( صاحبة الشــــجرة )

قصة قصيرة

كتبها : أحمد كمال

وقفت خلف النافذة تنظر من داخل حجرتها في البيت الكبير على قمة الجبل ، عاصفة شديدة ، ثلوج كثيفة ، رعد وبرق ترتعد منه الفرائص ، وإذا بالكهرباء تنقطع ، والظلام الدامس يدرك كل من في البيت ، بياض الثلج هو الشيء الوحيد الذي يرى في هذا الليل الصعب !!
وإذا بصوت طفلة صغيرة يلين قسوة الليل الصعب تنادي مرتجفة خائفة :
- ألن نهبط إلى أبي يا عمة ؟
فالتفتت العمة نحو الصوت وهي لا ترى شيئاً قائلة
- بلى يا حبيبتي ، هيا ، هيا تقدمي نحوي بحرص
ويطلقان يديهما في الهواء بحثاً عن بعضهما البعض ، وإذا بأطراف أصابع يد الطفلة الصغيرة تلامس أطراف أصابع يد العمة الشابة ، وبسرعة تلامس بكفيها وجهها ، تصيح الطفلة خوفاً ، فتجثوا العمة على ركبتيها وتضم الطفلة إلى صدرها بحنو بالغ ، ثم تهب واقفة وهي تطمئنها وتحملها على ذراعيها ، وتسير في ظلام دامس ، بخطاً حريصة ، تتلمس بكامل أحاسيسها الطريق !! وتتحسس براحة قدميها الاتجاه الذي به تسير ، حتى ظهر من بعيد ، ضوء شاحب مريض ، أسرعت نحو الضوء ، وهبطت الدرج بسرعة ، حتى إلتئمت مع أسرتها حول المصباح الصغير ، وارتمت الطفلة في أحضان أمها ونست عمتها !!
كانوا من البرد يرتعدون ، وهي تلقي السلام بشفاه مرتجفة ، وتجلس على الأريكة ، وعينيها تبحث عن شيء يدفئها من برد شديد ، ردوا عليها التحية ، وهم يرتعدون من البرد ، وكل يفكر كيف نتدفأ في هذا الليل الطويل ، والطريق المقطوع ، حتى ينبلج الصباح بنور الشمس الدافئة ، وإذا بشقيقها يصيح :
- لماذا لا نحتطب من الحديقة ؟
فيرد الآخر :
- الحديقة كلها أشجار مثمرة !
ويتدخل الشقيق الأصغر قائلاً
- ويبدوا إنك نسيت أن هذا الشجر قد زرعه والدك بأسمائنا
فتداعبه شقيقته الوحيدة قائلة :
- ربما نويت أن تتخلى عن بخلك وتقطع شجرتك لتدفئنا بخشبها !!
فيضحك الجميع وإذا بالشقيق الأكبر يقول بجدية :
- ولماذا لا نقطع شجرتك أنت !!
فيسود صمت مطبق ، حتى تتحمس له زوجته قائلة :
- ولما لا ، إنها شجرة يابسة !!
وكأن الفكرة قد غزت رؤوس الجميع عدا الشقيقة صاحبة الشجرة ، فوقفت ومن خلفها ظل عظيم وهي تصيح معترضة :
- هذه شجرتي ولن يقطعها أحد !!
فترد زوجة الشقيق الأوسط مدافعة :
- ولكن الأطفال سيتجمدون من البرد ، ألا تنظرين ؟ !
فتنهرها صاحبة الشجرة بظلها العظيم :
- إن لآبائهم أشجاراً يمكن أن يقطعوها ، ولكن ليس شجرتي !!
فتعنفها زوجة الشقيق الأصغر قائلة :
- لو كان لك أطفالاً لأدركت ما نقول !!
وهنا هوت صاحبة الشجرة على الأريكة ومن خلفها ظلها العظيم ، ويسرع الأشقاء الثلاثة مع المصباح الصغير ، يحملون الفؤوس ليقطعون شجرة شقيقتهم اليابسة ، وهي تستدعي صوتها من أعماق جرح كبير ، وتغزو الدموع مقلتيها ، ليزيد عليها مشقة الكلام ، ولكنها بصوت مبحوح تصيح :
- لقد يبست الشجرة لأن أحداً لا يسقيها ، ربما في هذا الربيع تجيد !!
فينظرن لها زوجات أشقائها الثلاثة ، والسخرية بادية على وجوههن وتقول إحداهن :
- لقد يبست الشجرة ، ألا تدركين ؟!
وتستجمع صاحبة الشجرة قواها ، وتقف على قدميها ، وتطلق ساقيها للريح وهي تصيح :
- لا تقطعوا شجرتي ، إنها يابسة ولكن الحياة لا تزال فيها ، إنها تخضر في الربيع ، وتفوح منها رائحة أحبها ، وتتقافز العصافير عليها مع مطلع كل يوم جديد .
حتى وقفت أمام شجرتها ، ورأتهم يضربون ساقها العتيد ، والثلج يغطي كل شيء حتى كسى وجهها ، وهي بيديها تسقطه ، وتقول مستعطفة :
- لا تقطعوا شجرتي ، إني أستظل بها من حرارة الصيف ، وأكتب تحتها قصائدي وقصصي ، وأحكي لها كل أسراري ، وهي تحكي لي !!
وما أن بدأت الشجرة تتهاوى ، حتى أبت ساقيها أن يحملنها ، ودارت الدنيا من حولها ، وهوت بجسدها على كومة من الثلج الكثيف مغشياً عليها ، فأسرع أشقائها لنجدتها ، وحملوها إلى البيت حتى تستريح .
وبينما الأسرة حول النار تصطلي ، وأصبح البيت دافئاً ، أفاقت صاحبة الشجرة ، ونظرت بحسرة إلى حطب شجرتها ، فارتسمت على شفتيها ابتسامة شاحبة ، وهي تستدعي أنفاسها الذاهبة قائلة :
- وداعاً يا شجرتي ، وداعاً كما ودعتني !!
ثم أطبقت جفنيها .......... وذهبت !!!

انتهى