طنجة الجزيرة
( رواية من الأدب المَمْدَري للصغار والكبار )

...............

المؤلف: محمد محمد البقاش أديب باحث وصحافي.
الكتاب: طنجة الجزيرة (رواية من الأدب المَمْدَري للصغار فوق الرابعة عشرة)
الإيداع القانوني: 462 ـ 98
ردمد 1114 – 8640 ISSN
الحقوق: محفوظة للمؤلف.
الطبعة الورقية الأولى: 2009.
النشرة الإلكترونية الأولى: غشت 2009.
القطع الموسيقية: من وضع المؤلف
الغلاف: للرسامة الإسبانية من أصل لبناني فاطمة سعيد مغير
Fatima Said MoguirC / Castillo Nº 40 Santa Cruz De Tenerife C. P. 38003 _ Telf. Mob: +34650484429
السحب: إفزارن للطباعة والنشر 94 شارع فاس، تجزئة صولار ـ ب ـ فينيتو رقم 3 ـ طنجة ـ الهاتف 0539336909 / الفاكس: 3993713105
..................

الفصل الأول:

الجناحان المكسوران
=========


يركب بغلته بمحاذاة الجمارك عند نقطة التفتيش بـ "ديوانة" البُرْج. ينطلق من مدشر "الرّكايعْ" نحو طنجة النصرانية، تتقدم به بغلته نحو مدينة طريحة يلامس الخنجر عنقها تأهِّبا لذبحها. يحمل جُبنا وصوفا وعسلا وقطنيات... يبتاع منه المتسوِّقون في سوق "فندق الشجرة"..

....................

خَلْف أسوار باب "الفحص ـ1ـ"، وعلى بُعْد أمتارٍ أرقامٍ سنويةٍ لاشتعال الانتفاضة الأولى، وعند مرتفعٍ أضحى مقْبرة لا تتأبّط رُفات المجاهدين، يجلس جِرْمُُ سرديّ في مُنْتزه قُبّة السلاطين.
تلك القُبّة مِشْرفة لا يطالها في سحرها وبهائها منتزه "سيدي المناري" ولا خميلة "الرّميلاتْ"..
تبْدو منه طنجة مُسْتلقية كأمٍّ أجْهضت جنينها.
وتبدو منها الأنْدلس كعروسٍ نفر منها عريسها.
يرتاد المُنْتزهَ؛ الطَّنْجاويّون..
يسْتمْتعون فيه برؤْية بحْر لا يزال يُراقص أطْياف عابريه من حَمَلَة حضارة أجْدادهم.
يرْصدون منه بواخر للصّيْد وهي تعْبر "رأس سْبارْطيلْ" إلى المحيط الأطلسي.
يتابعون تحْليق النّوارس فوق المراكب عند رحلة العودة ومطاردتها لبني جنسها وقد حملت أسماكا في مناقيرها.
يصلهم عبير الأنْدلس وحسيس جُنْد لا تزال تَصْطفق أرواحهم شوقاً لمدٍّ أطْول لإشعاع حضارتهم. يرصدون من مرْتفعه بواخر لآل كوهينْ، وآل نحومْ، يسْتقْدم التُّجّار اليهود الدّقيق والسُّكر والزّيْت والنّفط ويُخزِّنونه في حوانيت بزنقة تِطْوانْ في انتظار باعة الجملة والتقسيط.
يجلس القُرْفُصاء على بساط شاركت في حبْكه مخلوقات مَهَرَة، مهارتها في الصَّنعة لا يصل إليها بنو البشر، تقْبع تحْته في هدوء وصمْت، تعمل ليْلَ نهار في تكْسير المواد العضْوية وتقْليب التّربة حتى ينْتعش البساط ويبْهى ويتفجّر أَلَقاً وروْنقا.
يُخرج أبو الطاقية من جيْبه "سبْسي ـ2ـ" ومسحوق نبات القنّب الهنْدي المخلوط بطابا، ثم يشرع في شُرْب دُخّانه بنشْوة تسْتوْلد أُرْجوحة يسْتقلّها عقْله مسْتمْتعا مُتمايدا.
- آه .. واه..
( دخان.. دخان ).
- ابتعدْ إلى جهة اليمين.
- لست يمينيا.
- إلى جهة اليسار.
- لست يساريا .
- قفْ في الوسط.
- لست وسطيا، أنا ما بعد حداثي.
- إذن لا تقم ولا تقعد.
- وماذا أفعل وأنت مُنْفعل تطلب مني الابتعاد؟
- لا تبتعد، ولا تقترب.
- فهل أخرج؟
- لا تخرج، ولا تدخل.
- فماذا إذن؟
- بل لماذا هذه اللِّماذا؟
- أنا أسأل.
ـ لا تسأل ولا تجب. لا تنطق ولا تصمت. ما يفعله الناس قواعد نبتت من ثقافة لا تؤمن أنت بها، تَحَرَّرْ منها، ليس لك موْقع بين بني البشر في كوكب الماء.
- وأين موقعي؟
- تحت بِساط أبو الطاقية.
- أَ أْ...
(لم يتركه يُكمل)
- اخرسْ، أو أرمي بك في جُمْجُمَة جدّك.
لم يدعه الجنّيُّ يتظلّم أكثر. عنّفه وهدّده. دخان البخور يصنع سحابا لا وَدْقَ يخرج من خلاله.
تحْتجب خلْفه عرّافة طنجة مع ضيوفٍ وقحين، يعتقدون في تفوُّقهم عند حضور الخرافة وأوعية الخرافة، يكثر حملتها كلما ساد الجهل ورُكب التّجهيل.. حضر إليها "صَيّوفة" يدفعه الطمع في كشف غيْبه.
تنبّأت له بغيْبٍ مضى وولّى، كان يجهله، لقد حَيِيَه منزوع المخّ كضفدع التجارب لا يعقل شيئا.. يركب بغلته بمحاذاة الجمارك عند نقطة التفتيش بـ"ديوانة" البُرْج.
ينطلق من مدشر "الرّكايعْ" نحو طنجة النّصرانية، تتقدم به بغلته نحو مدينة طريحة يلامس الخنْجر عنقها تأهُّباً لذبْحها.
يحمل جُبْنا وصوفاً وعسَلاً وقُطْنيات..
يبْتاع منه المتسوِّقون في سوق "فندق الشجرة"..
وعند تأهُّبه للعودة إلى أهله وذويه، إلى مدشره ورعيه، إلى فلاحته وزراعته؛ افْتقد دابَّته.
لطالما تمرّدت على ديْدنها.
((سرقوها أم ضلت؟)).
يتساءل.
لم يحدث أن تمرّدت عليه إلا عند انفلاتها من عقالها.
أظلم الليل عليه وأعتم فقرّر المبيت في فندق الشجرة انتظارا للصبح لعلّ دابّته تقلع عن طيشها فتؤوب إلى رشدها وتعود إلى مربضها.
لقد اعتادت على ذلك كلما انفلتت من قيْدها، أو حرّرها الأطفال للتسلية معها، والبالغون للفُحْش بها.
تتبع الكلأ في المراعي والمروج، ثم تعود، ولكن بسرعة إلا أن يُحاط بها.
أشرقت شمسُُ بشعاع مُسْتعارٍ من نَجْمٍ هرِم. ألقت به على ربوع طنجة فاستدفأ لها جِلْباب أبو الطاقية عند مُنْتزه يتشامخ على الملك خوفو، وعلى جبل توبْقالْ؛ اشْتراه أبو الطاقية عنْد استقراره بمدينة ابن بطوطة.
بيْنما صيّوفة يغالب نعاسه تحت دفئ المدينة؛ وقفت عند رأسه امرأة بدينة من بطنها، يشفق الناظر إليها ويدعو لها بالفكاك، ترْتدي "كُرْزِيَّةً ـ3ـ" صوفية بلوْن حمار الزَّرَد، محْبوكة على نسَق أخّاذ، تفوح منها رائحة العِهْن.
لم يأْبه لها، أو يحْفل بحضورها.
أوْمأت إليه..
لم يبال..
تكلّمت معه.
كأنها لم تتكلّم.
وحين جاء على لسانها الرّيال الحَسَني تنبّه وأمعن النظر، حدّق وحفل فأصغى..
- ماذا؟
فقالت له:
- هل لك رغبة في عمل تأخذ عليه ريالاً حَسَنيّاً؟
انتصب ووقفت أُذُناه كالأرْنب البرّي، وتحسّس من خياله لوْن النُّقْرة، فقال:
- ماذا قلت؟
- هل تقبل خدمة مقابل الفلوس؟
- مُري.
- لديّ زوجُُ غائبُُ عني مُنْذ خمس سنوات، ولا أعرف إن كان حيّاً، أو ميتاً.
- إيه..
- تذْهب معي غداً إلى القاضي وتنْتحل شخْصيّته.
- أفعل.
- حين أطْلب منه الطّلاق، وأعْلن تطليقي منْك تجيبه على سؤاله لك بأنّي طالق.
- إيه..
قلقت زوج صيّوفة على تأخُّر زوجها من تسوُّقه الأسبوعي. وقفت كما لو كانت إفريقية سوداء تضع الدمالج حول عنقها، تكاد تعلو "لابازْ ـ4ـ" شوقا لرؤية زوجها.
تتطاول جاهدة كما لو كانت "كوبـا كابانا" Copa Cabana.
تفحص القادمين من المدينة النصرانية وتتصيّد صيّوفة..
طمأنها مرافقوه، فزوجها يبحث عن مطيّته النَّشيزة، وعندما يجدها يقدم عليها بمتاعه..
وجاء دورهما، فدخلا على قاض قد ركب ستّ دورات من دورات القمر حول الشمس، ووقفا بين يديه.
((تكلّم)).
أشار إلى المرأة يطلب منها الكلام.
فابتدره القاضي بغضب:
ـ تكلم أنت، ألست رجلا؟
ـ يا سيدي هي التي يجب أن تتكلم، لا أنا.
نطقت المرأة برغبة زوجها في تطليقها منه.
- ولكنه لم يقل شيئا، لم يتكلم، هل ترغب حقّاً في تطليق زوجتك؟
- لقد طلّقُتها دون شهود، فأنا الآن أشْهدك على طلاقها منّي.
- حسنا.
ما إن سمعت المرأة الطلاق حتى أخرجت من بين كُرْزِيَّتها في تَقَيْصُرٍ ظاهرٍ صبيّاً صغيراً يغطّ في نوم عميق جرّاء إطعامه نباتاً مُنوِّما وتقول: "خذ معك ولدك، فلا حاجة لي به".
ويردف القاضي:
"نعم خذ ولدك معك".
تناول الصبيّ وهو مُنْبهر.
ضمّه إلى صدْره يتحسّس سرّ الحياة فيه، ثم خرج.
ظلّ طول يومه طوّافاً والصبيّ نائم.
دار طنجة مُتسكِّعاً قد تعطَّل تفكيره.
تصْدُمُه أعينُُ فضولية، وتعيد الصّدام حتى تنبّه له أبو الطاقية فاسْتوْقفه، ثم سأله:
- أنْت برّانيّ، ما بك؟
- هذا الصبيّ ليْس ولدي.
- ماذا؟
- ليس ولدي.
- كيف؟
- ...........
رقّ أبو الطاقية لصيّوفة بعْدما قصّ عليه قِصّته. أشْفق عليه وعلى الصبيّ فشرع يدير في ذهنه حلولا لتخْليصه من مصيبته. طلب منه الحضور في يوْمٍ انْكشف للضّوْء السّاقط عليه.
وعنْدما حضر الموْعد المُدان ذهب نحْو حيّ الدّرادب، سار إلى زنقة المعدنوس يقْصد حمّاما عموميا.
كان حمّام "الجزايري" ساعتها غاصّاً بالنّساء، صعدا الدّرج، وطُرق الباب على اسْتحْياء، وعنْدما فتحت "الكَلاّسة ـ5ـ" خاطبها أبو الطاقية في ثقة:
"زوْجي تأخّرت عليّ كثيرا، وقد حان وقْت ذهابي إلى عملي، ناوِلْها ولدها حتى لا أتأّخر عن العمل".
تسلّمت الكَلاّسة الصبيّ من يد الرجل، وأوْصدت الباب خلْفهما.
كاد صيّوفة يطير فرحا.
شرع يقبِّل رأْس أبو الطاقية ويديْه. يدعو له ويدعو حتّى...
"يا سيدي.. يا سيدي".
تبعهم نداء ظلّ يرْتفع وقْعه شيْئاً فشيئا حتى تبيّناه.
التفتا ليجدا خلْفهما الكَلاّسة تهرْول نحْوهما، استوْقَفت والد الولد فتوقّف للتوّ وهي مُتقدِّمة، هل لتردّ عليه صبيّه؟ ربّما.
أُسْقِط في يد صيّوفة ودارت به الدنيا فحنى رأسه يسبق مرافقه لتناول الصبيّ، فمالت عنه المرأة إلى رفيقه وهي تقول:
- ما اسْمك يا سيدي، خدّوج زوجة من؟
ردّ أبو الطاقية:
- زوْجة الرّجُل.
عادت إلى دفئ حمّامها ترعى صبيّ خدّوج ريْثما تسْتحمّ أمّه.
صرف أبو الطاقية صيّوفة، وافْترقا.
...................

الفصل الثاني:

الود المتراشق به
=======

تحمس أبو طيبة وركب عاطفته، صارت مِهاده وغواشه، استلقى على نعومتها، واغترف من نعيمها، فاستحلى حلاوتها؛ وألف عذوبتها. تناول الصبيّ فرشقه البرعُم بملاحة ودية، وسدّد سهما من بُنُوّته إلى أُبُوته. ضمّه إلى صدره وشرع يقبّله، يداعبه بلحيته الناعمة فيدغدغه حتى يكاد ينفجر لدغدغته خلاّد.
.....................


