كم نحن بحاجة للعودة إلى الجذور ......... إلى الأصل ........ إلى السبب الرئيسي لمعاناة الشعب الفلسطيني والعرب .من يتحدث اليوم عن فلسطين ( فالحديث اليوم عن الضفة والقطاع )من يتحدث اليوم عن الشعب الفلسطيني ( فالحديث اليوم عن فتح وحماس )من يتحدث اليوم عن الملايين من الشعب الفلسطيني في الشتات ( فالحديث اليوم عن مخاوف من ترانسفير لترحيل عرب 48 )من يتحدث اليوم عن حقوق الشعب الفلسطيني بما فيها حق العودة والقدس ( فالحديث الآن عن تمرير فتات الخبز والماء والدواء لغزة )من يتحدث اليوم عن ثورة فلسطينية من أجل التحرير ( فالحديث الآن عن الانقسامات والصراعات والاتهامات والمؤامرات بين أبناء الشعب الفلسطيني )كل ما تقدم يشير إلى مسألة خطيرة جداً جداً ........... وهي أننا نسينا أصل المشكلة وهو احتلال فلسطين وترحيل الشعب الفلسطيني قسراً من فلسطين ............. علينا أن نعيد إلى الأذهان هذه الحقيقة ...............ومن المؤسف حقاً أننا نسينا أن إسرائيل هي سبب هذه المشكلة ..... وعلينا أن نعيد إلى الأذهان هذه الحقيقة أيضاَ ......ففي ظل الصراع الفلسطيني الفلسطيني ......... نسي العرب إسرائيل ......... فمنهم من يتهم حماس بالتسبب بكل الخراب في غزة ....... ولم يذكر إسرائيل ولو بكلمة ................ وحماس تتهم فتح وأبو مازن بالتآمر على حماس والشعب الفلسطيني وإعتقال المناضلين الفلسطينيين ....... حماس وفتح تتحدثان عن المعتقلين الفلسطينيين لديهما ..... ولكن لا أحد يتحدث عن الأسرى الفلسطينيين في سجون إسرائيل ومنهم نساء وأطفال ...... والأسوأ أن هناك أطفال ولدوا في الأسر ....... ولكن لا أحد يتحدث عن ذلك ..........!!!!!!!!!!!! :::::::::: ؟؟؟؟؟؟؟؟؟لذلك وفي محاولة للعودة للجذور ......... والتأكيد على جوهر الصراع ....... لا أجد أفضل من قصة المبدع الأديب الدكتور بديع حقي في رائعته ( التراب الحزين )التراب الحزينإلى تلك الأنملة المرتعشة المحزونة، التي امتدت أمام منسرح نظري في قلقيلة، تشير إلى الدار الحبيبة القديمة، القائمة وراء الحدود الملتهبة، أهدي هذه القصة.بديعحين خرج حسين من مدرسة "قلقيلة"، متأبطاً محفظة كتبه، وإلى جانبه رفيقه محمود، كان ذهنه يثب من خاطر إلى خاطر، فقد تمثّل أخته المريضة بالحمّى، وهي مضطجعة ووجهها الناحل، يعلوه شحوب، وشعر بالغبطة تنسم في قلبه، وهو يتذكر كلمات الطبيب يؤكد لأمه أن ابنتها ستبرأ بعد أيام قليلة، ثم تذكر أستاذه عبد العظيم، في الدرس الأخير من هذا اليوم، فتلاشت غبطته وجنح قلبه إلى الانقباض، وهو يستعرض في ذهنه كيف تهدّج صوت أستاذه، حين جعل يحدِّث تلاميذه عن حرب فلسطين، وعن ابنه الذي استشهد في القدس.وأنشأ صديقه محمود يثرثر، فسرد له كيف قام بمغامرته، ليلة البارحة، وكيف تسنَّى له أن يتخطّى الحدود ويتسلّل إلى مزرعة برتقال ويقطف من الثمار ملء جيوبه ثم يعود دون أن يراه اليهود:لقد نبحني كلب من بعيد، ولكنني تمكنت من الفرار، في الوقت المناسب، سأعود غداً أو بعد غد إلى تجربة أخرى، أما تأتي معي يا حسين؟وغضّ حسين طرفه، وأجاب مرتبكاً:ـ لا أستطيع أن أترك أختي، إنها مريضة بالحمى، كما تعلم...وشعر بأنه تعلل، في الظاهر، بمرض أخته ولكنه يخشى، في الواقع، أمه، فهي التي تثنيه وتنهاه عن الاقتراب من الحدود، وخيل إليه أن رفيقه قد عرف ما يدور في خلده. لا شك في ذلك، فقد لمح على شفتيه ابتسامة ساخرة ذات دلالة.