مذكرات عمود

م . أبدلأبدل




كان ذلك قبل سنين عديدة ....
حينشاءت الأقدار أن أُقطع ذات يوم دون سابق إنذار من غابة جميلة , وأن يصقل منشار جامدأغصاني الخضراء , لتحولني الأقدار عموداً متخشباً أحمل فوق أكتافي بعض أسلاكمتهدلةٍ في قرية ربما تجهلها كتب الجغرافيا حتى يومنا هذا .
شتاءات طويلة مرتبلياليها الباردةِ التي كانت تتركني وحيدا لا يؤنس وحشتي غير وقع القطط و الكلابالجائعة حين ترتاد هذا الشارع المهجور بعد غياب الشمس و همود القرية المخيف ....
لطالما أسعدتني تلك الأمطار الغزيرة الراقية بانهمارها و السخية بعطائهابما كانت تخطه من ابتسامات وردية على شفاه مساكين ظلت عيونهم تشع بأنوار خافتة منالأمل بمواسم واعدة قد تكون أو لا تكون .
و مع اقتراب الربيع ...كانت غريزةالغابة تحرض بداخلي رغبة عارمةً للتبرعم و العطاء , فينتابني ذلك الإحساس الخاطفالخافت بسعادة سرعان ما كانت تأفل أطيافها حينما كنت أستذكر حريتي المسلوبة منيبعد أن استُبدلت جذوري السمراء بهذا الإسمنت المتصلب الذي سيبقى يقيدني لأجل لاأعرفه ...
وحدها أسراب السنونو الهاربة من رياح الشمال ما كان يسعدني و يزيلعني غمامة حزني السوداء .
حتى شمس الصيف الحارقةِ كانت تفرحني و تستقطب منحولي عصافير دوري فأحتسي معها كل صباح فنجان من الأمل و أطرب بتغريدها رغم رتابةألحان التي لا تجيد سواها .
كم تمنيت لو حملت مصباحا منيراً فتزورني الفراشات كلليل لتقص لي حكايا حقول وغابات أموت شوقاً لرؤيتها مرة أخرى من جديد و لكن ... هيهاتٌ تتغير أقدار العواميد مثلي .
مساء الأمس ألصقت على خاصرتي نعوة جديدةأثقلت كاهلي بمزيد من مسامير مدببة تزايدت بمرور الأيام الرتيبة في هذه القريةالمنفى ....
المغفور له- وهو عضو سابق في مجلس الشعب - كان قد أثار آراء متناقضةصباح اليوم .
بعض البسطاء تأسفوا لنبأ وفاته و تمنوا من الله أن يسكنه فسيحجنانه ....
البعض استذكر بغصة حلق بيانه الانتخابي في ساحة القرية فنعتوهبالإقطاعي المنسلخ عمن تسلق فوق أكتافهم و تنكر لهم بعد نجاحه.
آخرون مروامسرعين كعادتهم كل صباحٍ غير مكترثين لهذه النعوات التي يكون التمزيق مصيرها بعديومين على تعليقها على أبعد تقدير .
دعايات المواد الغذائية تنال قسطاً لا بأسبه من اهتمام شعب لا يفكر إلا بلقمة عيشه في الآونة الأخيرة ...
أما إعلاناتالحفلات الغنائية فقد كانت تثير المحافظين من رجال القرية و نسائها على حد سواء ...
أطفال القرية لا يكترثون بما يتم تعليقه و بما يتم تمزيقه فأنا لم أكن فينظرهم سوى مسند رأس في لعبة التخفي التي طالما اشتركت معهم في لعبها ...
ذات يومتوقف رجل ملثم بالقرب مني في وقت متأخر من الليل ...
بدا الخوف واضحاً علىحركاته المرتبكة و يداه المرتجفتان بينما كان يخرج بكل حذر من جيب معطفه الطويلأوراقاً مخبئة ألصق إحداها بسرعة و تلفت يميناً و شمالاً قبل أن يتوارى مختفياً فيعتمة الليل المخيف .
لم يتجرأ أحد في صباح اليوم التالي على الوقوف برهة لقراءةورقة تحدث عنها البعض بهمس خوفاً من جدران كئيبة لها آذان تسترق السمع لكل شيء فيهذه الأزمنة الخرساء..
بعد ذلك اليوم ....ألصقت العديد من تلك الأوراق المبهمةمن ملثمين آخرين كانوا يعلقونها ويمضون في سبيلهم واثقين مما كانوا يفعلون ....
طلبت من عصفور مهاجر ذات يوم أن يقرأ لي واحدة منها فاعتذر خائفاً وطاربعيداً ولم تزرني العصافير بعد ذلك اليوم ...
شعرت بأن تلك الأوراق كثيراً ماحملت بين سطورها أفكاراً لأشخاص أرادوا أن يقولوا شيئا مختلفا عما كان يرددهالآخرون ....
هكذا مرت السنون في منفاي الأخير ...
فصول تمر لتعقبها فصول .
سنين تنقضي لتحل أخرى .
أوراق بيضاء و سوداء وأخرى ملونة تلصق فوق بعضها .
ومسامير تزداد يوما بعد يوم رغم تغير أشكالها و اختلاف أحجامها.
و أحلاممتجددة بمصباح منير و عصافير ستعود ذات يوم لتقص لي حكايات من غابات خضراء لا زلتاشتاق إليها و أنا مقيد الجذور في قرية لن اعتاد على صمتها ذات يوم .