النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: الحياة حلوة

  1. #1 الحياة حلوة 
    غير مسجل
    زائر
    قصة قصيرة


    الحياة حلوة


    برفقة الصمت المريب ، والخيالات الشاردة، وفي صباح خريفي بائس ، كنت أسير بقامة منتصبة خلف جنازة رفيق الطفولة والصبا ، أو بالأصح بالقرب من نعشه المحمول على الأكتاف ، بينما عقارب الأفكار تدق في كل خلية من خلاياي، وتريد أن تأخذني إلى عوالم الهذيان.
    صديقي لم يكن ميتاً على الإطلاق ، والدليل على ذلك أنه كان يتحدث إليّ دائماً ، وأنا كنت أتحدث إليه وابتسم ، وأحيانا أضحك بصوت عال حين يقول لي النكت الكثيرة التي يجيدها بامتياز ، فتسقط عليّ النظرات المستغربة وتهتز الرؤوس أسفاً.
    قبل أن نصل إلى محطتنا الأخيرة ، رفع رأسه وقال لي بصوت مصبوغ بكل أنواع الحرمان:
    ـ آه يا صديقي , آه وألف آه .. العين تبكي والقلب يتحسر.
    ثم ابتسم وأضاف :
    ـ الحياة حلوة ، أليس كذلك ؟
    حين جاوبته وأنا أضحك كي أبعد عنه الهموم، تدلت الرؤوس الـتي فقدت ملامحها من فوق الأكتاف ، حدقت العيون إلى جيداً ، وطارت منها آلاف الغربان، تمتمت أفواه كثيرة ، بعضها طلبت أن أطرد وأمنع من المشاركة بالتشييع الذي لم أعترف به أصلاً ، وبعضها سخرت مني واتهمتني بأشياء كثيرة، أما أنا فتعجبت وتساءلت في داخلي :"لماذا لا تتدلى الرؤوس وتحدق العيون إلا عندما أتكلم أنا فقط؟".
    ما إن وضعوا النعش بجانب الحفرة حتى تطلع إلى من حوله ، ثم تمطط وحاول النهوض لكنه لم يستطع ولا أدري لماذا ، حينئذ طلب المساعدة وهو يتوسل، فلم يستمع إليه أحد، فما كان منه إلا أن نظر إليّ وابتسم ، ثم قال نكتة أضحكتني كثيراً ، وبينما كنت مشغولا بالضحك ، سقطت كف ثقيلة لعفريت ابن عفريت على رقبتي ، كادت توقعني أرضاً ، بعدها سمعت شتيمة بذيئة جدا ، شعرت بحقد طاغ تجاه كل الموجودين ، التفت إلى الوراء وأنا أغلي ، فرأيت الوجوه الواقفة خلفي محايدة تماماً.
    حين حملوا النعش ، رفع رأسه فرأيت وجهه ينبض بالصحة والعافية ويلمع مثل قنديل في الليل ، وحين أراد أحدهم أن يدخل رأسه إلى داخل الصندوق رغما عنه ، أمسك صديقي بيده وعضها بقوة حتى امتلأ فـمه بالدماء ، ولكن يا للعجب ، لم يتأوه الرجل ولم يشعر بأي شيء على الإطلاق، وقبل أن يدخلوه إلى الحفرة راح يصيح بصوت مصحوب بغضب دفين:
    ـ اتركوني.. لم أفعل شيئا..
    في لحظة أكثر من هستيرية ، انتفضت كل حواسي ، وكان نبضي يجري عتيا بين القبور ، وفجأة عفرتهم بالتهديد والوعـيد ، ثم اندفعت باتجاه النعش وكل همي أن أخلصه من بين براثنهم ، ولكن قبل أن ألمسه ، اعترضتني الأيدي والأفواه وصادرت فمي المليء بالشجب والاستنكار ، اقترب مني ثلاثة رجال وجوههم معفرة بالتراب والعرق ، حملوني بصمت وألقوا بي بعيداً وعادوا إلى عملهم .
    سمعته يناديني باسمي ، فلملمت بعضي ، ومن بين الأرجل زحفت عبر الأشواك باتجاه الحفرة ، وما أن وصلت إليها حتى مددت رأسي ، نظرت إليه فرأيته ينتحب بصمت ويقول بهمس:" آه يا دنيا". في البدء كاد يغمى عليّ ، لكنني تمالكت أعصابي فمددت له يدي وقلت بصوت خفيض:
    ـ انهض بسرعة لنهرب.
    بغتة سمعت شتيمة مزلزلة ، ثم سقطت على رأسي وظهري محتويات الأفواه ، هوجمت من عدة جهات وانهالت عليّ الصفعات والركلات التي لا ترحم، وبعد لحظات وجدت نفسي وحيداً , منكسراً، مهزوماً ، ومرمياً فوق الأشواك والصخور الجارحة.
    لوثوا ثيابه الناصعة البياض بالتراب وهو يصيح :
    ـ أخرجوني يا صعاليك .. لست ميتا بل أنتم الميتون.
    ثم رسم لوحة بالبراءة وأضاف:
    ـ الحياة حلوة ولم أتمتع بها بعد .
    كل نداءاته ذهبت أدراج الرياح وبمغمضة عين صار تحت التراب ، أما أنا فطردت كل آلامي ولملمت شـجاعتي ، واندفعت نحوهم كثور هائج ، أبعدتهم عن طريقي ، وقفت فوقه ، ناديته ، ثم تمددت إلى جانبه:
    ـ كيف افقد شهامته ورجولته ودعابته وحديثه المحبب ، هذا حرام يا ناس انه لم يفرح بشبابه ، ولم ينم لصق الجسد الأنثوي بعد، أرجوكم أخرجوه فمكانه ليس هنا.
    لم أسمع جواباً من أي بني آدم ، ولكن بعد لحظات تقدم مني أحدهم وأراد أن يبعدني بالقوة ، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة عندما سمع أحدهم يقول:
    ـ اتركه يفعل ما يريد , انه...
    بقينا أنا وصديقي وحدنا ، جثة فوق التراب وأخرى تحت التراب ، ولكن ظلت أصواتنا الضاحكة تعلو وتطير مع طيور اليمام فوق الأودية والسهول ، بينما كان الآخرون يخرجون من المقبرة تباعاً


    بسام الطعان
    bassamtaan@yahoo.com
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2 رد: الحياة حلوة 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Aug 2009
    المشاركات
    216
    معدل تقييم المستوى
    15
    قصة رائعة سردا و اسلوبا.
    بين الفرد و الجماعة كثيرة هي الاشياء المفقودة.
    مودتي
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. علمتني الحياة (4):تجربة نصف قرن في مشوار الحياة
    بواسطة ماجد عرب الصقر في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 25/04/2012, 09:21 AM
  2. ق.ق.ج خلوة !
    بواسطة هيا الشريف في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 26/09/2010, 04:14 PM
  3. ميلادي ... لا يموت..!!
    بواسطة هيا الشريف في المنتدى الرسائل الأدبية
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 04/01/2008, 10:59 AM
  4. أنا لا يموت أبي
    بواسطة أيوب مليجي في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 18/06/2007, 09:16 PM
  5. حزن لا يموت
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 11/09/2006, 08:52 PM
الاعضاء الذين قرؤوا الموضوع: 0
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •