بسم الله الرحمن الرحيم

حكم شرب الدخان

للعلامة الشيخ
عبد الرحمن بن ناصر السعدي

سؤال :
أرجوكم الإفادة عن حكم شرب الدخان والاتجار به على وجه التوضيح هل هو حرام أو مكروه أفتونا مأجورين ؟

الجواب :
وبالله التوفيق ، نسأله الهداية لنا ولإخواننا المسلمين .
اما الدخان شربه و الاتجار به و الإعانة على ذلك فهو حرام لا يحل لمسلم تعاطيه ؛ شربا ، واستعمالا ، واتجارا ، وعلى من كان يتعاطاه أن يتوب إلى الله توبة نصوحة ، كما يجب عليه ان يتوب من جميع الذنوب ؛ وذلك أنه داخل في عموم النصوص الدالة على التحريم ، داخل في لفظها العام وفي معناه ؛ وذلك لمضاره الدينية والبدنية و المالية التي يكفي بعضها في الحكم بتحريمه ، فكيف إذا اجتمعت ؟!
- أما مضاره الدينية ودلالة النصوص على منعه وتحريمه فمن وجوه كثيرة : منها قوله تعالى : { ويحرم عليهم الخبئث} [ الأعراف 157] وقوله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [ البقرة 195] ، وقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } [ النساء 29] ، فهذه الآيات وما أشبهها حرم الله بهل كل خبيث أو ضار ، فكل ما يستخبث أو يضر فإنه لا يحل ، والخبث والضرر يعرف بآثاره وما يترتب عليه من المفاسد ، فهذا الدخان له مفاسد و أضرار كثيرة محسوسة يعرفها الجميع ، وأهله من أعرف الناس بها ، ولكن إرادتهم ضعيفة ، ونفوسهم تغلبهم مع الشعور بالضرر ، وقد قال العلماء : يحرم كل طعام وشراب فيه مضرة .
- ومن مضاره الدينية أيضا : أنه يثقل على العبد العبادات والقيام بالمأمورات خصوصا الصيام ، و ما كرَّه العبد للخير فإنه شر ، وكذلك يدعو إلى مخالطة الأرذال ، ويزهد في مجالس الأخيار كما هو مشاهد ، وهذا من أعظم النقائص أن يكون العبد مؤالفا للأشرار متباعدا عن الأخيار ، ويترتب على ذلك العداوة لأهل الخير والبغض لهم ، والقدح فيهم والزهد في طريقهم ، ومتى ابتلي به الصغار والشباب سقطوا بالمرة و دخلوا في مداخل قبيحة ، وكان ذلك عنوانا على سقوط أخلاقهم فهو باب لشرور كثيرة فضلا عن ضرره الذاتي .
- و أما مضاره البدنية : فكثيرة جدا ، فإنه يوهن القوة ويضعفها ، ويضعف البصر ، وله سريان ونفوذ في البدن والعروق، فيوهن القوى ، ويمنع الإنتفاع الكلي بالغذاء ، ومتى اجتمع الأمران اشتد الخطر وعظم البلاء .
ومنها :
إضعاف القلب ، واضطراب الأعصاب ، وفقد شهية الطعام .
ومنها :
السعال ، والنزلات الشديدة التي ربما أدت إلى الإختناق وضيق النفس ، فكم من قتيل أومشرف على الهلاك .
وقد قرر غير واحد من الأطباء المعتبرين أن لشرب الدخان الأثر الأكبر في الأمراض الصدرية ، وهي السل وتوابعه ، وله أثر محسوس في مرض السرطان ، وهذه من أخطر الأمراض و أصعبها . فيا عجبا لعاقل حريص على حفظ صحته وهو مقيم على شربه مع مشاهدة هذه الأضرار او بعضها ! فكم تلف بسببه خلق كثير ! وكم تعرض منهم لأكثر من ذلك ! وكم قويت بسببه الأمراض البسيطة حتى عظمت وعز على الأطباء دواؤها ! وكم أسرع بصاحبه إلى الانحطاط السريع من قوته وصحته ! ومن العجب أن كثيرا من الناس يتقيدون بإرشادات الأطباء في الأمور التي هي دون ذلك بكثير ، فكيف يتهاونون بهذا الأمر الخطير ! ذلك لغلبة الهوى و إستيلاء النفس على إرادة الإنسان ، وضعف إرادته عن مقاومتها وتقديم العادات على ما تعلم مضرته . ولا تستغرب حال كثير من الأطباء الذين يدخنون وهم يعترفون بلسان حالهم أو لسان مقالهم بمضرته الطبية ، فإن العادات تسيطر على عقل صاحبها وعلى إرادته ، ويشعر كثيرا أو أحيانا بالمضرة وهو مقيم عى ما يضره .
