقول سارتر ، فإن حريتنا هى الشيء الوحيد الذى ليس لنا الحرية فى أن نتخلى عنه .
الحرية ـ فى أحد تعريفاتها ـ هى " اختيار الفعل عن روية ، مع استطاعة عدم اختياره ، واستطاعة اختيار ضده " . ولم يكن النزول إلى البحر هو اختيار محمد قاضى البهار الوحيد ، بل إنه الحل الذى لم يطالبه أحد ، لكنه لجأ إلى ذلك الحل دفاعاً عن حريات الآخرين ، فضلاً عن فراره هو نفسه بحريته ، فلن تعاود الشرطة حملاتها ضد سكان بيت الموازينى ، أو رواد قهوة البورى ، ولن تلجأ إلى اختطاف أحد أقاربه ، ولن تضرب أباه فى شارع خلفى . وكما يقول باكونين " أنا لا أكون حراً بمعنى الكلمة ، إلا إذا كانت كل الموجودات الإنسانية المحيطة بى ـ رجالاً ونساء ـ حرة هى الأخرى . أجل ، فإننى لا أصبح حراً إلا بحرية الآخرين " .
ومع تأكيدى على أن تعدد مستويات الدلالة فى العمل الفنى هى اجتهاد الناقد ، وربما المتلقى العادى ، فلعلى أثق أن محمد قاضى البهار لم يمت . لقد نزل البحر واختفى . ذلك ما رأته الأعين التى رافقت رحلته الأخيرة من البيت إلى داخل البحر ، لا يلغى ما حدث إخفاق الشرطة فى العثور على جثة قاضى البهار ، أو ما يدل على غرقه ، ولا تلك الابتسامة الغامضة التى واجه بها تحريات الشرطة فى ظروف موته : أبواه والجيران وزملاء العمل ورواد القهوة . حتى أبناء الموازينى ، الذين لم يكونوا على صداقة بقاضى البهار " إذا جاءت سيرته ، وظروف اختفائه ، تسللت إلى شفاههم تلك الابتسامة الغريبة ، المحيرة ، كأنها العدوى " . هذه هى الكلمات التى انتهت بها رواية قاضى البهار ، وهى ـ كما ترى ـ نهاية مفتوحة ، ولعلها أقرب إلى نفى موت قاضى البهار ، وإلاّ : ماذا تعنى تلك الابتسامة الغريبة المحيرة ؟!
***
يقول ألدوس هكسلى : " من الأفضل أن نخطئ فى الحرية ، على أن نصيب فى القيود " . وقد حاول منصور سطوحى أن يتحرر من السلطة التقليدية ممثلة فى القائد التقليدى ـ الأب ـ الذى كان يصدر أوامره معتمداً على مكانته ، وهى أوامر اتسمت ـ فى الأغلب ـ بالطابع التحكمى .
كان منصور يريد أداء الفرائض الدينية عن اقتناع ، وليس لمجرد أن يتبع خطوات أبيه . كان يريد دخول الكلية التى يريدها ، ويتطلع إلى أصدقاء يطمئن إلى صداقتهم ، وإن رفضهم أبوه ، وإلى تعامل مغاير لما كان يعامله به أبوه ، بدت تصرفات منصور ـ عقب رحيل الأب ـ كأنها تعبير عن مقولة سارتر " إن حريتى هى الدعامة الوحيدة للقيم ، فليس ثمة شيء يمكن أن يلزمنى بأن أتخذ هذه القيمة أو تلك " . شك منصور فى حقيقة حريته ، فى حقيقة وجودها ، بعد وفاة أبيه ، وجد نفسه وحيداً ، بعيداً عن سياج الأسرة والوالدين والعادات والتقاليد والمجتمعات ، نفض عن نفسه ذلك كله ، أو أنه وجد نفسه خارجه ، واهتزت فى داخله قيم كثيرة ، وتبدلت نظرته إلى الكثير من الأمور ، ولم يعد المستقبل بمثل الاستواء الذى كان قديماً .
الحرية ـ فى التعريف الفلسفى ـ تجربة روحية ، يحاول فيها الموجود الإنسانى ـ الذى هو مزيج من دم ونور ـ أن يستخرج من حياته المادية نفسها وسائط نموه ، ووسائل تحريره ، وأسس سورته الروحية " ( مشكلة الحرية 259 ) . إرادة الإنسان تتجه ـ دائماً ـ نحو الأفضل ، أو ما يبدو لها أنه كذلك ، وهى لحظة مسبوقة ، أو متزامنة ، مع تحقق الاختيار ، ولو لم يكن الإنسان ـ فى تلك اللحظة ـ سيد انتباهه ، لما أحس بحريته بصورة حقيقية . وكانت الدوافع المحركة لمنصور سطوحى بحثاً عن الحرية ، تعبيراً ـ فى واقعها ـ عن الحرية . وإذا كان ماكس جاكوب قد وصف ميرسو بطل " الغريب " لكامى بأنه " إنسان فاقد الوعى بما حوله " فإن منصور سطوحى يكاد يعبر عن الحالة المناقضة ، فهو مدرك تماماً لما حوله ، ويرفضه ، ويحاول التغلب عليه .