ما إن تَخْرجْ امْرأة من قلْب الحمّام، وتنْعش جِلْدها في بهوه، ثم ترْتدي ثيابها وتهمّ بالمغادرة؛ إلا وتسألها الكلاّسة عن اسْمها، تردّد اسم خدّوج بعدد فقرات العمود الفقري لقطِّها الوديع ـ6ـ، طُرِق كثيرا ولاكتْه الألْسن كما لو كان عِلْك الدّعاليق يمْضغه العَرْجي شعْرا.
تكاد تضْرب لسماعه الآذان.
سكن رؤوس النّساء من غيْر استئْذان.
اقْتعد الدّهشة والحيرة.
تقف الشّفقة حاجبة خدّوج وما بقي في الحمام مسْتحمّة واحدة.
البكاء لا يعيد الصبيّ إلى أمه "المَجْلومة ـ7ـ". والضياع لا يعرف إلى الرّحْمة سبيلا.
خدوج امرأة جريح القلب مسكين صبور، تبكي وتبْكي وغازات الهواء تخْرج من جَوْفها بالسَّوْسَن فوّاحة. وكلّما ارْتفع صوْت نحيبها علا صوْت صراخ الصبيّ تسْتَعْلن به حاجته إلى الطّعام والشّراب، تلْك حالة يفْقهها الحيوان والطير، يفقهها كل من يملك سر الحياة كما تقول الخبيرات.
إنه جائعُُ كثير الِمُجاج يتضوّر مُسْتطْعِما، تشْتمّ حاجته العُضْويَّة وغريزته لبن أمّه..
الحديث بين النّساء دار ولم يعد يدور، ولكن الكلاّسة في حيرتها لا تزال تدور كخُذْروف رمى به ضرار وهو يلعب مع أخته هالة.
تتخبّط المرأة في استنتاجاتها.
"ماذا أقول لزوْجي إن سألني عن الصبيّ وأنا داخلة به عليه الدار؟"
هذا ما يدور بخلدها.
"آتَّخِذه ولدا؟
ولكن لي حُفَيْنة من الإناث وحَفْنة من الذّكور، وإن قبلتُ، فهل سيوافق زوجي؟".
واختلت إلى نفسها وإلى الصبي، وشرعت تدير في خَلَدها صورا ليس لها ظلّ تحتمي به من حرّ المصيبة.
القلْب منْفعل، والجسم مضْطرب، والصبيّ يصَّعَّد في بكائه وصراخه، ولعلّ الموت قد حلّ ضيفا في الحمام ينْتظر القِرى، وما العمل؟.
تلْفِظ أقوالا لا مطيَّة لها، يخرج لها رذاذ الرّيق دون أثير، وخرجتْ.
خرجت وتركت خلاّدا للحيطان يصرخ، وللماعون يعزف أنشودة الضياع.
هرولت على عجلة تستدرجها أجراسُُ دون فَحيح.
قطيعُُ من المَعِز للتشابوري Chappuri يركض في الزُّقاق متسابقا، يقوده راعٍ كبِر بنقْص فظيع في إفراز هُرْمونات الغُدَّة الدَّرَقيَّة.
في حركة المَعِز تُدقُّ الأجْراس إيذاناً بحضور بائع الحليب. يبحث المَعِز في القُمامة عن قشور الخضر والفواكه، يلتهم قشور البطّيخ والجزَر واللّفت واليقْطين والرّمان والفجل..
القطط تتعارك تحت المائدة، والكلاب عند الباب بحركتها مُسْتعْطية، ليس من بين القمامة عظامُُ وجلودُُ للحوم حمراء أو بيضاء أو زرقاء، في كل وجْبة يحضر الكلاب والقطط فلا تجد الفضلات إلى القمامة سبيلا..
تقْلب المعز جرادل الناس فتبعْثر القمامة.
لا يُتذوَّق طعْم الخبْز اليابس من بُرّ وشعير وذرة لانعدامه، يندر كالكبريت الأحمر، لم تكن طنجة حينها تعرف ظاهرة الخبز المرمي مع القمامة. يتبع التشابوري حمار له تقوده تيريسا Tereza مُرْتدِيةً سِرْوالا مُثْخناً بالرِّقاع، العادُّ لها يقف على حروف اسْم مبْدع طوق الحمامة وانْتفاضة الجياع، تجمع القمامة وتضعها على ظهر حمارها وتذهب بها إلى حظيرة خنازيرها. تختلط مِِعازها بِكْر كلّ صباح بمِعَز مَعّازٍ آخر، ثم سرعان ما تنعزل.
لم تدفئ خدوج الحليب، لا يزال دفئه في ذروته، لا يزال يقطر من عنْزَة ضريع.
سقت صبيّها.
أزالت عنه بِرازه.
ألقت بخِرقه المُبْتلّة.
لفّتْه بمِنْديلها، وشرعت تداعبه بصوتها وملامستها حتى انطلقت أساريره، فعانقته سِنَة، وتلاحقت في عِناقها كموْج البحْر، ثم غطّ الصبيّ في قاعٍ صَفْصَفٍ أبْعد مما يصله العنْبر غطْساً.
وضعتْه في مكان آمن، وتركت نور المصْباح يحْرسه.
استوْدعته وسط ريحٍ زكيّة لبدينات فاتنات لا يفرزْن الكيماويات مثل بديناتنا، ثم انْطلقت.
لم يرْتَح زوْجها لمظهرها، ولا أولادها لِبُحَّتِها وحركة جوارحها.
سلوكها أثارهم فطوّقوها بالأسئلة.
تجيب على أسئلتهم بحروف باردة، وتردّ على اسْتفْساراتهم وهي شاردة، تلاحق تركيزها فيتمنّع عليها.
دماغها نشط كما لو كان مُتمايداً من صَعْقة مُخدِّر، يسْتدعي مَخْزونه ليُسْعِفها بحلّ.
ما رسمته يسْتميلها للاستجابة، ولكن قد أُحيط بها. تبْحث في الدّولاب، فتُخْرج أدْراجه باحثة عن ألبسة بالية، وخِرَق فانية، تنْوي تقْطيعها للاستعمال، ستصْنع منها حفّاظات.
"خدّوج.. خدّوج..".
- لم أجد خدّوج.
اسم تبحث عنه الكلاّسة. لطالما استفسرت عنه مغادرات الحمّام.
دخل في روعها أنه اسم أمّ خلاّد، تتمنّى أن لو كانت هي أمّ خلاّد، لأنها خدّوج الثانية.
- خدّوج.. خدّوج.. ما بك؟
قلق زوج خدوج لسلوكها الغريب.
داخلته الحيرة، فزوجه لم تعد تتكلم كلام العقلاء، فماذا دهاها؟
إنها غائبة عن رشدها.
لم يعهد فيها شيئا من ذلك.
ليلة واحدة ويتغيّر كلّ شيء.
يُمْعن في استفسار عقله ولا مجيب.
نهض وَجيباً لها فأخذها من ذراعها، ثم أجلسها بجواره.
أدار وجهها من ذقنها بأصابع اللُّقمة يتأمَّل صفحته المشرقة، ولكنه لم يعد مُشْرقاً كما كان، الوجه السنيّ البهيّ يعْلوه الشُّحوب، ويستعْمِره السّواد.
يحدِّق إلى عيْنيها فإذا فيهما بريق من الهمّ والغمّ، من الأسى والألم، وعلى المُحيّا عضلات تخاصم بعضها بعضا. صوْتُها لا ترنّ له حباله. ذراعاها جليديتان، ويداها مرتعشتان.
لا يَطْعَم وجْهها من نُخاع عظْمها.
لسانها معقودُُ من فرْط الذّهول.
أدخلها عليّ عُشّها وطرحها على فراشه متلطِّفاً شفيقاً.
دارُُ حافلة، وأبناء بَرَرَة.
تتعشّق فيها الخدمات طلباً للرضا.
أمّ ودودُُ يخاطَب فيها الودّ، ويُقام لها الوَجْد. يتحرّكون في خدْمتها بأريحيّة مُتَوَّجة.
أميرة نُبْل وصاحِبة لُطْف وسيِّدة رِقَّة، يكادون يعبدونها، أمّ مِِشْفاقة مِحْنانة.
ظلّوا رهْن إشارتها حتى اطمأنوا إلى وضعها، وارتاحوا قليلا لتحسُّنٍ بدا يغْشاها، ثم تركوها تنام لترْتاح.
لم تستطع خدّوج إخراج ألبسة بالية من دولاب "برّاكتها ـ8ـ" La Barrakaلتصنع منها خِرقاً للصبيّ.
حيل بينها وبين صُنْع الحفّاظات، ولو أرادت شراءها من الحوانيت فلن تجدها، لم يكن عصرها عصـر بانـبرس Panpers، أو بابيـدو Babido، أحيط بها وهي مشدودة مشدوهة، لا تودّ كشف سرّها حتى لا يُعلم مرادها، وحين غفلوا عنها مطمئنين إلى نومها انسلّت مهرولة نحو حيّ مَرشان.
حاذت مقابر الرومان وقد هجرها رفاتها.
مقابر لم يكن بعد قد طمس معالمها المجلس البلدي لمدينة طنجة حتى لا ينْجذب إليها السياح فتنتعش لزيارتهم طنجة البئيسة.
لم يكن مستشاروا المجلس قد نبتوا بعد، كانت الجراثيم في طوْر الحضانة تتربصّ بطنجة من البوادي منْتظرةً جلاء الاستعمار التقليدي، لا يدخلون المدينة الأبيّة إلا بجواز سفر وتأْشيرة، وإلا فبهجرة سرية من الغابات والخنادق وعبر البحر...
على جبل من صخْر بُنِّيٍّ وقفت. عند الحافة حُفرت القبور، كذلك معتقد العوام، ولكن الباحثين من الإسبان يرونها حفرا استعملها البيزنطيون للصباغة التقليدية.
أضحت حُفَراً تَمْتلئ بماء المطر فتصير موْرداً للطير والكلاب والقطط حتى حين. يظل الماء منْهلا لكثير من الكائنات حتى تجلده الشمس بسياطها. أنساها المُنْتزه ما خرجت من أجله. أمامها بحر لا يزال يتأوّه لضياع الأندلس، تتشامخ عند نهايته جبال تحْمل أعْلام النِّكاية، وفي سفوحها أوركسترا تعْزف نشيد العوْدة.
طافت في الأزقّة تستعْطي ألْبسة مُسْتعْملة، ولكن زمنها زمن الرّقاع. ألف الناس في الأفُق الغَيْبي الشِّحاذة الموْسميّة فصاروا يبخلون أكثر مما يتكرّمون.
في كل صيْف تحصل هجرة واسعة للشّحاحِذة من الجنوب الغنيّ إلى الشمال الفقير ويطُفْن على ساكنة طنجة وأحيائها يسْتَعْطين الخِرق المستعْمَلة، يتسوّلن في الأحياء الشعبية بمظهر وسخ يحتجّ لوسخه ماء دار الدّبغ، يصُتْن بلكْنة مختلفة عن لكْنة خدوج، تستعطي خلْف زمنهنّ بلباس نظيف وبدن نقيّ، بينما هنّ يستعطين مُتّسخات اللِّباس والبدَن.
حصلت خدوج على صُرَّة مُثْخنة بقُطْر طول المعْي الغليظ، صُرة مليئة باللّباس المستعمَل، ثم عرجت على الحوانيت واشترت سميدة القمح وهرولت في ريح شرقية تمنع توازنها، تسرع متعثرة نحو حمّامها لرعاية الصبيّ وإطعامه بما اشْترت من دقيق القمح.
أذّن الفجر وهي جاثية على سجادة من خوْص النخيل تدعو ربّها وتدعو واثقة ولا تعرف ماذا تطلب منه.
الصبيّ إلى جوارها قد امتلأ شبعا فشرع يقرع حبال صوته متسمِّعا وهو يتحسّس ريح أمّه الثانية. إلى جواره تجلس خدوج هادئة ترعاه وتدعو له.
تنتظر أبو طيبة على موعد مع فتح الحمام لدور الرجال بعد صلاة الفجر.
فهل تغادر؟
وإن غادرت، فهل تأخذ معها الصبي، أم تتركه في الحمام؟
وطُرق الباب وما كان ليطرق لولا الشناكل من الداخل.
لم يعتد أبو طيبة على طرق باب الحمّام، تعوَّد فتحه واقتحام بهوه وذلك منذ سنين.
رصَّت خدوج مِصْراعيه، وأحكمت إغْلاق الباب حتى لا تفاجَئ.
ولمّا فُتح الباب انْبهر أبو طيبة، لم يكن يتصور من مَثُلت بين يديْه، مَأْتاها مُسْتغرب، ووجودها مستنكر، ولكنها هي، هي هي ..
أدار في رأسه ما أدار، ولكنها:
لم تكن لتحضر لولا وهْمها أن الوقت ليس فجرا، فهل ضربها حمار الليل؟ ولكن لم أغلقت الباب؟.
تلك قراءة أبو طيبة، فبادرها:
"ماذا تفعلين هنا، الدور دور الرجال؟"
ألقى إليها بسبعة وعشرين حرفا بالكاد صنعوا فقرة لثقلهم على لسان أبو طيبة، قذف بها وهو داخل إلى عمله، فلم تردّ عليه.
ولكن الرد جاءه، أجابه خلاّد.
لقد أطلق الصبي صيْحة أعقبها بثانية وثالثة..
شرع يبكي مدفوعا بطِرْموسْطا صنعتْها له الساعة البيولوجية، يكاد يفصح عن جوعه بكلمات.
دارت في رأس أبو طيبة ظنون أربعة، وزيدت فكانت بعدد عيون النحلة ـ9ـ.
لم يستطع إمالة ظن على ظن. فخدوج في نظره امرأة ملتزمة بالذهاب إلى عُشّها في كل يوم، إذ هناك من ينتظرها. زوجها عليّ رجل طيّب، وصديق له، وهو ودود معها، يحسن معاشرتها، عليُُّ يَأْلف ويُؤْلف، وخدوح لو كانت قد حملت من غير عليٍّ، أعوذ بالله؛ لكان أمرُها قد انكشف منذ مدة، إذ كيف يظهر لها مولود وهي ملازمة لبيت الزوجية، فما هذا؟
ظل يسألها وهي تجيب بجملة واحدة:
"هذا ما أعطى الله".
طوّقها بالأسئلة، وحاصرها بالشكوك، وسيّجها بإدانات مُبطَّنة فغضبت ولم تستطع البوح، احتمت بصمتها.
يردد أبو طيبة كيف؟ كيف؟
ولا جواب على كَيْفَكَته سوى بعبارة:
"هذا ما أعطى الله".
حفلت خدوج بالصبي وأبو طيبة يفور غضبا، ويلقي من شدْقه زبَدا.
صنعت لنفسها قوقعة وسكنتها، أغلقت عليها بابها إلا من ثُقْب رفيع تراقب منه أبو طيبة وتقرأ عن بعد ناصيته.
يتقدم الكلاّس ويتأخر في بَهْو حمّامه، وبين كل جيئة ينحني على خلاّد متأمِّلا جبهته، وعند رصده لجبهة خدوج يُمْطرها بإيماءاتٍ مشبوهة.
ظل مهزوزا لا تكاد تحمله قدماه إلى أن هدأ قليلا، وتغيرت نبرة صوته، ثم ألقى إلى خدوج هذه المرة يقول:
"اصدقيني القول، ولا خوف عليك".
فتح شرنقتها بمرونته للمماثلة، وفتح شهيتها برقته للمكاشفة، لم تَأْتَزِر خدوج إلا بصِدْقها.
فقالت له:
"هل تريد الصدق وتساعدني على مصيبتي؟".
- تكلمي ولا تخافي.
- ...............
- إنه من الآن ولدي، انتهت مشكلتك.
لم يكن أبو طيبة رجلا ولودا.
ساكنه الحرمان، وسيّج خصوبته العقم.
لطالما طفا على مُحيّاه إحساس الأبوة ولا سبيل إليه.
لطالما ترجّى زوجه في تبنّي صبيّ مَجْلوب من المستشفى الإنجليزي التابع للكنيسة الذي يمارس فيه التبشير والتنصير، يفتح بابه لنتاج المعاشرة خارج محار الزوجية.
لطالما استعْطفها وتشفّع لها بعاطفة الأمومة، ولكنها كانت ترفض في كل مرة، تأبى أن تتبنّى ولدا من غير صُلْبها، لا تقبل مساكنته.
لم يطل على الدنيا بعد العصر الجينومي. ليس ممكنا في بيئة أبو طيبة إجراء عملية الاستنساخ، فمن ينبهه ويوصله إلى أخذ نواة خلية منه، وحقنها في بُويْضة زوجه؛ ثم زرْعِها في رحمها؟.
تحمّس أبو طيبة وركب عاطفته، صارت مِهاده وغَواشه، اسْتلْقى على نعومتها، واغْترف من نعيمها، فاسْتحْلى حلاوتها؛ وأَلِف عُذوبتها.
تناول الصبّي فرشقه البُرْعُم بملاحة وُدِّية، وسدّد سهْماً من بُنُوّته إلى أُبُوّته.
ضمّه إلى صدره وشرع يُقبِّله، يداعبه بلحيته الناعمة فيُدَغْدغه حتى يكاد ينفجر لدَغْدغته خلاّد.
غطس في قاع الحال يستدْرج إحساسا للطُّفُوّ على الجوارح.
لم يذق طعْم الأُبُوّة ولا عاش لحظتها، ظلّ مُنْتشيا بحمْل خلاّد بين ذراعيْه حتى أخْرجته خدوج بتنبيهها:
"لقد بدأت أسمع هديرا يستبان منه صوت الرجال، فلعلهم قادمون للاستحمام".
فتح أبو طيبة الباب وهو يقول:
"احكمي إغلاقه بالشناكل ولا تفتحيه لأحد، تذرَّعي بأني غائب، وسأعود بسرعة، أحمل جوهرتي الغالية لأستودعها كفّاً ناعمة، وقلباً رحيماً، ثم أعود".
انْصدع الفجر على ربوع طنجة، وعلى موكب زوج أبو طيبة.
تركب دابّة مع مُتسوِّقين من مدْشر حكّامة الذي تنْتسب إليه، قدمت بصحبتهم، ثم فارقتهم في فندق الشجرة.
دخلت زوج أبو طيبة بيتها لتجد أمّها ترعى صبيّا جميلا استوْدعه لديْها أبو طيبة، ظنّته أوّلَ أمرها بُرْعُم أحد من جيرانها، وما إن علمت بعد استفسار سريع حتى استشاطت غضبا، ونفذ منها عقلها عبر أخمص قدمها اليسرى، وصاحت في وجه أمها:
"يتبنّى أبو طيبة ولدا وأنا لم أوافق عليه، لِمَ لم ترفضي استِوْداعه؟ ألست تعلمين أني أنا العاقر وليس أبو طيبة؟ أين هو ؟ أين؟"
فردت عليها:
"لقد خرج منذ حين".
- ناولنيه، سألحق به وأرميه بولده هذا، وليتني أعلم أمّه الساقطة.
أقبلت زوج أبو طيبة تحمل خلاّدا حتى أشرفت على الحمّام العمومي تجرّ معها غضبها، ويدفعها من الخلف كفّ الفضيحة. تريد تشويه سُمْعة زوجها، وفضْحِه أمام الناس.
ليس بذهنها مكان لفضل لا يُنسى، أو عشرة لا تداس دوْسا، لا محبّة شفيعة، أو معاشرة منيعة.
ولما وقفت على مدخل الزُّقاق رمقت حشْدا من الناس حافلين بما يجري، يتجمْهرون لمعاينة ما جدّ في زُقاقهم، وحين اقتربت مُتَسَلْحفة بانْدهاشها، تمشي على زُقاق ناءت بقدميْها، رأت زوجها مُقيَّدا وإلى جواره خدوج وهما يُدفعان بمائة وثمانية عَظْمة من عظام الأكُفّ، أيادٍ قاسية تُمْعن في التجْريح والإهانة.
وما إن تبيّنت من مظْهر الإدانة، وكانت تتسلّق الشّكّ لحْظةً بلحْظة حتى عَقَدَ قلْبُها على أبُوّة أبو طيبة للصبيّ خلاّد، وكيف لا وهذه كلاّسة الحمّام قد ضُبطت مُخْتليةً به في مكان عمله؟ "الله يعطي الصّحة للجيران الذين فضحوهما".
استدارت تبحث عما بَيَّتَتْ؛ امرأةً، أو بِنْتاً تستوْدع عندها الصبيّ لغاية في دخيلتها، رصدت جباهاً لا توحي بالاطمئنان، فأسرعت بالصبيّ إلى زِبالة لم تكن قد أنبتت ساعتها جامع الموحّدين، ثم وضعت الصبيّ في جهة من جهاتها، ولولا خشْيتها من صياحه لألْقت به مثْلما تُلقى أكْياس القمامة، ثم عادت إلى المهرجان تنوي المساهمة فيه.
تسلّلت من بين المُتجمْهرين حتى اقتربت من زوجها، غضّ أبو طيبة بصره بعدما رماها بعين شفيعة يُهْرق منها الدمع، وتبْرق منها البراءة، ولكن "العالية" قرأتها إدانةً وتجريماً، اقتربت أكثر، ثم سدّدت ضربة دامية بكفٍّ حداثية إلى بطن أبو طيبة، وأثْنت بالثانية على خدّوج، ولولا تدخُّل الشُّرَط لاستعارت أَكُفّاً ما بعد حداثية ولزادت من الطعنات.
اعترفت "العالية" بعزمها على قتل زوجها الخائن، وخليلته الساقطة.
وحين ساقوها إلى الزِّبالة حيث رمت بالصبيّ، وتركتْه يرْتع في نتن وقرف، لم يعثروا له على أثر.
................


الفصل الثالث:

الجني المطمور
======


لا ينزل خفقان قلب المرأة عن مائة وعشرين خفقة في الدقيقة الواحدة؛ إلا عند نومها. أحس الزوج بكراهية زوجه لخلاد. شرع يفكر في عمل شيء ما يليّن به قلبها نحوه، ويفتح صدرها للإحسان إليه. فالأمر غريب، والوضوح فيه جلي لولا غياب الشكوى من المتظلِّم الصغير..
....................

يطوف "فَرّوجانْ" بشارع إِلْكوميرْسيـو El Ccomercio، وإِلْكْرسْتِيانو Cristianó El والتّشاطا Chata.. قويّ البنية مُكْتَنِز نَضير، يملأ العيْن فتضيق بكثافته، ويهزّ القلب فيرْتعب لصرامته. "فَرّوجانْ" أجيرُُ تابعُُ للإدارة الاستعمارية، يبحث عن أحداث مشرّدين، وأطفال مهمَلين قد تُخُلِّيَ عنهم، فإذا عثر عليهم اقتادهم إلى ملجأ بحيّ القَصَبَة، ثم ردّ غيرهم إلى أهلهم وذويهم إذا كانوا شاردين غير متخلى عنهم.
سيريلو Serelo قَيِّمُُ على حيّ "أَمْراحْ"، نظيره في الخدمة؛ على حيّ القصبة، وثالثهما؛ على حي "دار البارود". كلما جنّ الليل حمل منارة في يد مَمْدودة ينير بها الدّروب والأزقّة، فإذا عييَت ذراعه، وكلَّت يده من حمْل الفنار، استبْدله إلى الذراع الأخْرى. يسير ناعتا بأصابع مُنكَّسة. يصْعد الدُّرج، ثم يهبط بمشْعله. يتبع الراجلين ويؤنسهم، يسامرهم بسمرات تدرج درجهم، وتتبع خطاهم حتى تدخِلهم دورهم.. لم تكن المصابيح "حضّارة ـ10ـ" على حيطان، أو ساريات. منارات نُصِّبت قبل سقوط الأندلس، ثَبَّتها الغرناطيون في حيّ البائسين Albaicin لهداية الراجلين وراكبي الدّواب.
بحيّ القصبة توجد دار للعدول ومحكمة وسجن. قاضي المدينة السيد: "السعيدي" يقفز على أحكامه "فايو"Fallo الفرنسي، مُعَمِّرُُ يملك صلاحيات فوق صلاحيات القاضي، إذا اقتيد أحد إلى المحكمة وكان الدور على فرنسا في حكم طنجة الكتابية ومرّ عليه وقرّر إطْلاق سراحه، يحرره دون محاكمة.
في "البورديل" El Burdelبحيّ "بني يْدّْرْ" تقف دور مُصْطفّة متكاتفة متوجِّعة، تئنُّ من مُخاط لا يسلم له نسب، ولا يقبل به أدب، تسْتوْطنه عاهرات خاويات من ثقافة المثْليّات، يستقبلن زبائن خاوين من ثقافة المثليين..
دورُُ مُخصّصة لمن يمْتهن إتْلاف البُنُوّة وتضْييع الأُبُوّة، لا يحقّ لأيّ أجنبيّ من أيّة جنْسيّة أن يطأهنّ، ولا لأيّ مغربي لا يملك تعريف طنجة الدولية أن يركبهنّ.. مِرْحاضُُ مُخَصّصُُ لطنْجاوة، يضعون فيه مقْذوفاتهم المُخاطية.
يمْتلأ الحيّ بمن تستَّرْن على خيانات أزواجهنّ، ثم ضُبِطْن " قِطِّيّات ـ11ـ"، يُقْتدْن إلى الكوميساريا، ثم يُنْقلن إلى المستشفى، لا تُحْفر أبْدانُهُنّ رَبْصاً بفيروس السيدا؛ الذي لا تزال تسْتأْثر به مُخْتبرات ألمانيا، يرصدون السيفيليس والزُّهَري والسَّيلان.. ثم يُمْنحْن بطاقات تشْهد على هويّتهنّ، وتُرخِّص لهنّ بمتعة الزنا كما في مذهب الشيعة الإمامية.
طوطْ.. طوطْ..
ينْفخ في بوق ثوْر سَلِم من علَف الجنون، يوقظ به النّائمات لإخْراج زِبْلهنّ، يحْمل قُفَّة دوميَّة "وَدْراسِيَّةً ـ12ـ"، يضعها على كتفه ولا يتحرّر منها إلا عنْدما تستقر فوق ظهْر حماره؛ الذي لا يزال يرتدي برْدعة الجِحاش، يجوب الأزقّة في يُسْر ينأى عن دابّته؛ التي لا تزال تتهجىّ في تعلُّم المشْي، رسغها كأنه رداء أفْعى، لطالما بركت عند محاولتها تجاوُز الدّرج لقلّة خبرتها، لم تنْبطح قطُّ كما انبطح حمار النيل المنتفخ، وبغْل سارْت المتّسخ..
كلما أثْخن ظهْر حماره توجّه به نحْو مطْرح النِّفايات لإفْراغ زِبْل السّاكنة المتفلِّجة، كهْل صبور شكْلُه كالرَّمْز الحُلْو الذي أُكل كَعْكاً تشَفِّيـاً بسقوط الخلافـة العثمانيـة، لذّ الكرواسان Le Croissant وطاب؛ ولم يزل.
يتقدّم بجحْش بدُن فوْقه "الشّواري ـ13ـ"، ليست له رافعة غير ذراعيْه، وتفهُّم دابّته، ذلّلها له ربُّه إكْراماً له، ولولا فراغه من ثقافة النَّخْس لما انْقادت له طوْعا.
يدْفع الكليكوجين ذراعيْه حتى تسْقطان الشواري، وعند ارْتطامه بالأرض صرخ وصاح، كذلك ظن الزَّبّال، ولكنّه صوت صبيٍّ جعله يتردّد في حيرته ودهْشته.. ينْشط بذراعيْن عاريتيْن، يرمي الزِّبل النقيّ، ينْفلت منه الصّوت وينْفلت حتى اصْطدم نظره بصبيّ؛ فقفز إلى الخلْف مذْعورا، ونفرت لقفْزته دابّته، ركضت كأنّما هي مأْزوزة من شيْطان جِنِّيّ ريءَ رَأْيَ العين.
قاوم قهْقرته وعاد إلى الصبيّ فحمله بيْن ذراعيْه يُسكِّن من روْعه، ثم اقْتحم العقبة يقصد دار نائب السلطان بحيّ مَرشان..
- السلام عليكم.
وجّه تحيته لـ "البّا المديوني".
- وعليكم السلام.
- هل تستطيع التوسُّط لي؟
- ولماذا؟
- هذا الصبي وجدته مُلقى في مطْرح النّفايات، فقلت: لا يتبنّاه ويحْضنه إلا رجل ثريّ مثْل نائب السلطان.
- لا، لا، يُسْتحْسن أن تذهب به إلى فَرّوجانْ.
- ولماذا لا يتبنّاه المندوب، أو أحد ممن هم داخل قصره؟
- لقد وجَدْتُني مغادرا دار مندوب السلطان، أليس كذلك؟
- نعم.
- فهلاّ سألتني عن عملي معه؟
- لا يهمّ.
- بل يهمّ، وهو الذي حملني على نصحك بإيداع الصبي لدى فَرّوجانْ، بدل نائب السلطان.
ـ ماذا هناك؟
- أتوغّل في غابة بمعيَّة صديقي "الطّريبَقْ"، نجوب القرى والمداشر، نسيح في البوادي بحْثا عن عُشْبة القُنَّب الِهنْدي، فنحن نتاجر فيها، ومن بين زبائني المندوب السلطاني، فلقد كلّفني بإحضاره كل أسبوع، أصنع منه حُزماً صغيرة، ثم أحْضرها إلى قصْره، فيسْتلمها منّي العبيد والخدَم..
كنت أظن أن المندوب "حْشايْشي"، يدمن تدْخين مخدِّر "الكيفْ"، وحين أكرمني ذات مرّة، قضيت وقتا طويلا في قصره بمَرْشانْ، بنيْت فيه علاقات ودّية مع الخدم من الطبّاخين والبستانيين.. ولما دخلت مطْبخهم رمقْت قِدْراً كبيرةً مملوءةً بالماء؛ موضوعةً على نار هادئة، وحين غلت أخرجوا بضاعتي، وشرعوا يضعونها في القِدْر على دَهَشٍ منّي، تصطفُّ في أيديهم الحُزم، يُعوِّمونها حُزْمَةً حزمة حتى ضاقت بها القِدْر، أمهلوا القنّب الهندي في الماء وهو يغلي حتى تغيّر لغلَيانه لوْن الماء، وعنْدما انْخفض جَيَشان القِدْر أتوْا بسطْلٍ ومِصْفاة وشرعوا يُصَفّون الماء ويُنقّونه من الحشائش والزُّرْعة، يعْصرون الرّبيطات عصْر الأمّ لخِرَق وليدها، كنت عندها أسبح في غموض لم أتبين ما يجنُّه، محيط كأنما هو سماء بكين، ثم تبيّنت فإذا بالجاريات منهمكات في وضع الدقيق بقِصَع كبيرة لصُنْع عجين الحلْوى، وحين طلبْن الماء لخلْط العجين، قُدِّم لهنّ ماء القنّب الهندي.
لم أفهم الغاية من ذلك، وكانت الليلة على وشك خنْق نهارها، فهممْت بالمغادرة، ولكنّني لم أفلح، لأنهم أرغموني على تناول طعام العشاء.
أرخى النهار جفونه حياء من رهْبة الليل، ثم قُدِّم لنا طعام العشاء، والشّاي فالحلويّات. في فِناء القصْر يجْلس المُعَمِّرون وعلى موائدهم خمور مُعتَّقة وويسْكي لا يقْتعد بالسَّوِيَّة مراتب الكحول في زجاجاته، يتبادلون الحديث في رزانة، يُدوِّن بعضُُ منْهم على دفاتر وقراطيس، بالكاد تتحرّك في وجوههم عضلات الابتسام، أناسُُ يقِظون في إدارة مسْتَعْمرتهم، يتداولون في شؤون الناس ومصالحهم حتى أضحت طنجة بإدارتهم نصْرانية. في الطّرَف المقابل يجْلس مغاربة بلباس تقْليديّ، عمائم جاثمة على عَرَّقيات، طرابيش تُرْكية رابضة على مليون شعرة ـ14ـ، لِحى مُشذَّبة كأنّها لوحات تشْكيليّة، وشوارب راسية كأنّها سُفُن "سْبارْطاكوس Spartacus"، ترْشح جباههم من ينْبوع متفجِّر في أمْعائهم، يمثِّلون السّلطة ويعْكسون يَقَظَتَها، منْهم أعيان المدينة ووُجهاؤها، يحْتسون الشّاي الأخضر الصيني، ويستلذّون الحلويات، تضجّ بهم قاعتهم حتى تهتزّ لقهْقهاتهم كراسيّ المعمِّرين وموائدهم، قهْقهات مشوِّشة لافتة، ينْظر المُعَمِّرون إليهم في سخْريّة واحْتقار، غمّازون لهم، يهمزونهم ويلْمزونهم في ضيق وتذمُّر، فهل تودع صبيّك عند هذا المندوب؟
انحدر من مرشان نحو حيّ القصبة يبحث عن فرّوجانْ، مخذولاً يسير من جوْعة جائعيْن، دابّة تتعثّر لقطْع الحشائش، وصبيّ متضوِّراً يبْكي، ارْتبك لقلقه تفكيره، يُمْعن في السّيْر مُسْتعْجلا، يَجُرّ جَحْشه المُتَمَنِّع وقد رشح عرَقه، وسال دمْعه..
جدّ حتى وصل ملجأ القصبة فأودع فيه الصبي، ثم غادر وغار في الانصزالية ـ15ـ.
طووووطْ.. طوووطْ..
"خرّجوا الزّبل.. خرّجوا الزّبْل.."
تنْتفخ أوْداجه للنّفْخ في البوق، يَجْمع زِبالة السّاكنة في قُفّة من العزف كبيرة، يجُرّها وهو نازل دُرْجاً دُرْجا، ينْحدر من أحْياء مُعَلّقة كأنها قناديل عالقة في النباتات المهاجرة، "كَرّوسته" La Carrosa سفينة لا تمْخُر الدرجات، يَمْلأها، ثُمّ يدفع بها من الخلْف، أو يجرُّها من الأمام، تسير عرْجاء بعجَلَة كاسية، وأخرى عارية، يعْرج لعرجتها رغْم سلامته وهي منتشية بعزفها طَقْ طاقْ طَقْ طاقْ، طق طاق طق طاق.. يحْتاط لزِبْل بات موبوءاً ومؤذيا، اخْتلط بشظايا الزّجاج، وقُطاعة الزّنْك والقَصْدير..
ينْشط مُياوموا البلدية في جمع النّفايات من حيّ جامع المقراع والدرادب وعيْن الحيّاني، ثم يلقونها في مطْرح مؤقت منْتظرين حضور الشّاحنة التي تحملها إلى مطْرح مَغوغة.
"زِدْ.. زِدْ.. زِدْ.." "زِيْيْيْدْ.. زيييد" "بارَكَ.. بارَكآ ـ16ـ"..
أصواتُُ شابّة وأخرى كَهْلة، تفْتح الطّريق أمام الشّاحنة حتى تأْخذ موْقعها من أكْوام الزِّبل.
ينْشط المياومون في حمل براميل مُثْخنة، ويقْذفونها من مؤخِّرة الشّاحنة ومن وسطها، على ظهْرها واحد منهم يَجْبِذ الزِّبْل برفْشه حتّى لا يتكوّم، يفْرغ البراميل، ثم يلقي بها..
مَدارِهم لا تتوجّع لانْغراسها في جيفة كلْب أو قطّ، كلّ يرْمي على قدْر ما تحْمل مِدْراته، أحياناً تنْغرِس مِدْرى في نفس ما تنْغرس فيه أخرى فتجد المياومان يرفعان ما علق بِمِدْراتيْهما دفْعة واحدة.
قذفَ "اللَّغْميشْ" و"العيّاشي" بكومة زِبْل بدينة حوصرت في خَيْش منغرس في التراب، ثم سقطت في قلْب الشاحنة.
نَمى الصِّياح كما ينْمو الرّعد من مسافات بعيدة، سرق انْتباه العمّال فشلّ أيديهم، وأصَمّ أسْماعهم، اخترق النِّفايات لا يحمله أثير صاف حتى أحياهم عالمَاً غيْبيّاً، انْتصب له زَغَبهم وهم يقولون:
بسم الله الرحمن الرحيم.
تشجّع العيّاشي كما لو كان معطوب الترموستات يُقلُّه الهيبوتلاس فوق مسْخنة على نار زرقاء، فقال:
"هذا صوت بشر، هذا صياح صبيّ".
فرد عليه صديقه:
"كلا، فنحن ننْظر إلى ما نرمي به، نحن "هبّاجون"، لا تسْلم منا مِلعقة، أو سِلك معْدني، أو حذاء مسْتعمَل.. فكيف تنْفلت منّا روح؟ لا، لا، هذا جنّيّ جمع كيْده، ثمّ أتى، اطمروا أباه".
ساعتها غالباً ما يكون الوقْت ضُحى، تكون الشمس فيه قد بسطت ذراعها تزيح بها غطاء الخبيئة، تنبّه بعْض المارّين لاضْطراب عُمّال النّظافة، فاقْتربوا مسْتطْلعين ليقفوا بأسْماعهم على دويّ صيّاح فظيع، صرخات مُربِكة، وعمّال في عالم الجنّ يتخّبطون من مسّ جُبْنهم وسُخْرية جِنِّيِّهم، سكنهم وهْمه وأسْلمهم سُلْطانه حتى لم يبق إلا حضور سليمان، أخرجوهم من أوهامهم معمِلين فيهم النّقد والتوبيخ حتى أعادوهم إلى رُشْدهم، ثم حفروا في النّفايات فأخْرجوا صبيّاً تأذّى من مقْذوفاتهم، ودَمِيَ لمدارهم.. صبيّاً لم يكن سوى خلاّد.
تحلّقوا حوله وقد بهرهم منْظره.
دماء تسيل على فخذيْه من أسنان مِدراة اللّغميش والعيّاشي.
عيْناه مُغْمَضَتَيْن يفْركهما وقد تلطَّختا بحُموضة القُمامة.
يفْتح الصبي فاه مِصْياحاً وقد علِق في لسانه العَفَن، وغشِيَ وجْهه الدَّرَن.
نحْل تغور في أعداده ملكتُه، وعمّال النظافة يغور فيهم خلاّد. منهم من يزيل عنه القاذورات، ومنْهم من يهْمس في أذُنيْه بكلمات تُنْبِت الحسّ في الحجر والصّخْر. منهم من يمرِّر ظهر كفّه على وجْنتيْه، ومنهم من يضغط برفْق على يديْه ورجليْه يُدفِّيها. منْهم من يقْلع خِرقه الوَضِرة، ومنهم من يلفّه بقميصه المسترْقع. ينْشطون له نشاط الممرِّضين، ويرقّون له رِقّة الممرِّضات.
في خِضمّ ذلك يتهالك الزمن على الزمن، وينحدر الوقت على الوقت وكلّ يفعل مستجيبا لما هو مسخَّرُُ له حتى عاد الدفء إلى خلاّد، واستيْقظ في جسمه الكليكوجين يدْفع بجوارحه وهي براعم نبْتة لم تنْبت بعْد، لا يزال يحتضنها الغيْب مثْلما تحتضن البيضة كتكوتاً يكاد يخْتنق لولا بقيّة منافذ من مسام لم تُطْلَ بغُبْن.
((أنا الذي سآخذه إلى بيتي)).
قول معْروف، وفعل مشْروف خيْر من تفرُّج يعقُبه أذى يصيب إثْمه القعيد.
هذا ما نطق به السّيد: عليّ.
أسرع به نحو بيته، يترجّل على أصابع قدميه، وتدفعه الريح تبغي الطيران به لولا دعوة من ظل واقفا تدعمه مِنْساته وقد مات.
يحمل معه فيْضاً من الإشفاق، وحبّ أُبُوَّة مِحْنانة.
يدخل بيته مبشِّرا زوجه.
يُقدّم لها خلاّدا ولا يقرأ ما في ناصيتها والناصية كاذبة خاطئة.
تنْتشر بينهما رائحة لا يجدها إلا قارئُُ ثَقِفُُ، تَخْرج من قلْبها مشدودة إلى إدانة خارج الرّحمة والشّفقة.
قَبِل خلاّدا، ثم استدبر عُشّه مسروراً، لم ينْتبه لعينيْ زوجه وهي تلْحظ غِبْطته وسروره وقد تملّكها الغيْظ في حضرته، وجنْدلها الكدَر بمخلبه، لم يسْتدر ليراها تراقبه وهو يخطو في الحي حتى غار في ظلّه..
أسرعت إلى الصبيّ كأمّ مُسْعفة، ولكنها ألْقت عنْه سِتْره وشرعت تضْربه.
تحْمل قضيباً من شجر سَتير يكاد زيْته يضيء ولو لم تمْسسْه نار، قضيباً اسْتماتتْ أمُّه في التمسُّك به فلم تقْدر، انْخلع منْها كما ينْخلع الخيْر من الشرّ، والحُسْن من القُبْح..
تركت في جسمه آثاراً نبّهتْها إلى سوء تصرُّفها، ثم أعادت عليه لباسه، واستأْنفت ضرْبه.
تضْربه مِصْياحة مُتَقَوِّلة.
تسُبُّه، تلْعنه، وتُمْعن في إيذائه.
تنادت الرّحَمات مُصْبحة ومُمْسية تجْمع قواها لاخْتراق قلْبها، لا سبيل إلى خطاب قلْب تغْشاه البلادة، ولا طريق إلى رحمة تحجبها القساوة، يذوب جليد الأرض كله لينتج ما يكْفي لرفع مستوى البحر بنحو مائة قدم، ولا يذوب قلب الهَروم، اسْتقْطر ابن سيناء العِطْر من الزّهور، وتسْتقْطر المرْأة النّتانة والغِلْظة من عقْلها المريض.
كلما تلقّى الصبيّ ضرْبة موجعة أعقبها صياح:
"اصْمُتْ".
وعند ضربة تزيد عن أرجُل أمّ أربعة وأربعين بعدد توابع المشْتري ـ17ـ؛ سكن سكون المُغْمى عليه، فهم الصبيّ من فطرته مرادها، وأدرك بغريزته قصْدها، فضربُها المصحوب بصياحه؛ يضاعفه، وحين يتوقف عن الصّياح ويضرب عن البكاء؛ ترفع عنه يدها، فهل لفطرته لغة؟ أم هل للغته فطرة؟..
تخلّت عنه قليلا وانْشغلت بتنْظيف البيْت، تنْفض الغبار عن أفْرشتها وأغْطيتها ودولاب صنْدوق حفْظ الألبسة لا يزال مسْدودا، وحين فتحتْه تبْغي تعْريض ثياب زوْجها للشّمس صاح خلاّد ولم يزِد من صياحه إلا بعدما اطمئنّ إلى طلاق العِلّة لمعْلولها، والسّبب لِمُسَبِّبه، وما هو إلا زمن تأقْلم خلايا الأنْف مع الروائح ـ18ـ حتى ركضت إلى تينة مورقة مثمرة فحررت من جذعها عنزة لها من عقالها ولفت طرفه على راحتها، ثم انْهالت عليه بالضّرْب مرّة أخْرى.
ظنّ المسْكين أنّ زوْجها قد حضر.
خانتْه حاسَّتُه رغْم تشمُّمه ريح السيد عليّ من ثيابه. كل طفل يعرف ريح أمّه وريح من يحسن إليه؛ إلا الصبيّ خلاّد..
وحضر السيد عليّ مقْتحما بصوت يملأ جنبات بيْته، ينظر متلفِّتا بعينيْن إحداهما تتلقّى قرْنيتها الأوكسجين من الهواء مباشرة، وأخرى تحجم عن التَّلقّي، ولكن خلاّد لم يستجب ببكْية واحدة خوفا من السِّياط، لن تنفع معه تجْربة "بافْلوفْ" رغم إدراكه الغريزي؛ الذي لم يزل يأْسره، بافْلوفْ يثير لعاب الكلاب بدقّ النّاقوس، وخلاّد لا يُثار من سمْعه لصوت الرّفيق الِمحْنان، يسْمع الصّوت ولا يصدِّق حتّى حمله بين يديْه، فتشمّم ريحه ووجد صوْته أقرب من بُؤْبُؤ العيْن لشَفْريْها، عنْدها أطلق صياحاً شديداً يستعْطف به، وبكاءً مُربِكاً يُذْهب رُشْد الأمّهات.
نادى السيد عليّ على زوجه يسْتفْسرها عمّا أصاب الولد، فألقت إليه:
"إنّه مريض".
عندها اهتم بما يُذْهب عنه ألمه ظنّاً منه أنه يعاني في بطْنه. أدْفأ له مانْسانيا، ثم سقاه.
اسْتغْرب لسلوك الصبيّ، يسأل عن عِلّة ذلك، يدير في ذهنه:
((لماذا يتجرّع شرابه كما لو لم يذُق شراباً منذ مدّة طويلة.
هل أطعمتِه وسقيتِه؟)).
يسأل زوجه.
((أجل أجل)).
تجيبه.
((عجبا عجبا)).
يردِّد.
حمل الصبيّ بين ذراعيْه وولّى وجهه نحو رحِمِه.
يتناوبان على حمْله، ولا تكون حصّتها من حمله إلا ثوان حتّى يُسرع السيد عليّ إلى احْتضانه.
كلّما أحس الصبيّ بيديْ السيد عليّ ترتفعان؛ يشرع في البكاء. يجد ريح المرأة فيثور ويصيح باكيا، ثم ينجح إلى حدّ ما..
تركهما في بيت أمه وخرج لحاجته، ثم عاد متأخّرا ليجد مكان خلاد فارغا، اضْطرب لذلك وصاح في وجه زوجه:
"أين خلاد؟".
((الله، الله، لقد نسيته في بيت أمك)).
انطلق غضْبان يبغي جلْبه، ولم يرْتح حتى أنامه إلى جواره..
لا ينزل خفقان قلْب المرأة عن مائة وعشرين خفقة في الدقيقة الواحدة؛ إلا عند نومها. أحسّ الزّوج بكراهية زوجه لخلاّد.
شرع يفكر في عمل شيء ما يُليِّن به قلْبها نحوه، ويفْتح صدرها للإحسان إليه. فالأمر غريب، والوضوح فيه جليّ لولا غياب الشكوى من المتظلِّم الصّغير..
عاد من سوق "قْلْبْ وشَقْلْبْ" في ليلة عيد الفطر يكاد يطير فرحا، يحمل لباسا جديدا اشْتراه لولده، ولما دخل بيته لم يجده مع زوجه حيث تجلس. دخل غرفة نومها فلم يعْثر عليه. اهتزّ كيانه كما لو صُعق، غضب لذلك غضبا شديدا واندفع نحوها مجنونا وسقط، سقط لعثْرته في حصير الدومة، ثم نهض يهمّ بضرْبها. رفع يده فتراجعت لدموعها، تذْرفها على خلاّد كما كانت تُذْرف دموع اليعاقبة على يوسف. يوسف جاء إخوته "على قميصه بدم كذِب". وخلاّد جيء على ذكره بدمع بارد.
يرقّ لها، ويقلق على الولد، ويكاد يُجنّ.
يسألها وهي صامتة.
يلحّ في سؤاله فتزيد من الشّهيق والزّفير، تمزجهما بدمع كذِب.
وأخيرا نطقت تقول:
"لقد نسيتهُ في الكرْسيّ الخلْفيّ لسيّارة الأجْرة".

......................

الفصل الأخير:



محطات حضارية
======

قادَهُما حَمْزَةُ إِلى جَبَلِ موسى فَتَجابَلوهُ، تَوَقَّفَ قَلْبُ أبيه لِغُبارِ الطَّلْعِ أَرْبَعَ مَرّاتٍ. يَحْلُمُ بِسِياحَةٍ لا يَرْتاحُ لِتَسْمِيتِها بِالسِّياحَةِ الدّينِيَّةِ، يُريدُ تَحْديدَ مَواطِنَ لَها أثرُُ في تاريخِ الْعَرَبِ وَالمُسْلِمينَ، يَرْغَبُ في تَأْهيلِها لِجَلْبِ سُيّاحٍ مِنَ المُسْلِمينَ لِيَتَعَرَّفوا عَلى مَحَطّاتِ الحَمَلاتِ الحَضارِيَّة ِلأَجْدادِهِمْ، وَعَلى أُخْرى بارِزَةٍ لِرِجالِ الْفِكْرِ وَالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ..
.....................


بعْدَ سُقوطِ غَرْناطَةَ بأرْبَعِمِائَةٍ واثْنَيْنِ وَسِتَّينَ سنَةً؛ فَتَحَ مُعاذ عَيْنَيْنِ عَلى أبوَيْنِ رَقيقَيْنِ ـ19ـ، يرْتَشِفانِ الرِّقَّةَ، ويَتَأَبَّطانِ النَّباهَةَ مِنْ منْظومةٍ أخْلاقيَّةٍ ورِثاها عَنْ أَجْدادَ ناهِضينَ. يسْلُكانِ في البَيْتِ وِفْقَ طُقوسٍ بَديعَةٍ. َينْهَضانِ ِلأَعْمالِهِما في نَشاطٍ وهِمَّةٍ، يَنْتَشِيانِ بِأُبُوَّتِهِما فَتَحْلو الحَياة..
لا قِيمَةَ لِلْحَياةِ عِنْدَهُما إِنْ لَمْ تَفْتَرِشِ الطُّفولَةَ، دونَها تَجِفُّ الرَّحْمَةُ، وَتَذوبُ الشَّفَقَةُ، يَنْمو مُخُّ الصَّبِيِّ بَطيئاً، يُناسِبُ جَسَدَهُ، دونَ حُمولَةٍ ثَقافِيَّةٍ، وَدونَ إِدْراكٍ، يَسْتَمْتِعانِ بِصِباهُ..
لا يَكادُ يُرى أَبوهُ في البَيْتِ مِنْ غيْر اهْتِمامٍ، تارَةً ينْكَبُّ عَلى كِتابِ رَبِّهِ للتِّلاوةِ، وأُخْرى عَلى غيْرهِ للمُطالعَةِ. يُشاهِدُ التّلْفازَ بانْتِقاءٍ شَديدٍ، لا يصْطَفي إلاّ البرامِجَ الهادِفةَ، وَالأَفْلامَ الوَثائِقِيَّةَ. النَّشَراتُ الإِخْباريةُ يُتابِعُها مُتَجاوِزاً ما لَيْسَ فيهِ مِصْداقيَّةً، وَإِذا عَيِيَ وَأَرادَ التَّرْويحَ؛ تابَعَ فيلْماً كوميدِيّاً، أَوِ اسْتَمَعَ إلى موسيقى هادِئةٍ، يَعْشَقُ الكْلاسيكِيَّةَ مِنْها وَيَهيمُ بِالمُوَشَّحاتِ الأَنْدَلُسِيَّةِ الَّتي اسْتَنْبَتَتْها، يَتَنَقَّلُ كَالحَشَرَةِ الطَّنَّانَةِ بَيْنَ مُؤَلَّفاتٍ قيِّمَةٍ، يُضْرِمُ حَماسَتَهُ فَيَرْتَشِفُ مِنْها العِلْمَ وَالمَعْرِفَةَ، يَنْتَقي الأدَبِيَّةَ مِنْها لِحُبِّهِ الشِّعْرَ والقِصَّةَ والرِّوايَةَ.. يَنْهَضُ لِلْفِكْرِيَّةِ لِهُيامِهِ بِالبُرْهانِ عَلى قَضايا فَلْسَفِيَّةٍ.. وَيَنْشَطُ لِلْعِلْمِيَّةِ لِغَوْصِهِ في سِرِّ الخَلْقِ وَانْبِهارِهِ بِالإِعْجازِ.. الثَّقافَةُ المُتَوَرِّمَةُ يَتَجاوَزُها، والأَدَبُ السَّاقِطُ يَهْجُرُهُ، لا يَرْتَوي مِنْ يَأْسٍ، وَلا يَنْثَني لِبَأْسٍ.. مُتَواضِعَة مَكْتبَةُ والِدِهِ، ولَكِنَّها ثَرِيَّة...
انْتقلَ إلى المَدْرَسَةِ لِيَجِدَ فيها النِّظامَ والانْتِظامَ، لِيَجِدَها شَبيهةً بالبيْتِ حافلةً بالتَّعْليمِ والثَّقافَةِ؛ فَلَمْ يَسْتَوْحِشْها. أَحَبَّها وأَحَبَّ أَساتِذَتَها وتَلامِذَتَها. أُعْجِبَ بِفَضائِها الجَميلِ، وبِساطِها المُخْضَرِّ، شُجَيْراتُها ظَليلَةُُ تُغْري الطَّيْرَ وَتَجْلُبُ الفَراشَ.. هَواءُ البَحْرِ يَصِلُها مِنْ شاطئٍ قَريبٍ يَحْمِلُ مَعَهُ نَسيمَ الطَّحالِبِ والرُّطوبة المُنْعِشَةِ..
َينْحَدِرُ الطِّفْلُ، ثُمَّ يَتَواوَدُ حَتّى يَدْخُلَ مَدْرَسَتَهُ. ظَلَّ مُتابِعاً لِأَنْشِطَتِها، ثُمَّ مُتَنَقِّلاً إِلى الصَّفِّ الْإِعْدادي حَتّى أَشْرَفَ عَلى الثّانَوي..
وَعَدَهُ أَبوهُ بِهَدِيَّةٍ ثَمينَةٍ إِنْ هُوَ اجْتازَ امْتِحانَهُ بِتَفَوُّقٍ، ولَمّا اجْتازَ إِلىَ التَّعْليمِ الثّانَوي وَهَبَهُ هَدِيَّتَهُ فَكانَتْ كِتاباً في الأَدَبِ الـمَمْدَري مِنْ تَأْليفِ المَمْدَري يُعْنى بِالطُّفولَةِ. قبَِلَ هَدِيَّتهُ عَلى مَضَضٍ، واسْتَحْيى أَنْ يَرُدَّها عَلَيْهِ، فَقَدْ كان يَطْمَعُ في دَرّاجَةٍ بَحْرِيَّةٍ.
يَهيمُ بالبَحْرِ، ويَعْشَقُ رُكوبَ أَمْواجِهِ بِالْجِتْ سْكي Jet Sky.
اٌلنّاظِرُ إِلَيْهِ وَهْوَ يَتَسَلَّمُ هَدِيَّتَهُ لا يَكادُ يَتَلَمَّسُ عَضَلَةً واحِدَةً مِنْ عَضَلاتِ الِابْتِسامِ تَتَحَرَّكُ في وَجْهِهِ.
فَطِنَ لَهُ أَبوهُ فَتَرَكَهُ على حالِهِ وَقَدْ رَتَّبَ لِمُفاجآتٍ يَجْهَلُها مُعاذ حَتّى كانَ فَصْلُ الصَّيْفِ؛ وَمَوْعِدُ الإِجازَةِ السَّنَوِيَّةِ لِوالِدِهِ، فَسافَرَ بِهِ في نُزْهَةٍ إِلى مَجْمَعِ البَحْرَيْنِ..
نَزَلا فُنْدُقَ شالَّهْ، ثُمَّ اكْتَرى سَيّارةً واتَّصَلَ بِصَديقٍ لَهُ تَوَطَّدَتْ عَلاقَتُهُ بِهِ ثَقافِيّاً، تَعَرَّفَ إِلَيْهِ عَنْ طَريقِ الإِنْترْنتْ؛ وَكانا عَلى مَوْعِدٍ رُتِّبَ لَهُ تَرْتيباً، حَلَّ يَوْمَ أَنِ اسْتَنْفَذَ مُعاذ مِنْ جِسْمِهِ خَمْسَمِائَةٍ وَواحِدٍ وأَرْبَعينَ مَلْيونَ عَصَبَةٍ، ثُمَّ في شَمْسِ المَغْرِبِ عِنْدَ قُبورِ الرّومانِ الْتَقَوْا ـ20ـ..
قادَهُمْ حمزةُ إِلى مَعْلَمَةٍ تاريخِيَّةٍ تَضَعُ قَدَمَها عِنْدَ قَدَمِ المُحيطِ، تَتَلَقّى زَبَدَهُ في المدِّ والجزْرِ وتَتَوسَّدُ يَداً مُخْضَوْضَرَةً غَرْبَ مَدينةٍ لَمْ تَزَلْ حالِمَةً، نَزَلوا الغارَ وَساحوا فيهِ قَليلاً مُعجَبينَ بِهِ وَبِأَثَرِ اليَدِ الَّتي أَبْدَعَتْهُ، لَمْ تَكُنِ اليَدُ يَدَ إِنْسانٍ..
وَهُمْ يَقْضِمونَ وَقْتاً كَالَّذي قَضَمَهُ وَلِيُّ عهْدِ البُرْتُغالِ في خِلافَةِ والِدِهِ ـ21ـ؛ الْتَفَتَ أبو مُعاذٍ إِلى صَديقِهِ يَقولُ:
((جميلة هَذِهِ المَعْلَمَةُ الأَثَرِيَّةُ. جَميل هَذا المَرْصَدُ الأُسْطورِيُّ الَّذي يَحْكي قِصَّةَ هِرَقْلٍ وَهْو يَدْفَعُ بِكِلْتَيْ يَديْهِ قارَّةَ إِفْريقْيا وقارَّة أوروبا حَتّى لا يَلْتَقيانِ)).
فردَّ عليه:
ـ الغارُ تَحْتَ الأَرْضِ لَيْسَ هُوَ كَما كانَ.
ـ كَيْفَ؟
ـ مِساحَتُهُ تَحْت الأرض ثَلاثَةُ كيلومِتْراتٍ أَوْ تَزيدُ قَليلاً.
ـ ولَكِنَّنا لم نَسِحْ إِلاّ في حَيِّزٍ ضَيِّقٍ.
ـ اٌلأَمْرُ يَعودُ إِلى مَسْؤولينَ رُوَيْبِضاتٍ، ضَيَّعوا المَدينَةَ وَأَضاعوا أَهْلَها، حَتّى الطَّيْر منْ بَعيدٍ باتَتْ تُبْكيها، هَجَرَتْ بَيْضَها وَلَمْ تَعُدْ تَعْهَدْهُ.
ـ جميلة مدينتك.
ـ جمالها من جمال أهلها، وأهلها لم يعودوا كما كانوا، لقد ظُلموا.
ـ كيف؟
ـ هل تعلم أن لطنجة لسانا؟
ـ كيف يكون لجماد لسانا؟
ـ إن الجماد إذا اسْتُنْطق عنْد توجُّعه نطق، فهل تريد سماع طنجة بلسانها؟
أسمِعْني.
- أنا طنجة أمّ المُدُن المغربية، وسأترشّح لأكون أمّ المدن العربية، ثم العالمية، ولكن بغيْر حلاّب ولا حصّاد... جاب أفضيتي الزّمّوري عبد الرحمن المجْذوب. أشاع أنّ أعْيُن أبنائي على البحر، وجلوسهم على الصّخْر، وآذانهم على الخبر، عمّرت مقولته في طنجة حتى باتت سُبّة في جبين طنْجاوة.
* هناك من يقول: إنّها سُبّة في جبين أبنائك فعلا؛ ويسْتحقّونها.
- لنرى: إن جلوس أبنائي على الصّخْر كناية عن تواضعهم، واستعارة لقوّة رابطتهم، فالصخر ثابت وهم على تواضعهم كقيمةٍ رفيعة أثْبت، والصّخْر قويّ وهمْ برابطتهم الثقافية والمَبْدئية أقْوى.
وكوْن آذانهم على الخبر فهو كناية عن وعيهم السياسي، فهم مثقّفون قراءةً وسماعاً، ذووا معارف ثرّة، يُتْقنون لغات عديدة، فالفقيه دميجو في فضاء الرواية الممدرية: نساء مستعملات؛ رمْز فخر لهم.
وكون أعينهم على البحر، فهو كناية عن فطنتهم، فالدخيل معلوم لديهم فِراسة، والخائن مُدْرك منهم عُرْفا، ولصّ المال العام معروف لدى أطفالهم بداهة، إنهم من طينة زكيّة يأْلفون ويُؤْلفون.
* يقولون:كلاّ، ما أبناؤك إلا نفايات.
- مهْلاً، يا له من شَطَط، لا ننْتهي من إشاعة حتى يُحْبكوا أخرى. قالوا إن أبنائي كسولون، لا يعملون، بطّالون، عشّاقون للخمول، ثم شمتوا بِمُجازين يعملون عسَسَة للسيارات وفي الإنعاش الوطني، وقد رفضوا استغلال جهدهم وكفاءتـهم في مينائهم المتوسطي، اشترطـوا على الأمـيّ لكي يسوق "البَرْويطـة" La Barretilla أن يتقدم إلى الامتحان وباللغة الفرنسية وينجح؛ ليسوقها، يعلمون أن قبيلة أنجرة مكلومة من الإسبان منذ هجّروهم من الأندلس قسْرا، يعلمون أن أغلبهم بدوُُ أمّيّ، لطالما كذبوا في قنواتهم ودورياتهم حين زعموا الاهتمام بالبادية، صرحوا بجعل البادية مثل المدينة في حق التعليم والتطبيب والإنارة.. وكذبوا وصدّق الناس كذبهم. قالوا إن أبنائي عنْصريّون ونسوا أنهم الحاضنة للعنصرية كتلك التي تسْتبقي فيروس السيدا متربِّصا. حاضنة العنصرية هم بظلمهم ووقاحتهم، ثم ازدادوا فرحاً ببَلِيَّة أهل طنجة. أضافوهم مع ضَيْفَنِهم، أكرموهم رغم قلّة القِرى، عاملوهم بودّ ورقّة، يحسبونهم إخوانا، ثم أخيرا وليس آخرا يصبحون نفايات، ولكن قل لي: هل نطلب منهم حمل ميناءهم المتوسطي والرحيل عنا؟ هل هم سليلوا عناقيد الغضب؟
* لم أفهم.
ـ وهل هم إلى الآن جزء من المغرب غير النافع؟ هلاّ زالوا يحيون زمن الحسن الثاني؟ هل سمع الناس بتصريح الأديب عبد السلام البقالي حين طالبه الملك بالبقاء في قصره بعد تخرجه من الولايات المتحدة الأمريكية؟
• وماذا قال له؟
- قال له: إن المغرب فقط من حيث كانت تقام نقطة التفتيش بعَرْباوة. فهل لا يزالون في ذلك العهد وقد رحل الحسن الثاني وخلفه محمد السادس؟ لو كانوا فتيان الكهف والرقيم لكانوا بأبدانهم وأرواحهم كنزا، ولكنهم أهْون ممن لا مُكرم له.
* يقولون لك اسمعي.
ـ وماذا أسمع غير الظلم والتَّجَنّي.
* إن أيّ مؤسسة تُعْنى بالشّأن العام من أمْن ودرَك وقوات مساعدة ومالية وتخطيط ومجالس جهة ومجالس حضرية وقروية وتعليم ومكاتب فروع أحزاب ونقابات واتّحادات وغير ذلك لن يسيّرها أحد من طنْجاوة، فلن يحصلوا إلا على أعمال وضيعة. وأيّ شركة كبْرى مؤثِّرة في ساكنة طنجة ستتحوّل عن أربابها، والتُّهمة جاهزة.
- هل سيتهمون البطرونة بتبييض الأموال من أجل سرقتها، عفْوا من أجل مصادرة أموالها؟
* نعم.
ـ إن أبنائي يعتقدون أن الجزائر وطرابلس، دمشق وتونس، طشقند والقدس، بغداد والأندلس وغيرها؛ بلادهم، بلادنا جميعا، فنِعْم الاعتقاد، وبِئْس الضّدّ.
* يالمعاناتك يا طنجة.
- أنا المدينة الحالمة، أحلم أن أكون جزيرة بهِجة. كنت خضراء نقية، والآن صرت جرذاء قذرة. قذارتي هي قذارتهم. هم أنتن من النّتن، وأخبث من الظِّرْبان. عبثوا بمناطقي الخضراء، لوّثوني، فوا رُفاة رُقَّدٍ هيّا إلى جلْد الأرواح الخبيثة.
حللتم أهلاً، ونزلتم سهلاً فوق صعيدي. رحّبت بكم. منحتكم كَرَمي، وتوخيت أن تكونوا كالفلاح المحسن؛ الذي يعيد إلى أرضه ما أخذ منها من غلال على شكل سماد، فخاب ظني فيكم، وما جزاء الإحسان بمنطقكم إلا الإساءة. قدمتم من البوادي الصافية، والأفْضية النّقيّة، هرعتم من الحواضر الموبوءة تشكون زلزال بطونكم، فهل أنا كنيفكم؟
* يقولون: أنت طنجة المُتوَّجة، وهذا يغيظهم، سيحملون كل ساكن بيت فيك على مد يده، سيجعلون منهم شحاحذة، سيحملونهم على الاستعْطاء.
- سمعت برواية عن جمع ترأّسه الكبش الأبْرص في عمالة طنجة؛ حلف الوزير بالله أن يدفع أبنائي إلى الشحاذة، وها قد مدّ الطفل يده، مدّها الشاب والكهل.. مدّتها النساء والصبايا والفتيات.. نبتت فيّ ظاهرة التسوُّل المُقنَّن، فهل أسعدتكم الشماتة؟
صنعتم لي حزاما من الإسمنت، وأنا أريده من الماء والخضرة. أختنق من التلوث وأتألم. فوّتم مناطقي الخضراء، فعرّيتموني عرّاكم الله وفضح نساءكم من تحت أسِرَّتِهنّ. فهل آمل خيرا فيكم بعد فضائحكم؟
ربّاه.. ربّاه.. هل من رِجْز تنزله من السماء على الظلمة كما أنْزلته على من استبشروا بسحابة استقبلت أوديتهم فكان فيها عذاب أليم.
ربّاه.. ربّاه.. هل من عقوبة رجفا أو خسفا تمحوهم بها كما محوت قرى سدوم وخسفت الدار بقارون؟
* يقولون: تألمّي وتقطّعي، اهْتزّي وارْتجّي، سندمِّر ما بقي. لن تنجو من هوَسهم منطقة خضراء واحدة. اذهبي إلى الجبل الكبير، أليست غاباته رئة لك؟ سيدمّرونها، وإن ذبل وزير المالية، وقُدَّ من دُبُر، ولم يجدوا من يفوِّت لهم غابات الجبل الكبير والرّميلات ومدْيونة، فسيزرعون نطفهم في رحم الأحجار الثلاثة بشاطئ مرقالة لاسْتولاد وزير بديل يسمّونه: البغل المفوِّت، وعندها سيشْغرون عليك.
- عادات الكلاب الشّغر، فقريبـا سيشْغرون برجلين على بعضهم البعض. لئامُُ بطبعهم. جِرْذان باسْتساغتهم السباحة في المياه الحارّة، عزيز عليهم رشّ رذاذ النفايات على عقولهم وقلوبهم، ولكن رُويْدهم، سأصنع جبلاً إسْمنْتيا رغم كراهيتي للإسمنت، سأرفعه حتى يستوْطنه السحاب، وعندها أضاهي به سْيرا نِفادا، Sierra Nevada سيتساقط عليه الثلج. سأجعل منه موطنا للتزلُّج. سأفجِّر قيعانه. ستنْساب منه العيون والودْيان. سينبت الخُضْرة، وستعود به طنجة إلى ألقها ورونقها، وسيُنْصف أهلها.
سأمنح وسام الانتساب إلى طنجة فقط؛ للعفيف الكريم، للسّميح الحليم، للشجاع الأريب، للسياسي الصادق، والمثقف الحاذق...
رَكِبوا السَّيَّارَةَ وَهُمْ بِعَدَدِ حُروفِ كَلِمَةٍ جامِعَةٍ لِمَعْنَيَيْنِ مُتَناقِضَيْنِ ـ22ـ ساروا باتِّجاهِ مُنْتَزَهِ الرّميلاتْ، يَقْصِدونَ مِشْرَفَةً جميلةً يَتَشامَخُ فيها شَجَرُ الأَرْزِ، ثُمَّ يَتَرَنَّحُ لِثَمالَتِهِ، تُدَغْدِغُهُ مِنْ جُذورِهِ كائِناتُُ تَتَراقَصُ مِنْ ثَراها، تَسْتَدْفِئُ تُرْبَتَها وَتَسَّمَّدُ أُرْجُوانِيَّةً وقانِيَّةً..
تَتَدَثَّرُ الرّميلاتْ بِأَهْدابِ خَمائِلَ فاتِنَةٍ، َتَتَرَبَّعُ عَلى عَرْشِها في غابَةٍ باتَتْ تَئِنُّ مِنْ قَضْمِها، يُسَيَّجُ بِمُحاذاةِ المُنْتَزَهِ قَصْرُُ لِمَلِكٍ خَليجِيٍّ أُقيمَ فَوْقَ مِلْكِيَّةِ شَعْبِ طَنْجَةَ دونَ إِذْنٍ مِنْهُ، حالَ بِسِياجِهِ بَيْنَ النّاسِ وَبَيْنَ شَلاّلِ التّشورّارْ Churrar، حَرَمَ طَنْجَةَ وَضُيوفَها مِنْ ماءٍ حَديدِيٍّ عَذْبٍِ يَشَّقَقُ لَهُ الصَّخْرُ فَيَتَفَجَّرُ مِِنْهُ بارِداً وَيَسّاقَطُ بِإيقاعاتٍ شادِيَّةٍ، لا تَسْكُنُ فيهِ الرّيحُ إِلاّ لِتَفْسَحَ لِلْحَشَراتِ بِالتَّزاوُجِ حَتّى لا تَنْقَرِضْ، تَبْدو مِنْها جِبالُ كاديسَ شامخةً، تَحِنُّ الأَنْدَلُسُ الكَبيرَةُ لِلاِقْتِرانِ بِالأَنْدَلُسِ الصَّغيرَةِ وَكَأَنَّهُما الشَّمْسُ وَالقَمَرُ، َتَتَمَنّى عَلى هِرَقْلٍ أَنْ يَكُفَّ عَنْ عَرْضِ عَضَلاتِهِ، أَنْدَلُسُُ في أَنْدَلُسٍ تَضُمُّ سُهولاً وَجِبالاً، نِجاداً وَوِهاداً، غاباتٍ وَمَراعِيَ، شواطِئَ وَسَواحِلَ ساحِرَةٍ..
يُغْري البَحْرُ بِالسَّيْرِ فوقه وَكَأَنَّهُ بِساط، يُطْمِعُكَ في السِّباحَةِ لِعُبورِهِ إِلى طَريفَةَ وَكَأَنَّهُ مَسْبَح.
ريحُ طَريفٍ وَطارِقٍ لَمّا تَزَلْ تَنْفُثُ غازاتٍ زَكِيَّةٍ، وصهيل خيل ابن تاشفين لما يزل صداها تتراشق به الضفتان، وَماءُ البَحْرَيْنِ لَمّا يَزَلْ يَتَحَسَّسُ بِذْرَةَ مَكَّةَ وَنَبْتَةَ المَدينَةِ.
قادَهُما حَمْزَةُ إِلى جَبَلِ موسى فَتَجابَلوهُ. تَوَقَّفَ قَلْبُ أبيه لِغُبارِ الطَّلْعِ أَرْبَعَ مَرّاتٍ ـ23ـ. يَحْلُمُ بِسِياحَةٍ لا يَرْتاحُ لِتَسْمِيتِها بِالسِّياحَةِ الدّينِيَّةِ، يُريدُ تَحْديدَ مَواطِنَ لَها أثرُُ في تاريخِ الْعَرَبِ وَالمُسْلِمينَ، يَرْغَبُ في تَأْهيلِها لِجَلْبِ سُيّاحٍ مِنَ المُسْلِمينَ لِيَتَعَرَّفوا عَلى مَحَطّاتِ الحَمَلاتِ الحَضارِيَّة ِلأَجْدادِهِمْ، وَعَلى أُخْرى بارِزَةٍ لِرِجالِ الْفِكْرِ وَالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ..
تَشْرُقُ الحَضاراتُ في الأَذْهانِ بِعَبْقَرِيَّةٍ، وَتشرق الْأُخْرى بِالْوَحْيِ..
سَأَلَهُ مُعاذ عَنْ تَسْمِيَةِ الجَبَلِ بِجَبَلِ موسى، فَرَدَّ عَلَيْهِ:
" اٌلجَبَلُ سُمِّيَ بِاسْمِ الفاتِحِ موسى بْنِ نُصَيْرٍ، وَمِنْ هُنا انْطَلَقَ بِحَضارَةِ الإِسْلامِ إِلى الأَنْدَلُسِ، مِنْ هَذِهِ التُّرْبَةِ العَطِرَةِ، وَمِنْ هَذِهِ الأَرْضِ النَّضِرَةِ عَبَرَ المَضْيَقَ".
ـ ماذا لَوْ ظَلَّتِ الأَرْضُ عَلى عَهْدِها مِنْ بِدايَةِ الخَلْقِ؟ ماذا لَوْ لَمْ تَزَّيَنْ وَتَأْخُذْ زُخْرُفَها؟
ـ بَلْ تَصَوَّرْها دونَ حَبٍّ وَعِنَبٍ وَقَضْبٍ، تصوّرها دون زَيْتونٍ ونَخْلٍ وَحَدائِقَ غُلْبٍ وَفاكِهَةٍ وَأَبٍّ.. تَصَوَّرِ العَيْشَ فيها حينَها، لا نَسيمَ وَلا أَريجَ، لا زَهْرَ وَلا وَرْدَ، سَرْخَسِيّاتُُ سرخسيّات.. دَينَْصوراتُُ دينصورات.. فَهَلْ كانَتْ صَبِيَّةً؟ وَهَلْ كانَتْ جَميلَةً؟
إِذا ازْدادَ لَكَ طِفْل يُكلِّمُكَ في الْمَهْدِ؛ كَعيسى، يُكَلِّمُكَ وَهْوَ يَكْبُرُ؛ كَما كُنْتَ بَيْنَ أَبَوَيْكَ، تَنْضُجُ بَيْنَهُما دونَ صِبا، تَدِِفُّ في لُطْفِهِما دونَ طُفولَة، فَهَلْ سَتَكونُ مُمْتِعَةً؟
ـ كَلاّ، اٌُلصِّبا مُتْعَة، والطُّفولَةُ مُتْعَة، اٌلصِّبا حَياة، وَالطُّفولَةُ حَياة.
لَمْ يَنْبَسِطْ مُعاذ كَما كانَ يُحِبّ، لَمْ يُبْدِ يَأْسَهُ وَهْوَ بادٍ، اصْطَحَبَهُ أَبوهُ إِلى ميناءِ المَدينَةِ وَهُما يَتَخَلَّلانِ طُفولَةً فاحِمَةً تُحاوِلُ عُبورَ المَضْيَقِ تَحْتَ هَياكِلِ الشّاحِناتِ.
دَخَلا نادي الزَّوارقِ البَحْرِيَّة؛ عِنْدَها تَغيّرَ لِمَراكِبِهِ الجَميلَةِ فَاعْتَرَضَ أباه وَقَدْ شَدَّتْهُ فَقالَ:
"هل نَكْتَري درّاجةً بَحْرِيَّةً؟".
فَرَدَّ عَلَيْهِ:
"لا، لَنْ نَكْتَرِيَها".
وَقَبْلَ أَنْ يَغورَ في يَأْسِهِ اسْتَنْصَرَ قَلْبَ أَبيهِ عَلَيْهِ بِكَلِماتٍ يُحِبُّها والدُهُ، لا يَسْتَطيعُ الصُّمودَ أَمامَها، كَلِماتُهُ تَجْلُبُ الرِّضا وَالحُبورَ وَلا تَقِفُ عِنْدَ اسْتِجابَةٍ واحِدَةٍ..
أَخَذَ بِيَدِهِ وَأَسْرَعَ الخُطى حَتّى حاذى دَرّاجةً بَحْرِيَّةً، وَقَبْلَ أَنْ يُطالِبَهُ بِرُكوبِها أَلْقى إِلَيْهِ: "ما بالُ الْكِتابِ؟"
ـ لَمْ أَقْرَأْهُ بَعْدُ.
ـ وَكَيْفَ تَراهُ؟
ـ وِعاء لِلْعِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ.
ـ وَهَلْ هُوَ أَنْفَسُ مِنَ الجِِتْ سْكِي Jet Sky؟
ـ أَجَلْ، وَهل هناك أرقى منه؟ لا مُقارَنَة.
ـ وَإِذَنْ لِتَرْكَبْ.
انْدَهَشَ مُعاذ لِأَمْرِ أَبيهِ فَاسْتَفْسَرَ مُسْتَغْرِباً:
"هَلِ اكْتَرَيْتَها في غَفْلَةٍ عَنّي؟"
ـ ألم أقل لَكَ لَنْ نَكْتَرِيَها؟ لقد ذكَّرْتَني بقول صديقي عبد الله السوسي، لطالما ردّد على مسامعي أن الأفارقة يكرِّرون الكلام، ويتحدثون بالإشارة ويبلعون دون مضغ؛ وهو ما لم أكن أوافقه عليه، فلم تنفلت مني حصى دقيقة، ولا شعرة رقيقة، ولا أيّ شيء حتى اشْتهرت في العائلة بالآكل البطيء، لأني آخر من يتمّ طعامه عند كل وجبة جماعية...
ـ ولكننا من أصل أسْيوي.
ـ نحن من آدم، وآدم من تراب، والتراب من أرضنا فنحن أرضيون، وهي في كون مسخر لنا فنحن كونيون، وكوننا كونيين لا يعني إلا الهيام بقيمة عظيمة هي إرضاء المنعم علينا.
كنا أسيويين حين نزل جدك من العراق إلى الحجاز، ثم من الحجاز إلى العراق، ثم من العراق إلى شمال إفريقيا، أما وقد مضى على نزوله المغرب أكثر من اثني عشر قرنا، فأنت مغربي وعراقي وحجازي وأندلسي... وكل هذا ليس مدعاة للفخر، بل الفخر كل الفخر في الحضارة التي تتبنى، والمبدأ الذي تعتنق، وما الأرض إلا موطن للبشرية يحق لها التنقل فيها حيثما شاءت، والاستقرار بها حيثما أرادت، وهذا الحق جاء مع الخلق، والخلق خلْقُُ من غيرنا، وهو من الله مُبْدئنا ومُعيدنا...
ـ إذا علم الأمازيغ بأمرنا ودان لهم المغرب؛ فسيطردوننا بصفتنا مهاجرين، وإذا طردونا فسيرفضنا حكام نجد وتهامة والحجاز ولن يقبلوا بعودتنا، وعندها نسكن الجماجم ومواطن النخاع العظمي، ثم يحل محل أرضنا يأجوج ومأجوج.
ـ تلك يا بني عنصرية، فهل ليسوا هم مهاجرين مثلنا؟ هل كان نبي الله إسرائيل يسكن المغرب؛ وهم من نسل حفيده داوود؟ أما نزلوا مهاجرين من شبه الجزيرة العربية؟ لقد عبر جدك البحر إلى الأندلس ومكث فيها قرونا ولا يزال رفاته ورفات أبنائه وأحفاده كليما في فلينسيا Valencia وغيرها، ثم هرب منها أحد من حمل جيناتهم وجيناتك، هرب بمبدئه خوفا من التنصير القسري، ثم نزل طنجة، أفلا يحق لنا العودة إلى الأندلس؟ أما لنا حق فيها يجب استرداده؟.
ـ طيب، هَلْ الجيتْ سْكي لِصَديقِكَ الطَّنْجاوي؟
ـ بَلْ هو هَدِيَّةُ التَّفَوُّقِ في الِامْتِحان.
ارْتَمى عَلى أَبيهِ مُعانِقاً مِنْ شِدَّة الْفَرَح.
اٌلرَّجُلُ المِسْكينُ يُحاوِلُ النُّهوضَ، والوَلَدُ يُمْعِنُ في تَقْبيلِ والدِهِ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِسَقْطَتِهِ المُؤْلِمَةِ، دَمِيَ لَها دونَ أَنْ يَتَنَبَّهَ الإِبْنُ لِما فَعَل.
أَوْقَفَ أَباهُ بِعَيْنٍ دامِعَةٍ لا يُعْلَمُ رِكابُها، هَلْ هِيَ لِفَرْحَتِهِ؟ أَمْ لِغَلْطَتِه؟
سَعِدَ معاذ بِرُكوبِ البَحْرِ، يَجوبُ البوغازَ وَيَتَعَجَّبُ لِشَبابِ طَنْجَةَ مِنَ السَّبّاحينَ المَهَرَةِ، مِنْهُمْ مَنْ يَرْكَبُ العَجَلاتِ المَطّاطِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْبَحُ مُعْتََمِداً عَلى مَهارَتِهِ، يُراقِبُهُمْ رُوّادُ الشَّواطِئِ حَتّى يَتَوارَوْا عَنِ الأَنْظارِ..
تسابقه الدَّلافينُ وتكاد تصيبه في قَفَزاتِها البَهْلَوانيَّةِ خارِجَ الماءِ. قَفَزاتُ غيْرها هروبُُ يكشف عن معاركَ تحت الماء.
في شهْرِ أبريل ومارس من كل عامٍ تَعْبُرُ من المحيط الأطلسي أسرابُُ من سمك الشِّراع وأبو سيفٍ والتّونَةِ.. تعبر سَمينَةً صائِمَةً.. تَدْخُلُ المُتَوَسِّطَ لوضع بيْضها، ثُمَّ تعود من حيث أتت في شهر يوليو وغشت هَزيلَةً مُنْهَكَةً قد تعَرّقَ لَحْمُها، وَخَفَّ وزْنُها، تَشْهَدُ طَنْجَةُ بِبَحْرَيْها تِلْكَ الرِّحْلَةَ وفيها مهالكُ لا مَفَرَّ منها، يَرْصُدُ سَمَكُُ لا يَحْتاجُ إِلى شُرْبِ الماءِ؛ رِحْلَةَ الذَّهابِ وَالِإيّابِ وَيَنْشَطُ في قَتْلِ الْحيتانِ، يصول أبو مِطْرَقَةَ ويَجولُ ولا يَعْتَذِرُ عَنْ قَتْلِ إِنْسانٍ سَقَطَ مِنَ الجيتْ سْكي، أو غَرِقَ به قارَبُهُ، لا يستسيغ القِرْشُ لُحومَ البشرِ، ولكنَّه لا يَتَنَبَّهُ لَها إلّا وَهْي بَيْنَ أسنانه قد مزَّقها.
ينشطُ البحَّارة بشباكٍ يعترضون بِها طريق السمك في الذهاب والعودة، ينصبونها حيث تقبع أطلنطس تحت الماء ساكنة، تارة يعبر معاذ إلى الجنوب الغربي حيث هرقلُ لا يزالُ ناشراً ذراعَيْهِ حتى لا تلتقي القارّتان، وَأُخْرى يَعْبُرُ إلى الشمال الشَّرْقي حَيْثُ البَدَوِيّاتُ الأَنْدَلُسِيّاتُ يُزَغْرِدْنَ حُبوراً في مَوْسِمِ حَصادِ الوَهْمِ، يَجْنينَ التّينَ وَيَقْتَلِعْنَ الفومَ عَلى مُرْتَفَعاتٍ أَنْدَلُسِيَّةٍ شَمالِيَّةٍ مُطِلَّةٍ عَلى مُرْتَفَعاتٍ أَنْدَلُسِيَّةٍ جَنوبِيَّةِ، تُرى أَبْنِيَةُ مدينةِ طريفةَ وأضواءُ السيّاراتِ الّتي تسير في طرقاتِها العاليَةِ، كما تُرى مِنْها أبنيةُ طَنْجَةَ وَدورُ تِطْوانَ وميناءُ سبتةَ والأنوارُ.
مالَ مُعاذ بَعْدَ ارْتِياحِهِ لِرُفْقَة حمزةَ، طَفِقَ يَخْرُجُ معه لِأَماكِنَ لا يصلها راكباً، يَجْهَدُ بَعْضَ الشَّيْءِ، ولَكِنَّهُ يَسْعَدُ في الحالِ، وَبَعْدُ في المآلِ.
حياة بسيطة، ونزْهة رائعة، قارَنَ بَيْنَها وبين نُزهته المَدفوعةِ الثَّمَنِ فلم يَجِدْ مقارنةً.
حمزة يَتمتَّع بِما لا يَعْرِفُه معاذُُ، ومعاذُ يَسْتَمْتِعُ بِما لَمْ يَذُقْهُ حمزة، يخالطُه وهُما من وسطٍ مختلفٍ، طِفْل يَنْعُمُ بركوب الدَّرّاجَةِ البَحْرِيَّة، وَطِفْل يَنْعُمُ بِرُكوبِ العَجَلَةِ المَطّاطيَّةِ، طفل يتنقَّلُ راكِباً، وطفْل يتنقَّل راجلاً، يحمل زادهُ وأدواتِ صَيْدِ السَّمك رُفْقَةَ كَلْبَتِهِ الوَفِيَّةِ لايْكا..
لا يزال البحر متوسِّدا جَزْره يقيل قيْلولته وحمزة يريد مدّه حتى يصْطاد السّمك، وبين بحْر هادئ لا يزال عند رأيه، وكلبة وفيّة لا يخاف في حضرتها جُرْدا ولا حيّة؛ استلْقى على ظهره واستقبل بوجهه السماء.
يسْتقلّ مِرْوحية صُحْبة شبيبة توّاقة لخلق العجائب. يجوب بمِرْوحيته أجواء العرائش وأصيلا وطنجة وتِطّاون وسبْتة.. يحلِّق فوق البرّ والبحر شمالا وجنوبا، شرقا وغربا يتفحّص من الأعلى وكأنه صقْر يبحث عن فريسته، يحاور مهندسين أكفاء وفنّانين ذوي حِسّ مُرْهف..
وابتدأت الأشغال. ينْشط العمّال والمهنْدسون والإداريون ليلاً ونهاراً في سباق مع الزمن، تعمل الأجهزة والآلات والسّواعد والأذهان جنْبا إلى جنْب في نشاط دءوب وبهِمّة عالية، الكلُّ يعمل بنشوة ويتمنى أن ينتهي العمل لرؤية الهدف، يتمنون طول العمر حتى يشاهدوا نتاج عملهم..
ويتقدّم العمل وتبدأ معالم المشروع في الظهور.
ابتدأ الحفر في جهتين. فريق ينشط من جهة المحيط الأطلسي، وفريق ثان يعمل من الأبيض المتوسط، وفريق ثالث ورابع يعملان في الوسط، يحفرون عشرين مترا وثلاثين مترا نحو القاع كأقصى حد للحفر تيسيرا لمرور السفن العملاقة، ويحفرون للعرض في مناطق؛ ما فوق العرض الأقصى لمضيق البوسفور، يوسعونه حفرا بمقدار ارتفاع هرم الملك خوفو وعُظَيْمات قطٍّ وعضلات إنسان وكروموسومات نحلة وإلكترونات ذرات البوتاسيوم واليورانيوم والكالسيوم، وفي بعض المنعرجات يزيدون أمتارا بعدد قصص ألف ليلة وليلة وعضلات العبوس والابتسام وسور القرآن..
وتَمْضي الأيام والشهور، وتُطْوى الأعوام والعقود؛ والعمل ماض، عُمّال ومُهندسون وإداريون يقضون، وغيرهم يخلفونهم حتى حُفرت القناة من المحيط الأطلسي إلى الأبيض المتوسط، ومن المتوسط إلى الأطلسي، ثم يبدأ العدّ التّنازلي ويتحرّك الجمهور وتستقبل طنجة سياحا لرؤْية مشروع القرن الحادي والعشرين، ولتشهد على اقتران بحْريْن قبل اقْتران الشمس بالقمر، يقْدمون لمشاهدة الدّلافين وهي تعبر القناة من جهتين، منهم من يتهيأ بقصبته وصنّارته لصيْد السمك، ومنهم من يحمل كاميرات التصوير لالتقاط صور تذْكارية لمعْلمة فريدة، ينتظر الجميع يوما مشهودا لتدشين القناة التي لم تسمّ بعد رسميا، ولكنها في الكواليس تحمل اسم: قناة الأندلس الصغيرة..
واستعدّ خبراء المتفجِّرات وطفقوا ينتظرون الإشارة؛ ويتمّ التفجير دفعة واحدة في الجهتين المشهودتين بالشاشات الضخمة المنصوبة في كل مكان، ويشاهد الناس باغتباط؛ الانفجار وثوران الغبار، وتحرّك الماء، تحرّك المارد الوديع من المحيط الأطلسي ومن الأبيض المتوسط وساح في القناة، وفار من التنّورين، ويدور عقْرب الساعة ويستهْلك وَقوده حتى يلْتقي الماء على أمْر قد قُدر، ويغطّي القيعان، ويعْتلي السّدّين إلى حد معين، وتُرسم لطنجة صورة جديدة لطالما حلمت بها فتصبح مدينة عائمة، وسُمع صوت عذب حنون تقرع له حبال من المشاعر النبيلة يقول:
- أنا طنجة، نعم أنا هي. جميلة ساحرة، وفاتنة باهرة. سابقتُ المدن فسبقتها. تُوِّجت جميلة الجميلات. شمس المغرب أنا، رغم ما بي قد عنى. أفتح ذراعيّ لكل قادم، وأسعد بكل مقيم. قدم عهدي في حمل القلوب النبيلة، ثم استحلْتُ إلى حاملٍ للشِّياطة، فهلاّ تكنسوها. وطئتْني قدم موسى والشيخ الخَضِر. في قبيلة أَكْلا حضرتُ إقامة الجدار للغلامين اليتيمين. في مدشر مدْيونة حضرت طلْعة ذي القرْنيْن. هنالك يأخذك خَمْري من عينيك فتثْمل للغروب. تراها في الأفُق البعيد تذرف دموع الحزن، تنحني تواضعا لبارئها، وتدعوه أن ينتقم لطنجة، تنزل من علْيائها في تُؤَدة وهي تمْتطي سرعة رهيبة، ترسل شعاعا مليئا بالحياة، تبْعثه رقصا يرْتدي لون الشّفق.
أنا طنجة. أنا التي أخاطب فيك المروءة، وأعزف لك على وتر الغيرة، فهل تغار عليّ؟
* إن لم أغرْ عليك كنت مضيّعك.
- ألست مضيِّعي؟
* كلا.
- فلماذا إذن لحقني الذل والهوان؟
* لا تحمِّليني ما صرت إليه.
- أضاعوني.. أضاعوني.. وأيّ مدينة أضاعوا!
أنا طنجة الصبا والشباب، أنا المغرب كل المغرب. أنا طنجة، أنا الأندلس الصغيرة.
أحلم أن تحفروا أنفاقا من أسفل الجبل الكبير حتى تخرجوا منها إلى أشقّار ومديونة.. دعوني أنتشي بتنقلكم تحت جناحي، وأحدّ نصالكم في رماحي، ماذا لو رماكم جُعل البيت الأسود بما رمى به العراق وأفغانستان ومن قبل ناكازاكي وهيروشيما؟ ابنوا حصونا آمنة، واصنعوا مجانق ساخنة، شيِّدوا تحت جبالي دورا ومرافق ومخازن..
أريد نفسي جزيرة سابحة، فشقّوا لي قناة من أصيلا أو ضريح سيدي قاسم بطول مضيق البوسفور أو نصفه، شقوها للرياضة المائية، لمتعة صيد السمك، للمراكب الخفيفة، لعبور سمك التونة وأبو سيف والقرش وبراكودة.. دعوا القناة تمر في المدينة وتصل الشاطئ البلدي وقد سيج بميناء وصل رأس ملاباطا تخترقه السفن من ممرات عملاقة حولت بحر طنجة إلى بِرْكة ومَسْبح فزادها جمالا..
وشقوا أخرى من العرائش أو من القنيطرة، أمعنوا في شقّها حتى تصلوا بها إلى البحر الأبيض المتوسط من تراب سبتة، أو بمحاذاتها، اصنعوا لي حزاما مائيا، فأنا كالسمكة، وذلك يسعدني. مرّوا بمراكبكم. سافروا عبر قناتي. راقصوا سفنكم فوق مياهها الملْهِمة، متِّعوا العين والقلب..
أغار على قناة تربط البحر الأحمر بالمتوسط، وأخرى تعقد على المحيط الهادي والأطلسي.
طول قناة السويس لا يتعدى مائة واثنين وسبعين كيلومترا، بينما المسافة بيني وبين العرائش لا تتجاوز ثمانين كيلومترا.
أنا طنجة. أحلم بقناة تزيدني حبّاً وجذْبا، أحلم بها حلما يكاد يصبِّحني على واقعه، فلستم طنجاوة إن لم تخلقوها.
يتقدم حمزة لعبور القناة من إحدى قناطره المخصصة للراجلين والسيارات، معابر تفتح وتغلق لعبور المراكب، وفجأة تظهر أشرعية سفن عابرة من البحرين، وتظهر مراكب الصيد بأعلام مرفرفة وحناجر ناشدة، ويبرز لحمزة قائد مركب هو ابن حيه من الدرادب، رمقه فنادى عليه: علّوش.. علّوش.. عبد السلام.. عبد السلام.. وينتفض من مكانه ليجد نفسه على صخرة بدأ رذاذ الموج يصلها، وهو لا يزال منتشيا بحلمه الجميل..
يجلس القرفصاء ويهيم في حلمه البهيج، ثم ينهض لصيد السمك، ولكن أين البحر؟ وأين قصبة الصيد؟.
وجد معاذ لحمزة نباهةً، وحين اطّلع على نشاطه في المدرسة ألفاه أعلى منه درجةً، وأرقى عنه تعليماً، ولَمّا سأله عن هديَّة أبيه على تَفُوُّقِه كشف عن هِبَة مُتَواضِعَة، وَلَكِنَّها قَيِّمَة.
حَمَلَ ذِكْرَياتٍ حُفِرَتْ حَفْرَ النَّقَّاشِ في ذاكرته سيظلُّ يحكيها أباً وجدّاً.
تَعَجَّلَ تَحْتَ ضَغْطِ حُلْمٍ عِلْمِيٍّ راوَدَهُ في رِحْلَتِهِ، قَدَحَ زِنادَ الإِبْداعِ؛ يُريدُ العَوْدَةَ إِلى مَكْتَبَتِهِ وَحاسوبِهِ، إِلى خَلْوَتِهِ وَدِراسَتِهِ..
لم يَحِنْ بَعْدُ المَوْسِمُ الدِّراسِيُّ، ولَكِنَّ المَوْسِمَ حاضِرُُ في حَياةِ مُعاذٍ، تَعَوَّدَ ما تَعَوَّدَ أَبوهُ، لا يَفُوتُهُ قِراءَةُ شَيْءٍ مِنْ كِتابٍ يَوْمِيّاً، لا يفوته تَدْوينُ مُلاحَظاتٍ في كُرّاسَتِهِ، حَتّى حَديثُ النَّفْسِ لا يَفْتَأُ يَطْلُبُ مِنْهُ سِباحَةً في مِدادٍ سَيّالٍ..
يَدْخُلُ عُزْلَتَهُ وَهْوَ مَأْنوسُُ، تارَةً يُلْفِتُ نَظَرَ مَنْ يَجْلِسُ إِلَيْهِمْ، وَثِِنْتاها يُسْلِمُهُ شُرودُهُ، وَلَكِنْ؛ لَيْسَ عَنْ بَلاهَةٍ..
يوقِعُهُ التَّأَمُّلُ كما توقِعُ الوَرْدَةُ زائِرَها، ثم تُحَرِّرُهُ، يَجْمَعُ الإِبْداعَ كَما يَجْمَعُ الرَّحيقَ وَيَنْطَلِقُ بِهِ إِلى عُشّاقِهِ، لَقّاحُُ لِلْفِكْرِ وَالْأَدَبِ، بَصّامُُ لِلْعِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ، سَكَنَتْ دِماغَهُ صورة ظلَّتْ مُعْتَكِفَةً فيهِ تَتَهجَّدُ..
وَبَعْدَ تَحْريرِ القُدْسِ بِثَمانِمِائَةٍ وَواحِدٍ وَتِسْعينَ سَنَةً ـ24ـ تَمَدَّدَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ روحُهُ وكَأنَّها مُدانَة، تُطيلُ التَّمَدُّدَ حَتّى أَضْحَتْ بِساطاً، فَقالَ لَها:
"هَلْ أَرْكَبُكِ أَمْ تَرْكَبينَني؟".
قالَتْ:
ـ كَيْفَ تَرْكَبُني وَلا حَياةَ فيكَ؟
تَنَبَّهَ إِلى نَفْسِهِ، إِلى فِكْرِهِ، إلى شَجاعَتِهِ فَتاهَ بَيْنَ التُّرَّهاتِ، لم يَمَلّْ، يَسْتَميتُ في البَحْثِ عَنْ حَياتِهِ، لَمْ يَعْثُرْ عَلَيْها، فقال لِروحِهِ:
" مِنْ فَضْلِكِ اسْكُنيني".
قالَتْ:
ـ لَديَّ شَرْط.
قالَ:
ـ وَما هُوَ؟
قالت:
ـ أن تُجَنِّبَني سَخافَةَ الإِبْداعِ.
قال:
ـ لَقَدْ ظَلَمْتِني.
قالت:
ـ وَزِبالَةَ الأَدَبِ.
قال:
ـ لستِ روحي، أتبرَّأُ مِنْكِ.
هامَ يَبْحَثُ عَنْ روحٍ أُخْرى، دارَ ودارَ، ثُمَّ عادَ إِلَيْها مُتَجَنِّباً سَخافَةَ الْإِبْداعِ، وَزِبالَةَ الأَدَبِ، فَأَبْدَعَ ولَمْ يَزَلْ، ثُمَّ رَضِيَ وَأَرْضى.
فَطِنَ أَبوهُ لِضَغْطِ مِخْيالِهِ وَهْوَ يُقَدِّرُ فيهِ جِدِّيَتَهُ، يَتَوَسَّمُ فيهِ التَّمَيُّزَ، يَتَمَنىّ أَنْ يَكونَ قَدْ مَنَحَهُ شَيْئاً مِنْ صِفاتِهِ التَّريفَةِ، اقْتَحَمَ عليه خُلْوَتَهُ وسأل عَنْ سرِّ انْشِغالِهِ، لَمْ يَكُنْ يَرى الطِّفْلُ لِسِرِّهِ سِرّاً مَعَ والِدِهِ، فَهُوَ الذّي يُشَجِّعُهُ ويُحْيي فيهِ الأَمَلَ، ما يَكونُ مُمْكِناً عَقْلاً يَكونُ عِنْدَهُ مُمْكِناً فِعْلاً، وحَتّى الذّي لا يكون ممكناً عقلاً وَهْوَ في ذِهْنِ الطِّفْلِ مُمْكِنُُ عَقْلاً وَفِعْلاً يَصْعُبُ تجاوُزُهُ في قَناعاتِهِ، لا يَكادُ يَرى ما يَتَصَوَّرُهُ شَيْئاً غَبْرَ مُمْكِنٍ..
أَسَرَّ لأبيهِ برَغْبَتِهِ في اخْتِراعِ جِهازٍ، يَرى في جهازهِ أَداةً لِلْقِياس وَحاسوباً.. يراهُ أقلَّ مِنْ حَجْم رُقاقَةٍ إِلِكْترونِيَّةٍ تُزْرَعُ تَحْتَ الجِلْدِ، أَوْ عِنْدَ قاعِدَةِ الدِّماغِ، تَخَيَّلَهُ غُدَّةً مُنَظِّمَةً مِنْ غَيْرِ الخَلايا، أَبْصَرَهُ غُدَّةً إِلِكْترونِيَّةً..
لَمْ يَأْبَهْ والدُهُ لِتَصَوُّرِهِ، فَالرُّقاقاتُ الإلكترونيّةُ والبْلاسْتيكِيّةُ مَسْأَلَة مَطْروقَة عِلْمِيّاً وتِقْنِيّاً.. فالحواسب تَستعملُ الرُّقاقاتِ، ومنْعُ الحمْل يستعملُها بلاستيكيَّةً تَحْتَ الجِلْدِ..
تَفَطَّنَ معاذ لأبيه وَهْوَ يَعْلَمُ حَماسَتَهُ لِكُلِّ جَديدٍ، أَدْرَكَ أَنَّ تَصَوُّرَهُ عَنْ جَديدِهِ لا جديدَ فيهِ لأنَّهُ مَسْبوقُُ، فَبادَرَهُ بِالقَوْلِ:
" لَمْ تَسْأَلْني عَنْ وَظيفَةِ الجِهازِ".
ـ اٌلجِهازُ المُتَصَوَّرُ في ذِهْنِكَ يا بُنَيَّ لَيْسَ فيه إلاّ كوْنه في حَجْمِ رُقاقَةٍ إِلِكْترونيَّةٍ يَقومُ بِدَوْرِ الحاسوب أَوْ جِهازٍ لِلْقِيَاسِ..
ـ وَلَكِنَّ القياس المُتَوَخّى قياسُُ من نَوْعٍ خاصٍّ وَمُتَنَوِّعٍ.
ـ كَيْفَ؟
ـ هناك أجهزة لقياس التدفئة والتهويَّة والقَلَوِيَّةِ والحُموضَةِ وغيرها، فهل يمكن جَمْعُها في جهاز واحد؟
ـ إِنْ كُنْتَ تَقْصِدُ التِّرْموسْتاتْ الطَّبيعِيَّةَ فَالجِسْمُ البَشَريُّ يَمْتَلِكُها، وَهِيَ الَّتي تُنَظِّمُ الحَرارةَ، وهِيَ موجودة في جُزْءٍ مِنْ قاعدةِ الدِّماغِ تُسَمّى "الهيبوتْلاسْ"، وآلياتُ طَرْدِ الفائِض من الحرارة مَعْروفَة كالتَّنَفُّسِ وَالتَّعَرُّقِ والتَّحَرُّكِ، وَإِنْ كُنْتَ تُريدُ...
تَوَقَّفَ مُفَكِّراً سارحاً في اسْتِنْتاجاتِهِ، ثُمَّ عاوَدَ الحَديثَ يَقولُ:
" هَلْ تَقْصِدْ...؟".
ـ لا، بَلْ أَقْصِدُ جِهازاً لَيْسَ مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ، لا أَميلُ لِاسْتِغْلالِ الخَلايا الجِذْعِيَّةَ.
ـ كَيْفَ؟
ـ هناك أجهزة لمعرفة الأَعْدادِ والأَوْزانِ والأَطْوالِ، وأجهزة للحساب الذَّرّي وغيْرِ ذلكَ.
ـ نَعَمْ.
ـ فهل يمكن جمعها في جهاز واحد؟.
ـ مُمْكِن.
ـ وَلَكِنَّكَ لَم تسألني عن حاجتي لهذا الجهاز.
ـ وما هيَ؟
ـ أُريدُ لِجِهازي أَنْ يَقيسَ حاجَةَ الجِسْمِ مِنَ التَّدْفِئَةِ والتَّهْوِيَةِ.. من الأَغْذِيَّةِ البِنائِيَّةِ كَالبروتينِ والكالسيومِ.. والطّاقيّة كَالسُّكريّاتِ والدُّهْنِيّاتِ.. والوظيفيّةِ كالفيتاميناتِ والأَمْلاحِ المَعْدِنِيَّةِ وَالماءِ..
ـ لا أرى في جهازكَ إلا تِقْنِيَّةً تُعْنى بِضَغْطِ الموادِ والاِسْتِغْناءِ ما أَمْكَنَ عَنِ الأَحْجامِ الكَبيرَةِ.
ـ وإذا كان جهازي اللاّصقِ تَحْتَ الجِلْد، أَوْ مُثَبَتّاً كالغُدَّةِ بِمَثابَةِ أَخِصّائِيّينَ كُثُرٍ؛ وَأَجْهِزَةِ فَحْصٍ كَثيرةٍ، فَهَلْ يكون مُهِمّاً؟
ـ هَلْ تُريدُ أَنْ تَصِلَ إِلى مَعْرِفَةِ حاجَةِ الجِسْم من الطّاقة ومعرفة ما طرأ عليه مِمّا يسبِّبُ لَهُ الْعَطَبَ والمَرَضَ؟
ـ نعم، وأن يكون مُتَضَمِّناً وسيلةَ إشْعارٍ تُنَبِّه إلى تِلْك الحاجِياتِ فَيَقومُ الإنْسانُ بسدِّها، وإِلى مُسَبِّباتِ الأَعْطالِ والأَمْراضِ حَتّى يَتَفاداها، ألا تَرى إِلى الغُدَّةِ الدَّرقِيَّةِ؟ ألا تَضْبِطُ مُعَدَّلَ ما تَحْرِقُهُ الخلايا مِنْ غَذاءٍ، وما تُنْتِجُهُ من طاقَةٍ؟
ـ بَلى.
ـ والغدَّة النُّخامِيَّةُ مع إِنْتاجِها للهُرْموناتِ، ألا تُسَيِّرُ سائرَ الغُدَدِ الصَّمّاءِ؟
ـ بلى.
ـ لا أَطْمَعُ أَنْ يَقْتَصِرَ جهازي عَلى مَا ذَكَرْتُ لَكَ، أَرْغَبُ أن يراقب عمل الغدد والخلايا والعضلات والأعضاء.. أُحِبُّ أَنْ يُقَرِّر مُحْتَوى ما في الجِسْمِ مِنْ كارْبوهادريتْ ودُهونٍ وَأَمْلاحٍ مَعْدِنِيَّةٍ وَبْروتيناتٍ وفيتاميناتٍ وَماءٍ لِيُشيرَ إِلى الحاجَةِ منها فَتُقْضى، أَوْ يُشيرَ إلى عَدَمِها فَلا تُقْضى..
طار الوالد من مقعده واحتضن ولده وشرع يُقبِّلُهُ غابِطاً لِمَغْبوطٍ، يرى في الصّورةِ الذِّهنيَّة الّتي أبداها له فَتْحاً وأيَّ فَتْحٍ، يَتَرَضّى عليه ويضغط بشدَّة لا يبالي بالألم الذي يُحْدِثُهُ بِضَغْطِهِ، يَهيمُ مُنْتَشِياً بِبُنُوَّتِهِ، وَيَسْعَدُ نَشْوانَ بأُبُوَّتِهِ..
انْكَبَّ معاذ على تَطْويعِ صورتهِ، شرع يُعَدِّلُها وَهْيَ تَتَمَنَّعُ عليه، يُراودها محاولا كَسْرَ كِبْرِيائها، تزْدادُ تَمَنُّعاً وَتَشْتَرِطُِ عُلُوَّ هِمَّةٍ وَرُكُوبَ إِقْدامٍ، وَكُلَّما اسْتَسْلَمَ لِشَرْطٍ مِنْ شُروطِها تَناسَلَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ ولوداً كَمَلِكَةِ النَّحْلِ. يَتْرُكُها مُعْتَكِفَةً في مِحْرابِها ويَسْتَنْبِتُ لَها في خياله مَرْصداً يُشْرِفُ مِنْهُ عَلَيْها، يُعاوِدُ تَعْديلَها ولا يقفُ لبناءٍ بَعْدَ تفكيكٍ، ولا لِتفكيك بعْد بناء، يجْمع لها ويوسع في فَلَكها حتى تتحرر من الرَّتابَةِ، ثم تنطلق كالكوكب الدوّار في مجرَّةٍ أُفُقُيَّةٍ. ظلّ مقلِّباً لصورته يحسُب لدقائق الأمور ضعف عظام جسمه وعضلاته عدا عضلات الِابْتِسامِ والعَبوسِ ـ25ـ؛ حَتّى الطعامُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِطَ بِالعُصاراتِ المُتَدَفِّقَةِ مِنَ الكَبِدِ والبَنْكْرِياسْ Pancréas لِهَضْمِ الشُّحومِ والدُّهونِ والبْروتينْ والكارْبوهايْدريتْ؛ يريد أن لا يسمح بتناوله إن لم يكن حاجةً جِسْميَّةً، والبَكْتيرْيا المُساعِدَةِ عَلى الْهَضْمِ يطمع في حسابِها، والخمائرُ المُهَضِّمَةُ الّتي يَصْنَعُها المَعْيُ الصَّغيرُ يتوقُ لِقِياسِها، والخليَّةُ التي تَشْرَعُ في بِناءِ الأَوْرامِ سَواءً كانَتْ حميدةً أَوْ خَبيثَةً؛ يَسْتَشْعِرُها..
وَحَضَرَ أَوانُ نُضْجِها، نَضَجَتْ بِثِمارٍ بَهِيَّهْ، وَقِطافٍ دانِيَّهْ، بَدَتْ وَكَأَنَّها عَدْن من جَنّاتٍ عالِيَهْ "لا تَسْمَعُ فيها لاغِيَهْ".
خَرَجَتْ مِنْ خِدْرِها بائِعَة الهُيامِ، بَهِيَّة القَوامِ، عَروساً كَالبَدْرِ تَجُرُّ كِبْرِياءَها، عَريسُها يَنْتَظِر، والكَوْنُ مِنْ حَوْلِهِما يُغَنّي لِلْعِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ..
ظَهَرَ جِهازُهُ غُدَّةً إِلِكْترونِيَّةً دَقيقَةً قابِلَةً للزَّرْعِ تَحْتَ الجِلْدِ وفي كلِّ مَكانٍ مِنَ الجِسْمِ.
يَقومُ الجِهازُ بِتَحْديدِ ما يَكونُ عَلَيْهِ الجِسْمُ في حينِهِ وَيَحْسُبُهُ بِدِقَّةٍ مُتَناهِيَّةٍ، وَإِذا حَصَلَ خَلَل في عُضْوٍ ما؛ نَبَّهَ المُؤَشِّرُ أُذُنَ صاحِبِهِ، أَوْ رَجَّ كِيانَهُ، وَعِنْدَ تَنْبيهِهِ يُسْرِعُ الإِنْسانُ إِلى قِراءَةِ الإِشاراتِ في جَوّالِهِ، أَوْ في حاسوبِهِ، يُقيمُ صِلَةً بَيْنَ الجِهازِ داخِلَ جِسْمِهِ والجِهازَ خارِجَ جِسْمِهِ عَلى بُعْدِ عَشَراتِ السِّنْتِمِتْراتِ، فَإِذا كانَتْ مُتَطَلَّباتٍ يَحْتاجُ إِليْها الجِسْمُ؛ يُحَدِّدُها مَوْصولَةً بِأَسْماءَ ما يَعوزُهُ فَلا يَبْقى إِلاّ إِحْضارُها وَإِلقاؤُها وتَناوُلُها، وَإِنْ كانَتْ إِنْذاراتٍ تَعامَلَ مَعَها المَرْءُ وِفْقَ ما يَلْزَمُ..
سَعِدَ معاذ لاِخْتِراعِهِ وَقَرَّرَ دَعْوَةَ أَصْدِقائِهِ لِحَفْلَةٍ شايٍ، اكْتَشَفَ لَهُمْ شايَ العَباقِرَةِ، ثُمَّ دَعاهُمْ إِلى بَيْتِهِ لِتَجْريبِهِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ يَرْكَبُ إِلْهاماً ما فَتِئَ يَظْهَرُ؛ حَتىّ اجْتَبى النُّبَهاءَ، واصْطَفى النُّجَباءَ.
دخل عليهم أبوه يحمل في نيته مفاجأته الثانية، يودّ فتْح شرْنقتها لاسْتخراج ساكنتها، فوجئ بانْشغال معاذ عنْه..