وهذه المضار أشرنا إليها إشارة ، مع ما فيه من تسويد الفم والشفتين و الأسنان ، وسرعة بلائها وتحطمها و نآكلها بالتسوس ، و انهيار الفم والبلعوم ومداخل الطعام والشراب حتى يجعلها كاللحم المنهار المحترق تتألم مما لا يتألم منه .
وكثير من أمراض الإلتهابات ناشئة عنه ، ومن تتبع مضاره وجدها أكثر مما ذكرنا .
ـ و اما مضاره المالية : فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه نهى عن إضاعة المال ) ، و أي إضاعة أبلغ من حرقه في هذا الدخان الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، ولا نفع فيه بوجه من الوجوه ، حتى أن كثيرا من المنهمكين فيه يغرمون الأموال الكثيرة ، وربما تركوا ما يجب عليهم من النفقات الواجبة ، وهذا انحراف عظيم ، وضرر جسيم فصرف المال في الأمور التي لا نفع فيها منهي عنه ، فكيف بصرفه بشيء محقق ضرره ! . ولما كان الدخان بهذه المثابة مضرا بالدين والبدن والمال ، كانت التجارة فيه محرمة ، وتجارته بائرة غير رابجة ، وقد شاهد الناس أن كل متجر فيه و إن استدرج ونما ماله في وقت ما فإنه يبتلي بالقلة في آخر امره وتكون عواقبه وخيمة ، ثم إن النجديين ولله الحمد جميع علماؤهم متفقون على تحريمه ومنعه ، والعوام تبع للعلماء فلا يسوغ ولا يحل للعوام أن يتبعوا الهوى ويتأولوا ويتعللوا بأنه يوجد من علماء الأمصار من يحلله ولا يحرمه ، فإن هذا التأويل من العوام لا يحل باتفاق العلماء ، فإن العوام تبع لعلمائهم ليسوا مستقلين ، وليس لهم أن يخرجوا عن أقوال علمائهم وهذا واجبهم ، كما قال تعالى { فسئلوا اهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }[ النحل 43] و [ الأنبياء 7] .
وما نظير هذا التأويل الفاسد الجاري على ألسنة بعض العوام – اتباعا للهوى لا اتباعا للحق والهدى – إلا كما لو قال بعضهم : يوجد بعض علماء الأمصار لا يوجبون الطمأنينة في الصلاة فلا تنكروا علينا إذا اتبعناهم ، أو يوجد من يبيح ربا الفضل فلنا أن نتبعهم ، أو يوجد من لا يحرم اكل ذوات المخالب من الطير فلنا أن تنبعهم ، لو فتح هذا الباب فتح على الناس شر كثير ، وصار سببا لانحلال العوام عن دينهم ، وكل أحد يعرف أن تتبع مثل هذه الأدلة الشرعية ، ولما عليه أهل العلم ، من الأمور التي لا تحل ولا تجوز .
والميزان الحقيقي : هو مادلت عليه أصول الشرع و قواعده ، وقد دلت على تحريم الدخان ؛ لما يترتب عليه من المفاسد و المضار المتنوعة ، وكل أمر فيه ضرر على العبد : في دينه ، أو بدنه ، أو ماله من غير نفع فهو محرم . فكيف إذا تنوعت المفاسد وتجمعت ، أليس من المتعين شرعا وعقلا وطبا تركه والتحذير منه ونصيحة من يقبل النصيحة ! .
فالواجب على من نصح نفسه وصار لها عنده قدر وعزيمة أن يتوب إلى الله عن شربه ، ويعزم عزما جازما مقرونا بالاستعانة بالله لا تردد فيه ولا ضعف عزيمة فإن من فعل ذلك أعانه الله على تركه وهون عليه . ومما بهون عليه الأمر أن يعرف أن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ، وكما أن ثواب الطاعة الشاقة أعظم مما لا مشقة فيه ، فكذلك ثواب تارك المعصبة إذا شق عليه الأمر وصعب أعظم أجرا و ثوابا ، فمن وفقه الله و أعانه على ترك الدخان فإنه يجد المشقة في أول الأمر ثم لا يزال يسلو شيئا فشيئا حتى يتم الله نعمته عليه ، فيتغبط بغضل الله عليه وحفظه و إعانته ، و ينصح إخوانه بما ينصح به نفسه والتوفيق بيد الله ، ومن علم الله من قلبه صدق النية في طلب ماعنده بفعل المأمورات وترك المحظورات يسره للبسرى ، وجنبه العسرى ، وسهل له طرق الخير كلها ، فنسأل الله أن يأخذ بنواصينا إلى الخير ، و أن يحفظنا من كل شر ، إنه جواد كريم ، رؤوف رحيم .

عبدالرحمن بن ناصر السعدي