جابرييل مارسيل يذهب إلى أن حرية الاختيار تتجلى فى لحظات الإشراق ، التى يتجلى فيها الوجود الإنسانى بسره وغموضه ونفحاته القدسية أمام الإنسان ، فينقاد له إطلاقاً ، ويفوض أمره إليه . فهل تكون النهاية التى اختارها منصور سطوحى هى مرفأ البحث عن الذات ، وعن تواصله مع الآخرين ، وعن الحرية الغائبة ، والسعى نحو الأفضل . تذكرنا هذه النهاية ، المرفأ ، بقول جان جينيه " إن الوسيلة الوحيدة لتجنب هول الهول هى أن تلقى بنفسك فيه " .
***
إن ديكتاتورية السلطان خليل بن الحاج أحمد هى المقابل لتطلع الناس إلى الحرية . كان القهر صورة حكمه ، أحكم قبضته فلا يأذن حتى للهواء بأن يتخللها ، أو ينفذ منها ، له الكلمة النافذة ، والرءوس ـ مهما استطالت ـ تخشع إلى حد الركوع ، وربما السجود ، فى مجلسه . نشأ السلطان فى كنف أب يبيع الرقيق ، أهم ما يرويه معاصرو طفولته أنه كان يحبس مجموعة من القطط فى قفص حديدى ، ويعمل فيها سيخاً حديدياً . ولما نقل الطواشى شعوان ما رآه إلى والد خليل ، ظهر عليه ارتياح ، وقال : لو أنه ضعيف القلب ، فكيف يبيع الرقيق ؟!.. ثم مارس هو نفسه تجارة الرقيق . لذلك فإن نظرته إلى حرية الإنسان ـ حتى هؤلاء الذين باعدت الظروف بينهم وبين العمل كرقيق ـ على أنها تخضع لإرادة الحاكم ، هو الذى يهب ويمنع ، أوامره قضاء ، وعلى الجميع أن يخضعوا لها .
لقد تبدى اختيار عائشة فى سؤال السلطان لعائشة : هل تريدين الإقامة معنا ؟، وفى ردها عليه : لو أعطيتنى الملك ما أخذته دون زوجى . حددت اختيارها ، وهو أن تكون حرة مع زوجها ، وأهل حدرة الحنة ، رغم الظروف القاسية التى كانوا يحيونها ، ولا تصعد إلى قلعة الجبل ، فتتحول إلى سجينة فى قصر السلطان .
كان اختيار خالد عمار هو اختيار زوجه عائشة ، قال له مقدم الجند : هل تريد أن تعمل فى خدمة مولانا السلطان ؟
قال خالد : من الصعب أن أجيد مهنة غير التى تعلمتها [ نسّاخ ]
قال المقدم : الجندية لمماليك السلطان وحدهم ، وإن أمكننى الحصول على موافقة مولانا ، نلحقك بزمرة المماليك السلطانية .
ـ أخشى أنى لن أستطيع .
ـ للجندى المملوكى مرتبة جليلة ، فكيف ترفضها ؟
ـ أنا من عامة الناس ، والعمل فى خدمة مولانا السلطان مما لا أقوى عليه .
ـ الجندية تميزك عن موظفى دواوين السلطان .
ـ لا أتخيل نفسى فى غير هذا المكان .
اختار خالد الحرية ، مألوف أيامه بعيداً عن الحياة التى لا صلة له بها فى قلعة الجبل .
حتى عبد الرحمن القفاص ـ والد عائشة ـ حاول أن يعتذر عن الخدمة فى قلعة الجبل . قال للسلطان خليل : أنا رجل سوقى ، لا أعرف غير صنع الأقفاص !.. لكن السلطان ـ كى يستدرج الرجل إلى حتفه ـ أصر أن يعمل فى القلعة ، بدعوى أن أمره لا يرد !
ومع أن السلطان جعل من عائشة ضيفة على قلعة الجبل ، تقيم فى واحد من قصوره الثلاثة ، لا تغادرها ، بوسعها أن تخرج إلى القلعة ، قصورها وأبراجها ودورها، كل من فى القلعة يعلم بأمرها ، وأنها ضيفة السلطان . وبرغم أن خصياً قادها إلى حجرة بها كنوز هائلة من المجوهرات والذهب والفضة ، فإنها ظلت على حنينها إلى ناسها ، وظلت حزينة ، وقالت عن الكنوز التى عرضها عليها : الحق أنلا لا أفهم منها أى شيء ، ولا أعرف قيمتها !
