بين الماء والسماء



نشر هذا الموضوع في جريدة الزمان بعددها 3388 في 2/9/2009


كاظم فنجان الحمامي

مدن عراقية عائمة في عرض البحر, وجزر مشيدة على دعامات فولاذية مغروسة في الأعماق السحيقة, وفنارات تتلألأ بالأنوار ليلا لتضيء مسالك الخليج الحالكة, وتفتح متاهاته المظلمة فتهتدي بها السفن المتوجهة الى موانئنا, ومحطات مؤثثة بمستلزمات العيش والإقامة, ومصممة للمرابطة في ثغورنا البحرية, وعيون تحدق بالأفق البعيد, لتحرس وتراقب منافذنا الملاحية, وتعمل على مدار الساعة منذ قرون, وخبراء مسلحون بالخبرات الموروثة, والعلوم المصقولة بالمعارف الحديثة, ومعدات الكترونية وأجهزة لاسلكية مثبتة فوق أبراج المحطات الهائمة هناك لتبث تردداتها في الأثير, وتلتقط نداءات السفن القادمة والمغادرة من والى شط العرب.

كانت السفينة ( الشعلة) أولى السفن التي عملت كمحطة لإيواء رجال البحر, ثم تلتها محطة أخرى تحمل اسم (المنصور), ثم (الرشيد), وبعدها (الشروق) وهي المحطة الأخيرة, التي صممتها وشيدتها العقول اليابانية, فأبحرت من (نيجاتا) لتلتحق بمدخل شط العرب عام 1975, وهي محطة رشيقة أنيقة, عليها حلة بيضاء, تتوجها مدخنة برتقالية, موشحة بشعار موانئنا, وتعد من اليخوت الجميلة, ويصنفها البعض من الفنادق الصغيرة الراقية من طراز خمسة نجوم, لكنها فقدت بريقها بعد أن فقدت نجوميتها, وبانت عليها آثار العجز والشيخوخة. وما بين المحطة الأولى والأخيرة تاريخ طويل حافل بالوقائع والأحداث, كتب سطوره رجال أفذاذ, تغربوا في هذا التيه الموحش, ليرسموا صور رائعة من صور البحرية العراقية الزاخرة بالعطاء والإبداع, اذكر منهم: شيخ المرشدين البحريين الحاج عبد الله حمزة, ومحمد داغر, وسليم الهادي, وعبد الله علي, ومحمد سليم رجب, وصلاح شكوري, وعبد المحسن خضير, وجميل غضبان, وعمر السعدون, وجبار علي عودة, وجواد نجم السعد, ومحمود أحمد المهنا, ورجاء صالح رشدي, وفاروق عبد الله, ونجم عبد الله طعمه. وبادرت الموانئ العراقية مؤخرا الى إشراك محطة إضافية للعمل الى جانب (الشروق), هي السفينة (شمس),

ومن وراء المحطتين العائمتين, منصتان متناظرتان ومتباعدتان, ومشيدتان على ركائز ودعامات فولاذية مزروعة في منخفضين بحريين, هما خور (العمية), وخور (الخفقة). والخور رديف الهور في المصطلحات المائية, فالهور منخفض مائي في اليابسة, اما الخور فهو منخفض مائي في البحر.

بوشر بتنفيذ المرحلة الأولى من منصة تحميل النفط في خور (العمية) عام 1962 , ونفذت المرحلة الثانية عام 1978. وتتكون من أربعة أرصفة, بطاقة 12 مليون طن سنويا. اما منصة ميناء البصرة النفطي, فقد تم تشييدها في خور (الخفقة), واكتمل بناؤها عام 1975, ولها أربعة أرصفة, مصممة للعمل بطاقة 80 مليون طن سنويا. وتتردد الناقلات العملاقة على هاتين المنصتين الخاضعتين لإشراف وإدارة كوادر بحرية وهندسية مدربة, ومتخصصة بعمليات الإرساء والإقلاع والمناورة والإرشاد, ومنهم من تخصص بإدارة عمليات ضخ النفط الخام, والتحكم بأنظمة التحميل والسيطرة عليها, وتثبيت قراءة العدادات, وتقديم الخدمات للناقلات القادمة والمغادرة, والتنسيق معها عبر الأجهزة اللاسلكية الحديثة, ويتقاضى هؤلاء الرجال الأشداء أجورا أقل مما يتقاضاه أقرانهم في المنصات النفطية لحقول (رأس لافان), أو (رأس تنورة), أو (حقل الحوت), أو (رمثان), أو (الخفجي) وغيرها من منصات حوض الخليج العربي. لكنهم لا يكترثون بتلك الفوارق المادية والمعنوية, فقد فقدوا الأمل بتحسين أوضاعهم منذ عشرات السنين, ومازالوا يصرون على مواصلة عملهم المضني ليل نهار, في بيئة بحرية شديدة القسوة, ومحفوفة بالمخاطر والمصاعب, فما أن تتعالى الأمواج المتلاطمة, وتشن غاراتها على المنصات الفولاذية, حتى تهب عليهم عواصف أخرى تولدها الرياح المزمجرة, وتؤججها عفاريت الأعماق الغاضبة, فتتخلى المنصات عن هدوئها وسكينتها, وترضخ لسلطان البحر ومزاجه المتقلب, وتأخذ بالترنح والتمايل, فيشعرون إنهم سينجرفون مع التيارات المروعة, وتنقطع صلتهم باليابسة, لكن صلتهم لم ولن تنقطع بمالك الملك, ومسيّر الفلك. الكبير المتعال. .