النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: قبلة على الإسفلت ؟!

  1. #1 قبلة على الإسفلت ؟! 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    السعودية
    العمر
    54
    المشاركات
    66
    معدل تقييم المستوى
    15
    قبلة على الإسفلت ؟!
    قصة قصيرة
    كتبها : أحمد كمال
    تنفس الصبح ، وأشرقت الشمس ، وتجمع عمال الطرق ، بعشرات المعدات والآلات الضخمة ، ليمهدوا من جديد ، الطريق المهجور ، وسط العاصمة الزاهية ، وما أن بدأ العمل حتى تعطلت المعدات ، وانفجرت الإطارات ، وانصهرت المجنزرات ، ونزف العمال دماً غزيراً ، ففروا بلا عودة ، وهم يصيحون ، ويستغيثون .
    وبقى الطريق كما هو مهجوراً ، ممتلئ بحطام مئات السيارات المحترقة ، وعشرات ، العشرات من القطط ، والكلاب الضالة ، وخيمة منزوية على ناصية الطريق ، كسوتها مرقعة بألوان البشر ، أسفل إشارة المرور المضاءة باللون الأحمر منذ دهر ، أو دهور ولم تنطفئ .
    وما أن انتصفت الشمس في السماء ، حتى أتت سيارة فارهة ، ترجل منها رجل نال الزمن منه نيلاً ، فكسي الشيب رأسه ، ولحيته ، وتجعدت ملامح وجهه ، وبقى له وقاراً وهيبة ، وسار بخطى حذرة ، نحو الخيمة البالية ، ينادي بصوت متداعي من أيام عاصية ، فخرج ساكن الخيمة بثياب رثة ، وشعور كثة ، ودهشة متناهية ، متسائلاً بصوت العاشق من أيام خالية :
    - من أنت ؟ وكيف وصلت بسيارتك إلى هنا ولم تحترق ؟!
    فنظر الآخر إليه نظرة شفقة بادية ، وأشعت من عينيه نظرة عطف آنية ، وصمت ، صمت البعير على مذابح الأزلام ، وراح ساكن الخيمة يدور من حوله ، ويتفحصه بعينين مبحلقتين ، والدهشة تكسوا وجهه ، ثم صاح
    - أنت من أنتظر منذ الغروب ؟! أنت من تنتظره ود التي هانت وعلى قلبي لم تهون ؟!
    فرد عليه الآخر والفضول قد تحكم فيه :
    - أي ود هذا ؟ أنا أريد أن أعيد فتح الطريق ؟!
    فقعد ساكن الخيمة على الأرض ، ونظر بعينيه إلى أعلى ، وارتسمت على شفتيه ابتسامة قائلاً :
    - رد للمهد حقه ، وصون الود ، ينفتح لك الطريق !!
    فنظر الآخر مستغرباً ، إلا إنه قعد أمامه منصتاً بشغف ، ليقول ساكن الخيمة والدموع تتسلل من مؤقتيه :
    - عثرنا عليها في ليلة قاسية ، ملفوفة في غطاء وثير، نظر كل من نظر إليها فأسرته بوجهها الأبيض كاللبن المصفى ، ونقاء روحها ، وطيب أنفاسها ، وتنازعنا على تربيتها ، في حي كل من فيه أسير ، لفقر متحكم ، ولكن بقى في قلوبنا العطاء واجد ،أسميناها ود ، ونمت أمام أعيننا كزرع مباركاً ، في أرض طيبة ، واكتست رأسها بشعر غزير كأنه المزج بين البيداء والجبل السقيم ، فتلمحها من بعيد فتعرفها من تاج رأسها الكثيف ، وصارت تسأل عن الرحم الذي حملها ، والنطفة التي أنبتتها ، ولا نجيب ، فنحن لا نعلم ما هويتها ، ولكن بالحب أحطناها ، ولا شيئاً منها نريد ، حتى تفجرت أنوثتها ، وجاء الخاطب تلو الخاطب ، ويذهب والكرة لا يعيد ، فمن يقترن اسمه بمن لا اسم لها يشقى شقاءً شديد ، ودرت ود بحقيقتها ، وراحت تبحث عن هويتها ، تشتم الرحم الذي حملها ، وتلهث وراء النطفة التي أنبتتها ، حتى تجمدت يوماً في هذا الطريق ، أمام سيارة فارهة ، تقودها امرأة آسرة ، تماثلت ملامحهما ، وشخصت أبصارهما ، وخشعت قلوبهما ، وكادت الأخرى أن تبدي بها ، ولكن قسوة قلبها غلبتها ، وزيف الحياة أغراها ، فانطلقت بسيارتها ، تطوي الأرض ، والزمان ، وذكريات آلامتها ، وخطيئة ود بها ذكرتها ؟!
    ثم راح يجهش في بكاء شديد ، ويكمل بصوت النحيب :
    - ولكن وهي تفر من خطيئتها ، بسيارتها صدمتها ، وانفتحت إشارة المرور ، ودارت ود حول نفسها ، غير مصدقة فعلتها ، وذلت قدماها ، وهوت على الإسفلت ، فداست فوق رأسها الرقيق ، إطارات شاحنة فجرتها ، ونضح الدم على الإسفلت ، وبقى الجسد الرقيق ينتفض بحثاً عن هويته ، وكسرت عظامها ، وتهشمت ، وسحقت ، على الإسفلت سحقاً ، بفعل مئات الإطارات ، من عشرات السيارات التي لم تتوقف ، ولم يكن في قلوب سائقيها مثقال ذرة من رحمة ، وتناثر فتات لحم جسدها ، تطعم الكلاب الضالة ، والقطط الجائعة ، حتى أغلقت الإشارة ، فركضت مع من ركض لإنقاذها . لم يتبق منها غير بقعة دم ، وخصلة شعر ، و صار قاع الطريق قرارها .