وكانت الجريمة التى عوقب بسببها والد عائشة وخالها وإمام مسجد شيخون وقاضى الشافعية والخليفة وزوج السلطان ، أنهم تفهموا اختيار عائشة ، وأنه لا شيء يعدل حياتها فى حدرة الحنة .
أخيراً ، فإن الحرية هى اختيار عائشة ، فى مقابل عرض السلطان خليل بن الحاج أحمد عليها ، وإصراره ، أن تقيم فى قلعة الجبل ، طاردها وقتل كل من حولها حتى تغادر حدرة الحنة ، واختار الناس أن يناصروا حرية عائشة فى الاختيار ، وهو اختيار أفضى ـ فى النهاية ـ إلى زوال السلطان نفسه .
***
إن عزلة الإنسان تنفى حريته ، فالحرية مسئولية اجتماعية ، وارتباط بالآخرين ، ووعى متنام بما يحيط به . لقد عاش سر شاكر المغربى فى داخله ، وكما يقول كودويل ، فإن الرجل الوحيد فى الصحراء ليس حراً ، إن حى بن يقظان وروبنسون كروزو لم يشعرا بحريتهما الحقيقية ، لم يصبحا أكثر حرية إلا بعد أن التقيا بسلامان وابسال وجمعة وغيرهم ، من نقلوا إليهما الشعور بالجمعية . وقد آثر شاكر المغربى أن يظل فى جزيرته المنعزلة ، حتى فى حراكه الاجتماعى للصعود إلى الطبقة الأعلى ، يخلو إلى أحلام عشقه المجنون ، يتخيل ويتصور ويمارس العزلة الكاملة ، فلا يبوح بسره لأحد " الإحساس بمخالفة الآخرين يضعنى فى جزيرة منعزلة ، أعانى الوحدة ، والسر الذى يصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ أن أعلنه ، لم تصرفنى المعاملات المادية ، أو الصفقات ، عن الخلو إلى نفسى ، ولو فى حضور الآخرين ، واحتضان حلمى الغالى ، وبقيت على صلتى بالخيالات ، لا أفارقها ، وإن ظل السر داخلى ، أتحدث وأناقش وأسأل وأبيع وأشترى وأعقد الصفقات ، فلا صلة بين عملى وذلك المارد الذى يعلو صراخه ، فأضرب قبضتى ـ بلا مناسبة ـ فى حافة المكتب . لم تكن تؤلمنى أو تضايقنى تصرفات الآخرين ، مهما تمادت فى الإيلام ، إن أذنوا لى ـ ربما دون أن يدروا ـ باحتضان كنزى الجميل ، نتمرغ فى رمال الشاطئ ، نسبح فى بحار عميقة ، غامضة ، نعانق النجوم فى سماوات لا نهائية " إلخ . وعندما أصبح سره فى وعى غيره ـ نادية حمدى ـ حاول أن يسترده ، فأخفق ، فلجأ إلى تصرف مجنون ، وإن كان منطقياً ، ليفقد حريته ، وربما وجوده .
بالطبع ، فإن " اعتراف المرء بذنوبه لا يكفى لتبرئة ساحته " .. ذلك ما تبينه كليماس بطل " السقطة " لكامى ، وإن لم يتبينه شاكر المغربى . تصور المغربى أن عليه أن يروى ما حدث دون أن يندبر العواقب ، وأن الحفاظ على حريتى مرتهن بالحفاظ على حرية الآخرين ، المرء لا يكون حراً بالفعل فى أفكاره وتصرفاته ، إلا إذا كان على معرفة حقيقية بما ينتويه ، وبالحرص المؤكد ـ فى الوقت نفسه ـ على أن يعثر " على المفتاح الوحيد لكل حرية كائنة ما كانت " ، والتعبير لجون ديوى .
ثمة مقولة ترى أنه " بدون الحرية لن يكون ثمة فارق بين الخير والشر ، لأن الحرية هى التى تدخل القيمة فى العالم ، ومن ثم فهى لابد أن تظل وراء القيمة نفسها " ( مشكلة الحرية ص 263 ) ، فليس من شيء يعلو على الخير والشر معاً سوى الحرية ، وأتذكر كذلك قول البولندى شاينا " إن ما سيبقى من فنى ، هو حريتى التى تحيا فى الإنسان الآخر .. المتلقى " !
فصول ـ 1988


(انتهى الكتاب)