يتوسّد ذقنه باطن كفِّه اليُسْرى ويشرد على أريكة شهدت أعراساً ثقافية رائعة، يهيم في جوّ المفاجأة ويقع في شَرَكها فلا يجد منها فكاكا..
ولما انْفض عن معاذ جلساؤه استأذن على أبيه فلم يأذن له، ناداه فلم يجب، هل هو نائم؟
((ولكن فوتونات المصباح لا تزال راقصة)).
ذلك جواب سؤاله.
((لا ينام قبل أن يلقي علي نظرة باسمة، ويرْشقني بكلمة ناعمة، فهل مرض؟
ربما)).
هذا ردّه.
هام في ظنونه السيِّئة فحاصرتْه وضاق بها حتى دفع بالباب فانْفتح، لا يزال ذقْن أبيه يتوسّد راحته، ولكن هذه المرّة يتكأ على اليمنى وفوق فراشه، تقدم إليه وقبّل رأسه وقد وجد عنده وجوما لم يهتد إلى تفسيره فسأله:
((ما الأمر يا أبي؟)).
فرد عليه:
ـ كم الساعة الآن؟
ـ الحادية عشرة ليلا.
ـ هل تجد في نفسك نشاطا لمناقشة موضوع هام؟
ـ نعم.
ـ لا، لا، ليكن ذلك غدا، اذهب إلى فراشك.
أقفلت في وجهه الأفكار وانْحسرت في وجدانه المفاهيم فطفق يقرع حبال صوته دون أن يستبان منه شيء، قلق لذلك معاذ وألحّ في اسْتخراج مكْنون أبيه فلم يفلح.
ذهب إلى فراشه وترك حُبّه لأبيه يتوسّده.
بات الأب مهموما بالمفاجأة، كسَحَت فيه سنين كان يُدغْدغ فيها حلْم الأُبُوّة، فابْتدأ الآن يَمْسح أعواماً من إشفاقه على البُنُوّة، نبت فيه الجدّ، وهوى بين يديْه الوجْد، ولكنّه لن يترك نفسه على حال النّشوة الزائفة. مضت ليال ثلاث ومعاذ يترجّاه لقول ما كان يريد قوله.
يستشير الوالد في شأن ما يستجمع له شروده صديقين له، أحدهما بقاموس لا توجد فيه مفردات الحق والعدل وحفظ الأنْساب؛ يشير عليه بتحويل المفاجأة إلى أخرى وفيها كذب وثقل تنوء بحمله الجبال، والآخر يشير عليه بالمبادرة إلى البِرّ فورا، ظل بينهما طريحا كهدْي العيد، يجمع السنين ويخبز منها خبز الوهم.
((ولكنني لم أفعل ما فعلت إلا مُكْرها، ولم أسْتجب لأبوّتي إلا من غريزتي، أأكون ظُلْمة تُجَنُّ فيها الحقيقة؟)).
تلك خاطرته.
وقع الوالد بين إغراءين كلاهما لا يقوى على الانتصار لنفسه من صاحبه، ولكن أحدهما يحمل حقا وآخر يحمل باطلا، أجملهما يحمل نورا وآخر يحمل ظلمة، ظل بينهما معذَّباً يعرف من ميله الطبيعي للعدل؛ لمن ينتصر، ولكنه لا ينتصر.
انْتكس ساخراً من "فرويد" حتى ذبُل جسمه ووهن في يده أمره، ضعفت قدرته على التحمُّل وازْدادت همومُه لتصوُّرات يَقِنَتْ في نفسه كما يقن الماء، ينحدر إلى الإشفاق لعلّ معاذ يجد في حاله داع إلى تقبُّل مفاجأته، لا يعي على مصيره لأنه لا يرسمه، ولا يبالي ببؤسه لأنه لا يَحُسُّه، تورّم ذهن الرجل وتلبّد إحساسه فسقط مريضا.
لم يجد معاذ لانتكاسة والده غير تفسير واحد، ولكنه لا يقف على كُنْهه، يرى لهمِّه سببا، ولأمره طلبا لا يقوى على تحمُّل تبِعاته، يسْتنْتج معاذ اسْتنْتاج العُقلاء المُتوسِّمين، ولمَ لا وهو من صنْع يد رجل خبَر النّفس والذِّهن بثقافته الواسعة؟..
تُرى ماذا يمكن أن يكون هناك؟
الكل يسأل، والكل يحار، والوالد في صدَفَته يتقلّب منْزلقا لا يفتحها وكأنه ينْتحر.
بينما معاذ في أمر أبيه يشقى، وعليه في حلّ عُقْدته أبقى؛ عاد المريضَ في البيت صديقُُ حميم كان متغيِّبا، ومجرد أن عاد صديقه ظنا منه أنه يعاني مرضا عضويا إذ به يجلس على يقين من ضياء معرفي يوافق فطرة الإنسان ويملأ قلبه بالطمأنينة، مدّ يده إلى صديقه وضغط على كفه وكأنه يستجْمع قواه لقول شيء ما، فاتحه بأمر مفاجأته المخبأة وسأله وكأن بينهما لغز، فهز رأسه بالموافقة..
مكث عنده قليلا، ثم ودعه، وعند الباب أسرّ إلى معاذ بقوله:
((لي إليك مفاجأة وهي ليست سارة إلا على الأقوياء، فهل أنت شجاع لتحمُّلها؟)).
ـ وما هي؟
ـ هل تجد في نفسك القدرة عليها؟
ـ ربما.
ـ إنها السبب في انتكاسة أبيك.
ـ أحقا؟ وكيف لك بمعرفة ذلك وقد أطلت عنه غيبتك؟
ـ إنه صديقي الحميم، وبالمناسبة ليس هو بيضاوي، بل هو طنجاوي.
ـ طنجاوي؟
ـ أجل، فلقد انتقل إلى الدار البيضاء منذ زمن وحملك معه وأنت غضّ غرير.
ـ نعم، نعم، سأستعين على مفاجأتك ولا أدري هل أقوى على مفاجأة والدي، لقد شوّقْتني وأخفْتني؟
ـ أخفتك؟ إذن لا داعي لـ...
قاطعه مُتَرَجِّيا.
ـ لا، لا، سأتجلّد لها، ولن أخف، اطمئن.
ـ طيّب، هل وعدك أبوك بشيء؟
نعم، قال لديه مفاجأة، ولكنه إلى الآن لم يقل شيئا، ومن يومها وصحّته تنْتكس.
ـ هل تريد له الشّفاء؟
ـ وهل هناك من يرفض شفاء أبيه؟
ـ وتلك هي المفاجأة.
ـ أفصح من فضلك.
ـ غدا نتلقي في النادي.
ـ موافق.
ابتدأ يمنحه جرعات الأناة والثّبات متقاربة ومتفاوتة، كل جرعة تعْقُب أختها بما لسابقتها من أثر إيجابي، يحقنه بالصبر والجَلََد، يضيف إليه نُبْل الرضا بالقدَر الذي هو علْم الله المُحال مخالفته، طفق يهيّئه لتقبُّل ما ليس من قبوله بُدّ، في رأسه سلوك الحكيم الزّائف الذي أشار على الملك يؤوِّل حُلْمه، قتله على تأويله الذي أشار به إلى موت الملك وجميع أفراد عائلته وكان الملك قد رأى في منامه أن أسنانه جميعها قد سقطت، وحين استقدم الحكيم الحكيم قال له:
ستكون أطول أفراد أسرتك عمرا.
ابتدره في النادي بالحديث عن الخيل، سأله عن ذَكَر الخيل فقال هو الخائل.
وسأله عن سرّ التحكُّم فيها فقال:
ذلك يعود للحَكَمَة التي توضع في فمها.
وسأله عن اشْتقاق لفْظ الحِكْمة فقال من الحَكَمَة.
انظر إلى الفارس كيف يتحكّم فيها كرّاً وفرّاً، كيف يوقفها إذا أراد، وكيف يحركها إذا يشاء، فالحكمة مُشْتقَّة من اسم الحَكَمَة، والحكمة هي القول المضبوط الذي لا ينقص فيزيد عليه، ولا يزيد فينقص منه.
هذا مِهاد فكر من أجل عمل، وغَواش عمل من أجْل غاية..
حرّك ذهنه في حوار يسعده ويسيح به في عالم الفكر والثقافة ومعاذ متعجِّل يريد المفاجأة، ولكنه يستحي من طلبها، يزداد إنصاتا وتمعُّنا كلّما منحه جديدا لا يعرفه، فلقد أخبره أن أباه من مواليد طنجة، وقد كان يعمل سائق تاكسي، ثم ظهر له ما ظهر:
((فسافر بكم إلى الدار البيضاء))...
وجد عبد الله لمعاذ صفاء ذهن فانتخب حُكْما على رباطة جأشه سيعْتزّ بحكمه إن كان مصيبا، وسيطلب العلم أكثر وأكثر إن كان مُخْطئا.
دخل به بيته ليسمر معه قليلا، أجلسه قبالة التلفزيون، ثم تركه قاصدا وانْشغل في المطبخ يهيِّئ شايا نَمَطيّاً يشبه شاي مقهى الحافة بمرشان، ومقهى كامْبا (Gamba) بالدرادب.
تركه مع الشريط المُسجَّل، وبين الحين والآخر يسأله ليرى مدى اهتمامه بما يسمع، يريد انتخاب رأي حاسم عن جدِّية معاذ، وجده حافلا بالموضوع، يسأله عن زيد وأسامة وعن سبب إبطال البنوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحين اطمئن إلى وعيه على الموضوع جلس إليه وقال له:
((معاذ، يا بنيّ، ماذا تقول فيمن يتبنّوْن أطفالا ليسوا من صُلْبهم؟)).
ـ أقول ما قال الله وفعل رسوله.
ارْتمى عليه وشرع يعانقه ويقبّل جبهته والدموع تنهمر على وجنتيْه ومعاذ مُضْطربُُ قَلِقُُ حائرُُ لم يحد إلى سلوك صديق والده تفسيرا هو الآخر، ولكن عبد الله ألقى إليه قائلا:
((إِنَّكَ ابنُُ مُتَبَنّى)).
انْتفض معاذ مهزوزا من الصّدْمة التي نزلت عليه كالرّحى، يريد الباب في المطبخ ويريدها في الحمام وفي الدرج نحو السطح وعبد الله يتبعه مُتلطِّفا ومُردِّدا:
((لا تظنّنّ أنّك لقيط، لست لقيطاً يا معاذ، لك أبُُ وأمّ، كل ما في الأمر أن أباك الذي تبنّاك لا يعرفهما، لأن أمّك نسيتْك في المقعد الخلْفي للسيارة، وحين عثر عليك مصطفى حملك إلى بيته وألحقك بأبنائه حُبّاً وكرامةً لك، ولو عرف أبويْك لما أبطأ لحظةً واحدة في إلحاقك بهما)).
شرع معاذ ينزل من إيقاع بكائه شيْئاً فشيْئا، نزل زفيره وشهيقه في حضْن عبد الله إلى أن هدأ.
أخذ بيده وسار به إلى مصطفى.
ظل مصطفى جالسا على الجمر وقد نهض من فراش مرضه قويّا مُنْفعلا يغْلي مخّه لأنّه يعرف حكمة عبد الله، ويقدِّر فيه حسن سلوكه، وما إن رنّ الجرس حتّى قفز من مقعده نحْو الباب، فتحه في شوْق فارْتَمى معاذ في حضْنه وتعانقا في حرارة زائدة، ظلّ عبد الله يدفع بهما في لُطْف حتى أقعدهما وسط الدّار عند وجوه مُكْفَهِرّة لا تعرف شيئا من سرّ معاذ.
وعندما سكن عنه الرّوع ألقى بنفسه إلى سفيان وكان الأكبر، وإلى جمال وهو الأصغر، وإلى الدكتورة شيماء، والأستاذ نبيل يقول:
((لم تُشْعروني يوما ما أنني لست منكم)).
فقالوا:
((من قال إنّك لست منّا، إنّك أخونا)).
ـ كلاّ، لست من صُلب أبيكم، إنّما أنا مُتبنّى.
بلهت العيون ويبست الجُفون وتدلّت الألْسُن واصْطخبت الظّنون واصْطفقت الحقيقة للحقيقة واشْرأبّت الأفكار تُنقّي نفسها من الدَّرن، ثم نهض الأبناء جميعا لجواب أبيهم الصّادم فانْكبّوا على معاذ ينْتحبون...
يا له من مشهد، ويا لها من قاصمة، ولكن الحقيقة أولى وأنبل..
((والآن من يكون والدي؟ ومن تكون والدتي؟)).
نهض مصطفى وعبد الله وأخذا بيديه، ثم دخلوا الغرفة وطمأناه عليهما، ولكنهما لا يعرفان شيئا بشأنهما كما أخبراه.
اتّصل حمزة بمعاذ كعادته، ينْقطع عنه، ولكنه لا يهْجره، توطّدت علاقتهما، ولكنّهما لا يتزاوران إلا في فصل الصّيف عندما ينزل معاذ إلى طنجة، وهذه المرة عزم حمزة على السفر إلى الدار البيضاء، ولذلك سأل عن معاذ ففرح فرحا شديدا وقفز راقصا لفرحته؛ وقد اسْتُغْرب سلوكه لطراوة مصابه واستمرار معاناته بعدم معرفته أبواه، ومع ذلك نشط لصديقه حتى أقدمه من المحطة الطرقية إلى بيت مصطفى من بعد إذنه.
((ما الجديد عندك يا معاذ؟))
طفق يبكي بكاء تمنّى حمزة أن لو لم يكن قد سأله عن الجديد، ولكن معاذ بادره بالقول:
((لسْت من صُلْب سيّدي مصطفى، وليس سفيان وجمال ونبيل وشيماء إخوتي)).
ـ ماذا؟
ـ ما قد سمعت.
انخرط يبكي معه وقد دسّ رأسه في صدره، ثمّ عاد الأبْناء مرّة أخْرى إلى حالتهم الأولى، عبد الله ومصطفى وأمّ شيْماء لا يفعلون شيئا سوى ملاحظة ما يجري واسْتبدال مناديلهم، تركوا المجال للمشاعر أن تسبح وتسيح وتنفعل كما تشاء لغاية خمودها حتى لا يظل الاحتقان مُسيْطِرا، والتشنج قابضا.
الأبناء في عالم الأبوة ساهون وهي غائبة، وللأمومة يطلبون وهي ضائعة.
لاحظ عبد الله شبَهاً بين معاذ وحمزة رغم خلاف لونيْهما، تساءل عن اللون فلم يقف عنده لأنه عِرْقُُ دسّاس مُنْتخَب في الذُّرية اللاحقة، يصيب البنين والحَفَدَة.
كانت ملاحظة يطْغى عليها الإشْفاق وتسيطر عليها الرّغبة في إيجاد والديْن للمحبوب معاذ.
انْتقل معاذ من الانشراح إلى الانطواء، تغيّر سلوكه وتبدّلت نفْسيته، ولكنّه لم يغيِّر أفكاره ومفاهيمه، فلقد عَقَد قلبه عليها بعدما أقنعت عقله وطمأنت قلبه ووافقت فطرته، غاص في التفكير يدير في ذهنه صورا وصورا لأبويه ويودّ لو يبَرّهما، ولكن أين هما؟
انْغمس مصطفى وعبد الله في تقليب وجه الماضي علّهما يعْثُران على خيْط يُرْشدهما إلى حِبَّيْ معاذ، قرّرا النزول إلى طنجة مُسْتَذْرعين بشُغْل.
نزلا ضيفين على أبي حمزة، ثم صارا في كل غدْوة يجدّان في البحْث عن شيء لا يعرفان السبيل إليه، لا ينْقطعان عن السؤال واتِّباع الاحتمال إلى الليل.
اغْتَمّ لهما أبو حمزة فطفق يترجّاهما لإبْداء ما بهما لعلّه يساعدهما إن كان بإمكانه؛ ويعْتذر عن فضوله، ولما أخبراه عند مداعبة النوم أجفانهما في غرفة ينامون فيها جميعا وكان المصباح لا يزال يبثّ نوره؛ تغيّر لخبرهما أبو حمزة، فلقد فقد ابنه هو الآخر وما تذكّر قصّته منذ فُقْدانه؛ لأنّه قد سدّ شَرْنَقته عن خبره حتى لا يصاب بأذى، توعّك لخبرهما وانهار لقصّتهما، نهضا إليه يحفلان لأمره ويقترحان عليه الذهاب إلى المستشفى، ولكنه يرفض:
((فمعي بقِيّة من طاقة التَّحَمُّل)).
تلك قولته.
ترجّياه أن يخبرهما إن كان قادرا على ذلك، فابتدأ يسرد قصة ولده المفقود...
تيقّظت في ذهن عبد الله خلايا عصبيّة تَمْتطي التَّوسُّم وتَرْتدي التَّبسُّم، فحفل بأمره غير مُصدِّق ما سمع، يلحّ على نفسه في إيجاد أبويْن لمعاذ وبأيّ ثمن، ولكن هل يتّفق على خُدْعة مع رجل وامرأة، أم يشري له أبويه؟.
وقع نظر عبد الله على جسم أبي حمزة فصار يحدِّق إليه مسجِّلا دقائق وتفاصيل عن صورته، عن شكله وهيْئته، يسجِّل مِشْيته من الخلْف ومن الأمام، يُدوِّن صورته من جانبيْه، فعنْده أن الابن يحمل من أبيه صفات، وقد منحه ثلاثة وعشرين كروموسوما لا بُدّ أن يستبين شيء منها في جسم الولد، فربّما وجد فيه أباً لمعاذ ولو أن يكون ولدا بالظّنّ ما دام هو قد فقد ابنه، يلحّ في سؤاله عن واقعة فُقْدانه فيمنحه ما يمنح ويبخل عليه بما يبخل، أساء الظن به، ولكن الرجل المكلوم لا يخْفي سرّاً، وإنّما يخْفي تقْصيرا...
سافرا إلى الدار البيضاء وفي جعْبة عبد الله ملاحظات منْقوصة لا يبْغي إكْمالها من عنده، فليس هو بالرِّوائي الذي يتحكّم في أجْرامه القصصيّة ويبدع في حبْك حكاياته السّرْدِيّة.
صار يتردّد على بيت مصطفى للقاء معاذ، كما صار متَّصلا به خارج البيت، وأخيرا قرّر جمْع معاذ بحمزة ووالده، فلقد شكّ في أمْر أبُوّة أبي حمزة لمعاذ، وشكّ في أخُوّة معاذ لحمزة، ولكنه لم يفصح، اتصل بمصطفى لتنظيم سفر آخر إلى طنجة لملاقاة أبي حمزة، ولكن صحبة معاذ هذه المرة؛ فقبل.
صار عبد الله يراوح شكّه وهو كاره، يتمنّى لو يتسلّقه درْجاً درْجا، انْكبّ على المقارنات، وطفق يتردّد على الإنترنت يبحث عن عِلْم أو معْرفة يساعدانه على الخروج من وساوسه، ولكنّه لم يعد يراوح مكانه من الشكّ، بل أبحر في الظّنّ مما جعله يستمع لحدْسه، ويصْغي إلى فراسته، كلّ ذلك يموج في سريرته ولا يستطيع البوح به، فلو باح به فربّما تعلّق الأب المكلوم بالابن المكلوم، ولكن في ظنّ وبظنّ، وهو يريد اليقين، يلاحظ ناصية معاذ وهو مقطَّب الجبين تتحرّك فيه عضلات العبوس فيجد نفس القسمات في ناصية أبي حمزة، يحدِّق إلى شكل قدميْه وهم يجلسون القرفصاء لطعامهم فيجد بينهما وبين قدمي أبي حمزة شَبَها، يرفع رأسه إلى وجْهيْهما مُتأمِّلا أعْينهم فلا يجد فيها شيئا من الشّبه، ولكنه يتساءل إن كان قد أخذ شكل عينيه من أمّه، يدقق النظر في أنْفه وثغْره وأسْنانه فلا يجد فيها تشابها، ولكنه يعود إلى قوله باحتمال أن يكون قد أخذ ذلك من أمّه، وتدْخل أمّ حمزة غرفتهم بعد استئذان؛ بطعام العشاء، وينظر إلى وجهها عبد الله، ثم يغضّ بصره، ولكنه اندهش عند استرجاعه صورتها فوقع في حيرة، رفع رأسه مرة أخرى يحدِّق إلى وجهها فاضطرب وارتبك ولفت نظرها ونظر الجميع، بالكاد عاد إلى هدوئه، ولكنه صعد في سلّم ظنّه درجات صارت قريبة من اليقين، عندها قرّر مفاتحة مصطفى وأبا حمزة بشأن ملاحظاته، وحين حفلوا بها وباشر أبو حمزة في خلوته بزوجته رُؤْية انطباقها على الواقع؛ وقع هو أيضا في الظّنّ، ولكنه منْدفع بأبُوّته إلى اليقين في الوهم... حتى معاذ راوده إحساس غريب وميْل عجيب لأبي حمزة وأمّه في البيت، فقد كانا دائما خارج البيت في عُطَل الصيف، طفق يتقدّم في السكينة مدفوعا إلى ساحتها دَفْعا، يتساءل عن مُحرِّك دفْعِه فلا يستبينه...
صارت أعينهم ناطقة وألسنهم صامتة، حتى عمّة حمزة شرعت تتردّد على مجلسهم تحيّيهم وتكلِّمهم بلغتها، تقرأ النواصي قراءة صائبة، وإذا اطمأنت إلى جلسائها أبْدعت في الفهم وأحسنت في الإفْهام، عرفت أنّهم يتحدّثون عن ابن أخيها المفقود.
عادوا إلى الدار البيضاء مكتنزين بملاحظات وجيهة، ولكنها لا تجد من يحملها على اليقين لأنها في المعرفة تكتفي بالملاحظة، بينما في العلم لا تقبل الملاحظة فحسب، بل تضيف إليه التجربة. تلك هواجس عبد الله التي قرر الذهاب بها بعيدا، فاقترح على مصطفى سفرا آخر إلى طنجة أعدَّ له ورتَّب.
(( السيد المخْتار لي رجاء)).
ـ وما هو.
ـ أن تجري فحصا طبيا على حمضك النووي أنت ومعاذ، فما رأيك؟
ـ أفعل.
قدموا من المختبر بتحليل سلبي، دسّ المختار في جيبه الوثيقة الطّبية وتقدّم إلى معاذ يضع ذراعه على عنقه وهو يحسّ بأبوته مشاعريا، ولكنه لا يهتدي إلى الحلقة المفقودة في الشفرة الوراثية إن كانت هنالك حلقة، ما كان دارْوينياً، ولا يرضى أن يتشبّث بنظرية ظهر فسادها، يواسيه ويصبّره ويفتح له أبواب الأمل ويجنْدل بين يديه القنوط وهما يمشيان إلى جانب مصطفى وعبد الله، صامتون صِمّيتون إلا المختار ومعاذ.
دخلوا الدار فإذا بعمّة حمزة تنهض لاستقبالهم وإلقاء التحيّة عليهم، قبّل حمزة رأسها وتقدّم معاذ يحاكي فعْلة حمزة ليقبّل رأسها ففقد توازنه إثر عثْرة في زرْبية لم تحسن أمّ حمزة بسْطها؛ فسقط على العجوز لتحتضنه كابْنها أو أحد أقربائها، ضمّته إليها وأجْلسته بجانبها، توسّطاها وهي تتحدّث إليهما بلغتها، وحين اطمئنّ معاذ اطمأنّت له خديجة، ثم شرعت تشْتمّه مدفوعة بحدْسها كما لو كانت قطّة تعرف ريح أبنائها، حفلت بمعاذ بشكل لفت انتباه أخيها فشرع يشير إليها بالتخلّي عن فعْلتها، تتحسّس جلْد معاذ، وشعر رأسه، تحكّ كفّه وتشمّها وأخوها مُستغْرب ومعاذ مستسْلم قد أحسّ بدفْء القرب وتجاوب معها، وفجْأة انْتفضت كالعصفور من تحْت القَطْر ونهضت تقول بلغتها ما يعني أن معاذا؛ ابن أخيها، تقسم بالله على ذلك بإشاراتها، تدخَّل أخوها ليمنعها مما هي فيه فازْدادت إمعانا بلغتها غير المنطوقة تقول: إن معاذا ابن أخيها..
سكنت الغرابة بيْت السيد المُخْتار وسادته الحيرة، ولكن الشهادة الطبية قطعت كل شك، وأزالت كل لُبْس.
تي را را رَري رَرا رَري راارا، تيرا رَرَريرا تيرا رَرَريرا...
موسيقار الشرق يغني، ولكن لا تلفزيون ولا راديو...
((ألو، آلو)).
مكالمة هاتفية رنّ لها تلفون المختار.
(( ماذا تقولين يا سيدتي؟)).
ـ حضرتك المختار المقراعي.
ـ نعم.
ـ انظر إلى الوثيقة الطبية التي معك.
ـ ما بها؟
ـ إنها ليست لك.
ـ كيف؟.
ـ دقِّق في الاسم جيدا، إنها لغيْرك، ففحْص الحمض النووي D.N.A بالنسبة إليك كان إيجابيا، تعال لتأخذ شهادة طبية أخرى على مطابقة حِمْضك النَّووي لحِمض معاذ، وإذن فهو أبوك.
ـ ماذا تقولين، هل يتقدّم الأب ابنه في المجيء إلى هذه الدنيا؟
ـ أمازحك هاهاهاها..
ـ ماذا من فضلك؟
ـ إن فحص الحمض النووي لك ولمعاذ متطابق تماما، فأنت أبوه، أأننتت أأببووهه، هل أعجبتك هذه؟.
هوى على وقع أصوات رتيبة لأخته وهي مستميتة في الدفاع عن رأيها في معاذ، معاذ ابن أخيها وولدها، لقد استعادت رائحته من الماضي البعيد فعرفته وهم لا يصدّقونها، تملك الخرساء علم الحدْسيات، كان صبيّ أخيها في أشهره الأولى لاصقا بها أكثر من أمّه، تضعه فوق صدرها وتغطّيه لتدفئه، يلامس جِلْدها ويمتصّ حليبها جنْباً إلى جنب مع رضيعها.
حفل الجميع بالمختار حتى عاد إليه وعيه، وكان معاذ هو السبّاق إلى إسعافه، حتى إن سقْطته لم تكن إلا على ذراعيْ معاذ، فلقد لاحظ فقدان توازنه فتلقّفه قبل أن يقع فوق الأرض، جذبه إليه المختار وأدنى أذنه إلى فمه وهمس إليه قائلا:
(( أتدري ممن كانت المكالمة؟)).
ـ لا.
ـ من المستشفى، من الطبيبة المشرفة على فحص حمضنا النووي.
رفع معاذ رأسه ظنا منه أن المختار قد بدأ يـَ... شدّه إليه بقوّة، وهمس إليه مرة أخرى يقول: ((لقد أخبرتني أن الوثيقة التي معنا لا تعود إلينا، فقد وقع خطأ إداري، انظر إلى اسم المعنيَّيْن فيها، انظر إلى اسمي واسمك فلن تجدهما، فقد أخبرتني أن فحصنا إيجابي)).
طار معاذ من مكانه يبحث عن تلك الوثيقة وهي لا تزال في جيب أبيه، عاد ولم يستأذن في استخراجها حتى قرأها فإذا بالاسمين فيها لا يعودان إليهما، فارتمى على أبيه يقبِّله بانتحاب لافت، والأب يلوّح بيده لزوجه ويشير عليها بأن تتقدم وتقْترب لتعانق معاذا وتحْضنه، ولكنها لا تفهم ما يجري لقناعتها بالنتيجة السلبية، وحين دنت من زوجها وانْحنت على وجهه لتفهم منه مراده مدّ معاذ ذراعه إليها وأمالها على أبيه فاحتضنهما معا، المرأة تكافح للخلاص منه وهو مُمْسك بها وزوجها مُتمسِّك بأطرافها؛ يمنعانها من التحرر، وبالكاد أوصل إلى مسامعها أن معاذا ابنها، وأن الفحص الطبي كان إيجابيا.
يا لَمَمْدَرِيّة الزمان، أناسُُ يدور بهم زمنهم نحو الشقاوة، وآخرون يجري بهم إلى السعادة.

........................

ـ 1 ـ أسوار باب الفحص هي أسوار مدينة طنجة العتيقة اندثرت وبقي شواهد منها بمحاذاة سوق السمك الرئيسي بالسوق البراني...
ـ 2 ـ "سبْسي": عود بطول عشرين سنتمترا إلى خمسين أو يزيد من نبات الدفلى أو عود شجرة الزيتون مخروطي يوضع على حافة أحد طرفيه "الشّْقافْ" وهو على شكل زاوية النجار بطول سنتمتر واحد إلى سنتمترين مخروطي يوضع بأحد طرفيه نبات القنب الهندي المخلوط بطابا المسمى "الكيف" في لهجة المغاربة لشرب دخانه.
ـ 3 ـ "كُرْزِيّة": حزام للنساء والرجال يلف حول البطن لحمايتها من الفتق عند حمل الأثقال ولحفظ النقود...
ـ 4 ـ "لاباز": مدينة بوليفية هي أعلى مدينة عن سطح البحر وفيها تقع كوباكابانا.
ـ 5 ـ:" الكْلاّسَة": خادمة بالحمام العمومي هي غير الطباخة التي تعنى بتنظيف أبدان النساء.
ـ 6 ـ عدد فقرات العمود الفقري لقطِّها الوديع خمسون فقرة.
ـ 7 ـ المجلومة: المجهولة والمعلومة.
ـ 8 ـ البراكة: سكن من الخشب والقصدير، أو هي سكنى من الصفيح، إسبانية.
ـ 9 ـ تملك النحلة من العيون خمس.
ـ 10 ـ "حضّارة": عامية تعني النساء اللائي يجلسن في الأعراس على فرش متقابلات وهن متزينات.
ـ 11 ـ "قطيات": عامية بمعنى ضبطن متلبسات.
ـ 12 ـ ودراسية: نسبة إلى قبيلة ودراس التابعة لولاية طنجة تطوان.
ـ 13 ـ "الشواري" غير الكساء الذي يلقى على الدابة والمسمى: البردعة، بل هو ما يلقى على الدابة وله كيسان في طرفيه يحفظ فيه المتاع ويحمل، وهي مصنوعة من الدوم غالبا.
ـ 14 ـ رأس الإنسان البالغ المغطى بالشعر يحتوي على 100000 شعرة، وعدد الشعيرات يكنى به عن عدد الحضور من المغاربة في طنجة الدولية بدار المندوب.
ـ 15 ـ الانصزالية: الانصزالية تقنية من تقنيات السرد المَمْدَري تم توظيفها في أول رواية مَمْدَرية: نساء مستعملات.
ـ16ـ بارك، باركآ: عامية يقصد بها طلب التحرك والتقدم إلى الأمام وإلى الخلف، ومعناها: كفى.
ـ17ـ توابع المشتري 12 قمرا، اثنان منها أكبر حجما من عطارد، وأربعة منها اكتشفها غاليليو هي: كاليستو بقطر طوله 3220 ميلا، وغانيميد بقطر طوله: 3400 ميلا، وأيو بقطر طوله 2310 ميلا، والرابع اسمه: أوروبا بقطر طوله: 1950، وهذه الكواكب الأربعة أقدر على عكس الضوء من قمرنا، وهي ساطعة جدا، وأما غيرها فإنها خافتة ويصعب رصدها، والمشتري أكبر الكواكب في مجموعتنا الشمسية وهو إلى جانب زحل عملاقي النظام الشمسي، وقطره يبلغ أحد عشر ضعف قطر الأرض...
ـ18ـ تتأقلم خلايا الأنف مع الروائح الكريهة وغير الكريهة في مدة دقيقتين، وبعدها لا يحس الإنسان بتلك الروائح.
ـ19 ـ سقوط غرناطة لافت جدا، لأن سقوطها يكنى به عن سقوط الأندلس كله، وقد كان ذلك سنة: 1492 ميلادية، وفتح معاذ عينيه بعد سقوطها بـ: 462 سنة يقف بنا على سنة: 1954م وهو تاريخ ازدياد الكاتب.
ـ20ـ العَصَبة في الإنسان خلية. وبعكس باقي خلايا الجسم؛ العَصَبات لا تتجدد، إذ أننا نفقد في كل يوم 100000 عصبة، ولو كنا نعرف بالتحديد عدد العصبات فينا لأمكن معرفة عمر الإنسان، هذا بادي الرأي، أما بالنظر السليم المتأني فإننا وإن كنا قادرين على معرفة ذلك، فإن عمر الإنسان مربوط بأجله، وأجله لا يعرفه أحد إلا الله تعالى، ومهما توافق عدد العصبات مع الأجل، فإنه مثل توافق الموت المعلوم مع الأجل المعلوم في حياة الناس، فالموت يأتي والإنسان لم بفقد كل عصباته، وهذا كاف لإدراك أن معرفة العصبات لا تعني معرفة الأجل، والعصبات في هذه العبارة يكنى بها عن العمر.
ـ21ـ تولى ولي عهد البرتغال الحكم بتاريخ: 1 فبراير سنة 1908 ميلادية، ولكنه لم يمكث في الحكم إلا مدة 20 دقيقة إذ تم اغتياله كحال والده.
ـ22ـ الكلمة التي تجمع معنيين متناقضين هي كلمة الجون مثلا، ولكنها ليست الوحيدة، بل هناك غيرها يزيد عن عدد حروفها وهي كلمة السليم التي تعني الملدوغ والسليم، والظاعن التي تعني المسافر والمقيم.. وبها تكون الكلمة يكنى بها عن العدد، ولكن العدد غير معروف، إذ هو أربعة بالنسبة لكلمة السليم والظاعن بغير الألف واللام، وهو ثلاثة بالنسبة لكلمة الجون والقرء بغير الألف واللام.. والنتيجة عدم الوصول إلى المعرفة اليقينية التي يبدو أنها مقصودة في الفقرة، وعليه يظل المتلقي عند أمر لا هو يقول بعدد ثلاثة، ولا هو يقول بعدد أربعة، ولا حتى بعدد خمسة.. وإذن فالفقرة في ذهن الكاتب فقرة يفهمها وحده فهما محددا، أي أن العدد في ذهنه وحده، أما المتلقي فلا يستطيع تحديد العدد لأنها مفتوحة ولو تنقل بين الكلمات كأسماء أو أفعال أو مصادر أو اسم فاعل أو اسم مفعول، وقد يستطيع تحديد العدد فيما بعد عند متابعته للقصة، ولكن أهم شيء في الموضوع هو عنصر الرغبة في المعرفة والحافز عليها، فالكاتب دفع بقارئه إلى البحث في اللغة لمعرفة الكلمات التي تتضمن معنيين متناقضين وبه يثقف قارئه تثقيفا فنيا وهو من الأدب الـمَمْدَري؛ به من الحيلة ما يكفي للوصول إلى غاية الكاتب.
ـ23ـ توقُّف القلب يكنى به عن العطس، إذ عندما يعطس الإنسان يتوقف قلبه ليفسح المجال لمخه حتى يطرد الأبخرة الضارة التي غشيته، كما يكون للحساسية من شيء ما، وهو هنا جاء من حساسية غبار الطلع، وأربع مرات تعني أربع عطسات.
ـ24ـ سقطت القدس في أيد الصليبيين سنة 492 هـ الموافق 1099 م، وحررها صلاح الدين الأيوبي في 26 رجب سنة 583 هـ الموافق 1117 م، وهي الآن في يد اليهود، وذكرها يستهدف التحرير ولا شيء غير التحرير.
ـ25ـ جسم الإنسان الكبير يتكون من 206 عظمة، ويحتوي على 639 عضلة، وعضلات العبوس43 وعضلات الابتسام 17.

