لفافة التبغ تلفظ أنفاسها ...الواحدة تلو الأخرى، في سحب زرقاء تتراقص أمام عينيه، وهو يتأملها كيف تنقشع في سكون غرفته.... ومن حين لآخر، يرقب بطرف عينه الهاتف على المنضدة.... ثم يعود ليتابع سحب لفافته... وينتظر.
صوت الرنين يوقظه من حلمه....يرفع السماعة ويطلق زفرة لفافته الأخيرة:
- ألو..
- تأخرت عليك؟
يأتيه صوتها الناعم كما يأتي الغيث الأرض العطشى......هو ظمآن يريد أن يرتوي.
- لا، بل في الوقت المناسب، قد وصلت منذ قليل..
- كيف قضيت يومك؟
- كمسافر ينتظر...
- وماذا تنتظر؟
- رنين الهاتف يعلن وصول صوتك، ليأخذني في رحلة سرمدية، لا أشكال فيها ولا أبعاد، بل أطياف وألوان...
يسحب من علبة السجائر لفافة أخري ليراقص سحبها، بينما تلوح الشمس بأشعتها الاخيرة تاركة العالم يغرق في الظلام.
-ألهذا الحد تسأم من حياتك؟
-.. حياتي وحياتك وحياة كل الناس، مجرد أقنعة مزخرفة وملونة حسب الطلب والظرف، العالم مسرح كبير ونحن نمثل...نمثل على الآخر...نمثل على أنفسنا..وهكذا.
- ألست تفلسف الحياة؟
- أنا لا أفلسفها... أنا أريك ما يجري في كواليس مسرحنا الكبير فقط..
- وحين ينتهي العرض؟
- نحلم....
صوت ضحكتها الناعم يذكره دوما بالماء...أليس الماء هو الحياة....والحياة امرأة.
- نحلم؟
- أجل نحلم....لكل منا حلمه الخاص...لكن حلمنا المشترك، أن نزيل أقنعتنا..و نواجه حقيقتنا، حينئذ نجد السلام الذي نبحث عنه.
- وبم تحلم أنت؟
- ...أن أتحرر...من نفسي..من أقنعتي..من جدران منزلي وأرصفة الشارع...من الزمان ..من المكان، أحلم أن أطير دون أجنحة ، أن أغتسل بالشمس و ألتحف السحاب ....أن أركب الريح و أفترش البحر..
- وكيف السبيل إلى تحقيق ذلك؟
-أن نحب....أن نحب بصدق وبقوة...أن نتوحد فيما نحب وفيمن نحب...إن لحظة التوحد هي الطاقة التي تحررنا...وهي اللحظة التي توقف الزمان وتلغي المكان، وتجعل العالم كله سماء واسعة...واحدة.
- وما يمنع أن نحب بهذه الطريقة؟
- هل يحب الممثلون بعضهم حقا فيما نراه من قصص...لو حصل ذلك، تكون الأقنعة قد تبدلت، والأدوار قد تغيرت، ويصبح الأحباب أعداء، والأعداء أصحاباً...وهكذا...
موسيقى السكون تعزف نغماتها بين طرفي خط الهاتف، بينما يفقد سحب لفافته المتراقصة في عتمة غرفته....
- لماذا سكتَّ؟؟
- أستمع لموسيقى صمتك الناعمة....
- وهل للصمت صوت؟؟
-له صوت....كما للعيون كلام...
- أنت غريب..
- إن هذه الغرابة لهي السلام الذي ننشده..من يدركها، يقال له مجنون...ومن يفقدها ..يتيه في مس من العقل..
صوت طفل يبكي يوقظ يقظته...ينتبه أنه يغرق في عتمة الليل...يقوم بتثاقل، يشعل مصباح غرفته وينظر عبر النافذة إلى المدينة المزخرفة بالأنوار...يفرغ علبة سجائره من لفافتها الأخيرة...يشعلها ويسحب منها نفسا عميقا كأنما يقبلها، ينظر بطرف عينه إلى الهاتف على المنضدة....يعرف أنه لن يرن، فهو لا يملك خطا... ويعرف أنه لا توجد ذات الصوت الناعم كتدفق الماء... و أنه لن يكلمها عن الحياة وعن الحب....لكنه...يرقب سحب لفافته.. وينتظر.
وردة قاسمي