وغزت وجه حسين حمرة الخجل، وودّع رفيقه، ثم اتخذ سمته نحو البيت، في خطى متمهلة، وتوقف، ليتأمل في بناء مدرسته، فأخذت عيناه نافذتها العالية التي تحطم زجاجها منذ يومين برصاصة صوبها اليهود، من وراء الحدود، فارتجف واعتام وجهه اصفرار، وبدا له أن كل أفراد قريته، أجل كلهم، كلهم، يعيشون مثله في رعب متصل دائم.وتشبثت غصّة بحلقه وهو يسائل نفسه: تراه يقدر أن يستجيب إلى تلك الرغبة القوية الجامحة التي تغريه باجتياز الحدود، ليصل إلى دار أبيه القديمة ويقطف بعض الثمار، ويجيل عينه الطلعة في ملعب طفولته ثم يؤوب سريعاً؟وأطلق زفرة طويلة، ونفض بصره المدى القصيّ، وأخذ الحقد يأكل قلبه وهو يرى أطلال الدار. إنها لا تزال قائمة، غير أنها باقية الآن، بحوزة اليهود، فهو محروم منها، لقد استبدل بها غرفة صغيرة حقيرة، يسكنها مع أبيه وأمه وأخته، في الطرف الثاني من خط النار، من الحدود المخضبة، دوماً، بالدم.وتساءل حسين بحرقة:ـ تُراهم فقدوا، إلى الأبد، دارهم القديمة الحبيبة؟وأسند حرف راحته إلى جبينه، وزوى ما بين حاجبيه، وردّد بصره في الأفق الموشّى بأشعة الشمس الغاربة، ولكن نظراته تطامنت واتجهت نحو الدار القديمة وحزر أن شجرة التين التي زرعها أبوه خلف الدار، قد بسقت. إنه لا يرى جذعها المتواري ولكن عذبات أغصانها تتراءى لعينيه، فهي تفرع جدران البيت طولاً، وتتمايل قليلاً، حين يجاذبها النسيم، كأنها أصابع يد كبيرة تومئ له وتستغيث به.هناك.. أيضاً.. غير بعيد من الحدود، لا تزال أشجار البرتقال الخمس التي زرعها أبوه قديماً، ذاهبة في الفضاء عالياً، لابد أنها مثقلة بالبرتقال "الماوردي" الذي يمتلئ، رحيقاً شهِياً أحمر.وتحلّب فمه، وتداعت إلى ذهنه ذكريات طفولته: كيف كان يتسلق هو وأخته "فاطمة" شجرة البرتقال، وكيف كانا يتسابقان في القطف. كان أسرع منها وأخف حركة، وكان يهبط من الشجرة وسلته مفعمة، مزهواً أمام أبيه بأنه أبرع من أخته الكبرى، ولكنها كانت تعرف كيف تثأر لنفسها، وترد عليه فترميه من عل، ببرتقالة تصيبه في رأسه أو كتفه، ويتكلف هو الغضب، وتطلق أخته ضحكتها رنانةً، صافية. ورفت نفسه إلى هذه الذكرى الحلوة، فتنهد وجعل يتأمل في الحقول الخضراء المترامية، أمام منسرح نظره. وخلص إلى سمعه، صدى طلق ناري بعيد، فارتعش.. لا ريب أن أحد الحراس يتصيد شبح متسللٍ عربي.لا، لم يعد يستبين الأشياء البعيدة، فقد بدأ الليل يلفع قرية "قلقيلة" بوشاحه الأسود، وتذكر ما قصّه عليه رفيقه محمود، وكيف كان يتسلل من الحدود، قبل أن يسفر الفجر. وومضت في ذهنه، فكرة جريئة: لِمَ لا يجرب أن يجوز الحدود في نهاية هذه الليلة؟ إن شجرات البرتقال قريبة منها، وسيواتيه أن يسرق كثيراً، لا، لا إنه لا يسرق ولكن يأخذ حقه، فأبوه هو الذي غرسها ورعاها بعنايته، حتى نمت وأثمرت. وتخيل حسين أخته، تنهل عصير برتقالاته، فيتمشى في جسمها الضامر الضعيف. سيصبح سعيداً، جذلانَ، وهو يرى إليها تعبّ من الكأس.وتوقّع حسين أن تؤنبه أمه وحدها، إن قام بهذه المغامرة، فقد تذكر كيف عاد أبوه ذات ليلة بسلّة برتقال. لم تنبس أمه ببنت شفة، فقد عرفت من أين أتى زوجها بهذه البرتقالات، ولكن... حين أوى الجميع إلى النوم، سمعها تخاطب أباه، بصوت هامس:ـ إنك تعلّم ابنك بأن يحذو حذوك، أما تدري أن رصاص اليهود غادر؟