.....................

بيانات عن الروائي:
========

محمد محمد البقاش أديب باحث وصحافي من مواليد مدينة طنجة سنة 1954.
عمل مدير ورئيس تحرير مجلة (الجيرة) التي كانت تصدر في طنجة، وتوقفت بسبب انشغالاتها في طباعة الكتب الثقافية على شكل سلسلة.
عمل رئيسا للقسم الثقافي بمجلة (المهاجر)، و جريدة (صوت المهاجر) اللتين كانتا تصدران في غرناطة بإسبانيا...
أستاذا محاضرا في المؤسسات الثقافية بغرناطة في المعهد الأوروعربي، والكليات منها محاضرة عن الإرهاب في كلية العلوم السياسية بغرناطة بتاريخ: 14 / 12 / 2001 .
حاضر في المؤسسات الثقافية بطنجة منها محاضرة خاصة للأساتذة الإسبان الذين يقدمون من شتى المدن الإسبانية يتطوعون في جمعية الأمل المغربية لتعليم اللغة الإسبانية.. كانت المحاضرة عن الهجرة السرية في المعهد الوطني للعمل الاجتماعي INAS بتاريخ: 13 غشت سنة 2008م بمناسبـة صـدور كتابه الهجرة السرية (مجموعة قصصية) مترجما إلى اللغة الإسبانية في نفس السنة.
ومحاضرة عن الأدب الممدري في غرفة التجارة والصناعة والخدمات بطنجة في: 13 مارس 2009.
عمل معدا ومقدما لبرنامج: دنيا المرأة، وبرنامج: أدبيات بإذاعة مدي أنطر (إذاعة المنار اليوم) ببروكسيل سنة 1987 – 1988.
وأستاذا بالمدرسة العربية ببروكسيل سنة 1987 – 1988 .
ومعلقا سياسيا بإذاعة ميدي 1 ببروكسيل سنة 1987 – 1988.
فاز بجائزة أحسن رسالة صحفية بجريدة الشرق الأوسط سنة 1988 .
فاز بجائزة المربد للقصة القصيرة سنة 2006.
فاز بجائزة ناجي نعمان للإبداع سنة 2007.
منحت له مطلع هذه السنة (سنة 2009) الدكتوراه الفخرية وهي درجة تمنحها الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب للشخصيات العربية التي قدمت إسهامات بارزة في ميادين الترجمة والعلوم اللغوية واللغة العربية والثقافة والإبداع، وذلك بهدف تكريم وإبراز الشخصيات الأكثر عطاءً وإبداعا وتأثيرا في حركة الثقافة العربية
نشرت له أعمال بكل من جريدة الشرق الأوسط، والسياسة،
والحياة الجديدة، وحق العودة، ومجلة الناقد، والمهاجر، والوعي، ومعظم الصحف المحلية والجهوية الصادرة في طنجة..
ـ يعمل حاليا مدير سلسلة الكتب الثقافية لمنشورات مجلة الجيرة.
ـ رئيس جمعية الجيرة للتفاعل الثقافي.
ـ مدير ورئيس تحرير طنجة الجزيرة جريدة إلكترونية ).

....................

المؤلفات المنشورة
========


- تائية الانتفاضة. (ديوان شعر بقصيدة واحدة في ألف بيت) الطبعة الأولى سنة 1998. والطبعة الثانية 2002.
- الكلام الذهبي. (مجموعة حكم) الطبعة الأولى سنة 1998. والطبعة الثانية 1999.
ـ حكومة الجرذان. (قصة بالكاريكاتير للأطفال) الطبعة الأولى سنة 1998.
ـ الديك المترشح. (قصة بالكاريكاتير للأطفال) الطبعة الأولى 1998.
ـ الهجرة السرية (مجموعة قصصية) الطبعة الأولى سنة 1998 وهي أول كتاب عن الهجرة السرية من مضيق جبل طارق. والطبعة الثانية سنة 2003. والنشرة الإلكترونية الأولى وقد صارت فيها المجموعة من الأدب المَمْدَري سنة: 2007 والطبعة الأولى بالإسبانية سنة:2008.
ـ انتفاضة الجياع (رواية) الطبعة الورقية الأولى سنة 1999، والنشرة الإلكترونية الأولى 18 فبراير 2008م، وقد صارت من الأدب المَمْدَري.
ـ التفكير بالنصوص . (بحث أكاديمي) الطبعة الأولى سنة 1999.
ـ وجـه العـالم في القـرن الحادي والعشرين. (دراسة مستقبليـة للمؤسسات الدولية المالية والاقتصادية والسياسية) الطبعة الأولى سنة 1999.
ـ الإعلام والطبيعة. ( الجزء الأول ) الطبعة الأولى سنة 2001.
ـ الأقصوصة الصحفية (تقنية الكتابة والبناء) منشورات المهاجر غرناطة فبراير 2002.
ـ الليالي العارية (أقصوصات صحافية) الطبعة الأولى سنة 2008.
ـ ظلال الطفولة (مجموعة قصصية من الأدب المَمْدَري للصغار والكبار، النشرة الإلكترونية الأولى نوفمبر سنة: 2008، والنشرة الورقية الأولى 2009.
وله أعمال جاهزة تنتظر دورها في الطباعة مثل: النظرية المَمْدَرية (في الفكر والأدب والفلسفة..) والإعلام والطبيعة (الجزء الثاني).ونساء مستعملات (رواية ممدرية) والألق المتمرد (شعر) وسيمفونية الكون ( قصص ممدري) وطنجة النصرانية ( رواية من الأدب الممدري)..

......................


العنوان بالمملكة المغربية:
محمد محمد البقاش
حي الزودية ـ زنقة : 10 ـ رقم : 16 ـ طنجة ـ المغرب.
Mohammed Mohammed Bakkach
Quartier: Zaoudia – Rue 10 - N: 16 Tanger – Maroc.

Site :
www.tanjaljazira.com
www.bakkach.c.la
www.aljyra.c.la

Email:
mohammed_bakkach@hotmail.com
Asociacion.aljyra@hotmail.com
الهاتف النقال:
00212671046100