وخرجنا إلى معترك الحياة ........
أصبحت الآن أملك وظيفة وهذا يعني أن لي راتبا شهريا جيدا يمكنني من أن أشتري ما أريد .... كانت مصر الشقيقة تقيم معرضا سنويا أو نصف سنوي للكتاب بالخرطوم , وكنا نعد له العدة ... لا نبخل بجنيه وربع أو ربما جنيه ونصف لشراء عدد من الكتب الثقافية القيمة , ونقرأها فهما واستيعابا ونقدا وتحليلا وأحيانا استعراضا بما نملك من ذخيرة ثقافية أمام رصفائنا ومثقفينا ومن نعتقد أنهم لهم الكلمة النافذة في الحكم على مستوى هذا أو ذاك , الهوامير الكبيرة .
وشاءت الأقدار أن أسافر لعامين متتاليين لمصر الثقافة , مرة لجامعة عين شمس وأخرى لجامعة الإسكندرية , كنا نستغل الفرصة في إقتناء كل المجموعات التي تصدر فى مجال التخصص الرياضيات فمن لامي للمختار للممتاز ولكتب الرياضيات الحديثة , الأمر الذي جعلني أساهم مع حفنة محدودة من الزملاء في إدخال الرياضيات الحديثة في مناهج الرياضيات بالسودان , كنا نصدر نشرات يتم تعميمها على المدارس لحين طباعة كتب تُضاف إليها محتويات تلك النشرات , فمن المجموعات للبرمجة الخطية للمتباينات للإحصاء والإحتمالات . التدريس عندنا لا يعتمد على الكتاب المنهجي فقط ولكن لك الحرية والخيار في الاستعانة بما ترى من الكتب الإنجليزية أو المصرية أو أية أنواع أخرى بحيث تغطي المنهج وجميع جوانب تطبيقات القوانين الرياضية , وكلما كنت ذا علم وتنوع واقتدار , كلما شقت سمعتك الآفاق بقوة .
وفي منتصف السبعينيات , عاودتني وساوسي تجاه الموت , ماهيته ؟ ما بعد الموت ؟ الحياة البرزخية ؟ الروح ؟ الجسم الأثيري ومكوناته ؟ ... ألخ وكل ذلك دفعني لأن أدفع بسخاء في شراء كتب تتصل بهذه الأمور , فقرأنا مع الله في السماء والسموات السبع ونشأة الكون ويسألونك عن الروح من منظور غربي والإجابة من منظور إسلامي وقصة الإيمان ورؤية الفلاسفة , وأغرب ما لفت نظري أن فيثاغورث صاحب النظرية الرياضية المعروفة , هو أول من توصل أن وراء الكون وحدة واحدة لا تتجزأ , وهذا يعني أنه فلسفيا أول من أثبت وحدانية الله .
ولعل تلك الوساوس هي نفسها التي دفعتني لفهم القرآن الكريم معانيا وتفسيرات متنوعة وأسباب نزول وموافقات , وكنت أتأثر كثيرا بما أقرأ من تفسيرات وأحيانا أبكي لسبب نزول هذه الآية أو تلك , ولكن بتقدم العمر ورسوخ المعرفة أصبحت في موقف من يميز بين ما هو مقبول وبينما هو مجرد تفسير يخلومن كل منطق , ومثال ذلك أنك تجد في تفسير الأمر القرآني للرسول الكريم بألا يستغفر لهم وحتى إن استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم , تجد من يقول إن الرسول الكريم كان قادما من المدينة لمكة ونزل بثنية كذا حيث قبر والدته وأخذ يبكي ويستغفر الله لها فنزلت الآية بالنهي , تألمت لذلك كثيرا وبكيت , ولكني وبالرجوع إلى المنطق لم أجد مبررا لذلك التفسير , فأم رسولنا الكريم من أهل الفترة لم تبلغها رسالة كذبت بها , فكيف يكون عدم الغفران لها , وما كان الله ليعذب أحدا لم تبلغه رسالة ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ....
المهم يبدو أن شيئا من النضج بدأ يلامسنا , وبدأنا نميز بين الغث والثمين .
واستمرت المسيرة وتستمر إلا أن يوقفها الموت وتتوقف الأنفاس .