وسمع جواب أبيه:ـ لا أخاف عليه، لقد أضحى فتىً قوياً، قمت بذلك من أجل فاطمة، فإن ما أكسبه، كما تعلمين، لا يكفي لشراء كل شيء.وأردف بلهجة جازمة:ـ ثم.. إن هذا البرتقال الذي قطفته هو من مالي.وتذكر حسين أن أخته فاطمة قد سمعت هذا الحديث، علامَ إذن كانت تبكي بكاءً صامتاً في فراشها؟ إنه لا ينسى كيف نظرت إلى أبيها في الصباح، نظرة امتنان وحب، فقد خاطر أبوها بحياته، ليقطف برتقالات، قليلة من أجلها وقالت له: ـ لا أريد يا أبي أن أشرب عصير برتقال بعد الآن، إنني شفيت.ولم يرد عليها أبوها، لقد أدرك أن ابنته سمعت كلامه، في الليل، ولكنه خرج من الغرفة، ليمسح دموعاً هَمَتْ من عينيه. وتصوّر حسين أن أخته ستنظر إليه مثل تلك النظرة العطوف الممتنة، وشعر من جديد، بالغبطة تهدر في قلبه، وتلفّت حواليه، كمن يستفيق من حلم، فألفى الظلام قد غلب.عليه أن يعود، دون ريث، فإن أمه ستستقبله بالتأنيب على تأخره، أما أبوه فسيبتسم، كعادته، ويهزّ رأسه.ورامق حسين الحدود، بنظرة فاحصة، وجعل قلبه يخفق خفقات قوية عنيفة.***كان يتأدَّى إلى سمعه، من بعيد، أذان الفجر، فتمهّل في سيره وأصغى، كان صوت المؤذن، يشيع في نفسه اطمئناناً غريباً، إنه صوتٌ نديٌّ يعرفه ويسمعه كل يوم.. وسرّح بصره، في حلك الليل، فاستبان قريباً منه، حائطاً مهدّماً، فمشى إليه، وأسند ظهره، وصعّد طرفه في السماء، فإذا نجومها المتلاحمة لامعة وضيئة، تغريه بأن يعدّها كما كان يفعل، وهو طفل صغير ولمح نجماً يشقّ الفضاء ويهوي ثم ينطفئ، آه... إنه روح سعيدة خيّرة، وهي تعرج إلى السماء.. كذلك كانت تقول له أمه.وانقبض قلبه وهو يتذكر أمه. أجل، سيلقى منها توبيخاً قاسياً، إن استيقظت قبل أن يعود من مغامرته، لقد خرج من الغرفة، خلسة، في الظلام، فلم يشعر به أحد، حتى أحمد الحارس الذي يسهر على الحدود، قريباً من هذا المكان لم يلمحه قط، لعله استسلم إلى غفوة قصيرة.وأرهف سمعه، لقد انتهى الأذان وزحف سكون شامل، وعاوده الخوف من مفاجآت الظلام، فلم يجرؤ أن يتحرك، ودقّ قلبه، بشدة، وهو يسمع عواء بعيداً. وتراجع قليلاً، بخطى مترددة. لعله يحسن أن يعود أدراجه إلى البيت، دون أن يعرض نفسه لعواقب مغامرة جريئة. وتوقّف العواء، ولكن ضفدعاً بدأت تنق قريباً منه، فأنس بصوتها الرتيب.وسرت في جسده رعدة قوية، فأقنع نفسه بأن البرد هو الذي أثار هذه الرعدة، ولكن قلبه ظل يدقُّ، في وجيب متصل.ولم يدر كيف تقدم، ومشى على رؤوس أصابع قدميه، وشعر بأنه قد ألف هذا الخطر المجهول فسار بخطوات أكثر ثباتاً.وتناهى إلى سمعه صدى طلق ناري ونباح كلب، فتخاذلت رجلاه، وانطرح على وجهه، كأنه يدرأ عن نفسه خطراً محدقاً به، وكظم أنفاسه ولكنها كانت تتلاحق مضطربة، ووسد وجهه التراب، وهو يلهث، فوجده مخضلاً بالندى، وخيل إليه وهو يشعر بقطرات الندى تبلّ خديه، أن التراب حزين يبكي.ومضت هنيهة، وانساب السكون العميق من جديد. وتأكد حسين أن الطلق الناري البعيد، لعله من جهة (طولكرم) وهدأت أعصابه المستوفزة، قليلاً، غير أنه ألفى رطوبة الأرض منعشة، ومدّ شفتيه فقبَّل التراب، ترابه الحزين الحبيب. وتذكر ما أورده الأستاذ عبد العظيم في أحد دروسه، أن العربي، في غابر الزمان، كان ينحني ليلثم تراب وطنه، حين يعود إليه. ورفع رأسه، فرأى الأفق البعيد ينشقّ عن نور نحيل. عليه أن يعجل بقطف البرتقال، قبل أن ينصدع الفجر، وزحف على أربع، رويداً، رويداً.لقد أضحى قريباً من شجرات البرتقال، وجاشت نفسه بسعادة غامرة ممزوجة بالخوف.. لا تزال أنفاسه مضطربة متلاحقة.ولما دانى جذع شجرة البرتقال، ترادفت في ذهنه ذكريات كالبرق خاطفة، بعضها يأخذ برقاب بعض: لقد كانت أخته تؤثر الصعود على هذه الشجرة نفسها، لأنها كانت صغيرة، وثمارها دانية القطوف، وأشرقت في مخيلته صورة أخته وهي مضطجعة، وفي نظرتها إليه امتنان وحب، و... عتاب.ومدّ حسين يده إلى نطاقه فأحكم شده، ليملأ ما بين صدره وثوبه بالبرتقال، وتسلّق الشجرة، بخفة، وانكسر، تحت قدمه، غصن صغير قصيف، وتهامست الأوراق في حفيف مسموع، وخيل إليه، أن أحداً ما قد شعر بحركته، فالتصق بالشجرة وعانق جذعها كأنه صدر أمه يفزع إليه.لا، لا، لا شيء، لم يشعر به أحد. وجعل يقطف برتقالاته، بسرعة. إنها لا تزال رطبة ندية، آه كم كان سعيداً، حين كان يجني هذه الثمار في أمان وطمأنينة منذ سنوات أربع خلون، وحين كان يسابق أخته في ملء السلَّة! ومع ذلك فإن غبطة غريبة تملأ عطفيه، الآن، وهو يلمس شجرته الحبيبة، ويقطف ثمارها الطيبة، ومرت، في ذهنه صورة كأس العصير تهتز في يد أخته، وهي تنهل منها. فتهللت ابتسامة هنيئة على شفتيه.إنه لا يدري كيف يفارق هذه الشجرة، شجرته الحبيبة، وأغصانها لا تزال مثقلة بالبرتقال، واجتاحت الحسرة قلبه، وهو يرى نفسه مضطراً إلى الاكتفاء بما قطف.لقد انجاب الظلام قليلاً، وعليه أن يعجل بالعودة قبل أن يراه اليهود. وهبط من الشجرة مسرعاً، ومثل في وهمه أن أقدامه قد وطئت الأرض، فأحدثت صوتاً شديداً مسموعاً... لا ريب في ذلك فقد نبحه كلب من بعيد، وركض، ركض بجماع قواه، وتعثّر بحجر أمامه، فانكبَّ على وجهه وسقطت منه بعض برتقالات، وتدحرجت أمامه، ونهض خفيفاً، ولم يحفل بالبرتقالات التي وقعت، ونظر إلى خلف، نظرة مذعورة، فرأى بعيداً، أشباحاً تتحرك في اتجاهه، كأنها تتعقّبه وتطارده وسمع أصواتاً ونباحاً وخفق أقدام، وأربكه الوجل، فلم يدر، بعد أن نهض من كبوته، في أي اتجاه يسعى، أجل من هذه الدرب، إنه يعرفها، وجعل يعدو وراحتاه على صدره، وقد ضمّ ثوبه ضمة قوية، لئلا تقع برتقالاته، إنه يحرص عليها حرصه على حياته.وتجاوز الحدود قليلاً..ودوّى طلق ناري قريب، تراه أصيب؟ أين؟ أين؟ أوه في كتفه.وتلمّست يده المرتجفة كتفه المصابة، فتخضّبت بالدم، لا بأس، إنه لا يشعر بالألم، ولكن قواه تكاد تخذله، لقد نضب ريقه في فمه، وتردّد لهاثه عنيفاً، يمزّق صدره، وتحدّر العرق من جبينه غزيراً، غزيراً..وتعالت طلقات نارية متتابعة.. وندّت عنه آه مجروحة، لقد أصابته رصاصة في ظهره. الدنيا تغيم في عينيه، إنه لا يرى شيئاً، أجل، أجل، إنه يرى، في وميض خاطف، أخته مضطجعة، وكأس البرتقال تهتز في يدها، ويرى أمه غاضبة ثائرة تعنّفه وأباه يهزّ رأسه إشفاقاً..وتلاشى كل شيء، وامّحى بسرعة، فأنَّ، وكبا على الأرض، دون حراك، وتناثرت البرتقالات إلى جانبه، على التراب..*** كانت أشعة الشمس، عند الصباح أولَ من قبَّل وجهه، وهو ملقى على الأرض؛ دون حياة، وإلى جانبه، جثمت برتقالات تافهة وقد تلوّثت إحداها بالدم، وكانت برتقالة صريعة. نفذت في قلبها رصاصة وسال عصيرها الشهي، فعانق دماً ندياً أحمر ثم انساب على التراب الحزين.آسف للإطالة