    ومن جيبه أخرج خصلة الشعر ، ومد يده بها إليه ، ما أن لمسها حتى صارت قشعريرة في جسده ، ولمعان ذكري متعة فانية في عقله ، ونزيف من الندم يدمي قلبه ، وأخذ يصيح ، ويجهش في البكاء ، وينتحب :
    - يا ويلي .... يا ويلي ....يا ويلي
    وقام الرجل من القعود ، وأخذ يذهب ويعود ، ثم راح نحو سيارته ، وفتح بابها الموصد ، وأمسك بباقة ورد يهديها لود ، وأبقى باب سيارته مفتوح ، وجثا على ركبتيه ، وساكن الخيمة راح يهتز من بكاء شديد ، ووضعه على ضريحها الموهوم ، ودنا برأسه من الإسفلت وطبع عليه قبلة بشفتيه وهو يقول :
    - ننساها ، وهناك من يحصيها ، سامحيني بعد أن فات الأوان ، يا ابنة لم يتبق منها إلا خصلة شعر ، وبقعة دماء .
    ثم راح يجهش في بكاءه ، ويمرغ وجهه في الإسفلت ندماً ، وألماً ، ورحلت الكلاب لأنها وجدت من يؤويها ، ولم تعد القطط بعد أن وجدت من يطعمها ، وبقى ساكن الخيمة يبيع الورود ، وأصبح على كل من يرغب في المرور ، أن يقبل ضريح ود الموهوم ، ويهديه باقة من الورود ، وسميت الإشارة باسمها ، وصارت الناس تشتم عطر ورودها من رحم أحزانها ، فأطلق على الشارع اسمها ، ولم يمض وقت طويل حتى صارت في كل الحي محلات الورود ، فأطلقوا على الحي اسمها ، واجتاح المدينة آلاف النادمين ، يقبلون الإسفلت ، ويقدمون الورود ، فأطلقوا على المدينة اسمها ، وأصبحت الفتاة التي ماتت بلا هوية ، هي بذاتها هوية لمدينة بأكملها مدينة (( ود ))
    انتهى
    أحمد كمال سالم
    إنسان حر وحر وحر
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2 رد: قبلة على الإسفلت ؟! - قصة قصيرة 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Aug 2009
    المشاركات
    216
    معدل تقييم المستوى
    15
    الاخ الكريم قلت لك في السابق انكتمتلك خيالا خصبا, و القصة الحلية تؤكد ما ذهبت اليه,تاخذنا بروعة في دروب و تعاريج الحكاية لتقدم لنا قصة ود التي تنتقل من الغمرية الى الشهرة.
    صور بديعة,وسرد ممتع و حوار يبرز دواخل الشخصيات و يفك خيوط الحكاية.
    مزيدا من التالق.
    مودتي
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3 رد: قبلة على الإسفلت ؟! - قصة قصيرة 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    السعودية
    العمر
    54
    المشاركات
    66
    معدل تقييم المستوى
    15
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حسن_العلوي مشاهدة المشاركة
    الاخ الكريم قلت لك في السابق انكتمتلك خيالا خصبا, و القصة الحلية تؤكد ما ذهبت اليه,تاخذنا بروعة في دروب و تعاريج الحكاية لتقدم لنا قصة ود التي تنتقل من الغمرية الى الشهرة.
    صور بديعة,وسرد ممتع و حوار يبرز دواخل الشخصيات و يفك خيوط الحكاية.
    مزيدا من التالق.
    مودتي
    أتشرف كثيراً بمرورك من هنا أخي حسن
    ورأيك دائماً محل إهتمام
    دمت بخير
    أحمد كمال سالم
    إنسان حر وحر وحر
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. قصيدة: العائدون إلى الإسفلت
    بواسطة أحمد الرجواني في المنتدى الشعر
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 30/01/2009, 05:26 PM
  2. قبلة الوداع ...
    بواسطة إبراهيم حميدي محمود في المنتدى الشعر
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 24/12/2008, 03:25 PM
  3. قبلة في انتظار الوداع
    بواسطة الحسن سعد الله في المنتدى الشعر
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 26/03/2008, 12:35 PM
  4. قصيدة قتلت المتنبي
    بواسطة نوف في المنتدى ديوان العرب
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 18/05/2007, 08:05 PM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

عرض سحابة الكلمة الدلالية

ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •