رسالة السلطان سيف الدين قطز من مرج الصفر إلى قازان في رابع شهر رمضان بعد هزيمة التتار في عين جالوت:
الحمد لله على ما جدَّد لنا من النعمة التامَّة، وسمح به من الكرامة العامَّة، حين أعاد النعيم إلى كماله، والسرور إلى أتمِّ حاله، فاستأنست النفوس إلى استمرار عوائدها، وارتاحت القلوب إلى مُعْجِزِ فوائدها، وأضاءت شمس المعالي، وطلعت بدورها بالسعد المتوالي، إذ كانت غلطة من الدهر فاستدركها، وسَقْطَة بَدَتْ عنه فما تركها، فقرَّت بذلك العيونُ، وتحقَّقَتْ في بلوغ الآمال الظنونُ، فللَّه الشكر الجزيل ما أومض في الجو بارق، وسرى في الآفاق نجم طارق.
وبَعْدُ: فليعلم الملك الجليل محمود، جامع الجيوش وحاشد الجنود، أنه تظاهر بدين الإسلام، وأَشْهَرَ ذلك بين الأنام، وأبطن خلاف ما ظهر، وتظاهر بالباطل والحقّ ستر، ثم فعل ما قدَّره الله U وما حكم به القدر، فحملنا ذلك على أنه تقدير، وأن ليس يُجْدِي فيما أراد الله U تَدْبِير، فما لَبِثَ الملك إلاَّ أيسر مُدَّة، وأرسل رسله إلينا مُجِدَّة، وهو يطلب الصلح ويُحَرِّض عليه، ويذكر الإسلام ويَنْدُبُ إليه، وزعم أنه ليس يختار الفساد في الأرض، فإنَّ الواجب علينا وعليه إصلاح ذوي الدين وأنَّ ذلك فرض، فعلمنا مقصده في مقاله، وتستَّر مِنَّا بستر يَلُوحُ وجهُ القدر من خلاله، فأَكْرَمْنَا رُسُلَه كرامة تليق بفعالنا، وسمعنا رسالتَهم وجاوبناهم على مقتضى حالهم لا مقتضى حالنا، وأعدناهم إليه بما هم مُصِرُّون عليه، فعاد رسولُه يطلب رسولاً يسمع كلامه، وليس يُخْفِي عَنَّا مقصده ومرامه، فأرسلنا إليه ما طلب، وركبناه فرس البغي فيا بئس ما ركب، فما كان إلاَّ عند وصول رُسُلِنَا إليه، فجهَّز عسكره وأظهر من الغدر ما لم يكن يخفى عليه، وأمرهم بما عاد وبالُه عليهم.
وحرَّضهم على ما وجدوه حاضرًا لديهم، ثم تقدَّم معهم وعدى بهم ماء الفرات، وجهَّزهم ورجع، وعَلِمَ أنَّ الغلبة من قراه، فما كان إلاَّ أن دخلوا البلاد، وعَمِلُوا بما أمرهم من الفساد، وتفرَّقت خيولهم في الأطراف والأوقاف، وقطعوا أيدي الأشجار وأرجل الزروع من خلاف، ونزلوا بالقرب من حلب، وشنُّوا الغارات وجدُّوا في الطلب، وجيوشنا الشاميَّة لهم بالمرصاد، وقد أخلصوا لله تعالى نيَّة الجهاد، وهم يتقدَّمون إليهم كلَّ وقتٍ ويُظْهِرُون لهم الضعف والتأخير، ليتوسَّطوا البلاد ويحصل هناك التدبير، فعاد منهم تومان إلى القريتين، فجُهِّز من جيوشنا إليهم ألفان، فوجدوهم قد أخذوا أغنام التركمان، فوافَوْهُم بالقرب من عُرْض[1] فكانا كَفَرَسَيْ رِهَان، فلم يَلْبَث الباغون ساعة من النهار، حتى عجَّل الله بأرواحهم إلى النار، وبَقِيَتْ أجسادهم ملقاة بأرض عُرْض إلى يوم العَرْضِ، ولم يَفْلِتْ منهم إلاَّ مَن يفعل الخير إنهم قد صاروا أخيارًا، ثم أخذ منهم جماعة أسارى: كرج، وأرمن، ومغل، ونصارى، ولقد نَصَحْنَا لكَ أيُّها الملك فما ارْعَوَيْتَ[2]، وبَذَلْنَا من القول فما رَاعَيْت[3]، وركبتَ من خيل البغي أَجْرَى كُميت[4]، وقلنا لك إنَّ من جرَّد سيف البغي كان به المقتول، فلم تَعِ القول ولم تُصغِ لمن يقول، فاستيقظ لنفسك، وتَلَقَّ هذه المصيبة التي تدخل بها إلى رَمْسِك[5]، ولا يغرَّك بالله الغَرُور، واعلم أنَّ ذلك في الكتاب مسطور، واندكَّ المَيْنُ[6] بالإيمان، ودَعْ عنك ما يُسَوِّلُه الشيطان، فإنه ما يأمرك إلاَّ بما جنيتَ ثماره، ولا تحصد إلاَّ ما زرعت بِذَارَه.
وأنت تزعم أنَّ الإسلام شريعتك وبه تَدِينُ، فنجتمع نحن وأنت على كلمة الإيمان، "وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ[7]"، وتخرج عن بغداد والعراق ونُعِيدها إلى خليفة رسول الله r، الذي شرق به ظلام الآفاق، ونتَّبع نحن وأنت أمره ونؤيِّد به هذا الدين، ومَن فعل غير هذا فعليه اللعنة إلى يوم الدين، لتعلم أنك كما تزعم متمسِّك بشريعة المسلمين، وإن أنت سَوَّلَتْ لك نفسك خلاف ذلك، فأنت لا محالة هالك، وعن قليل تخلو منك العراق والعجم، ويصير وجودك إلى العدم، وقد أوضحنا لك القول لكيلا تميل، وهديناك إلى أقوم سبيل، ثم تتقدَّم بإرسال رسلنا المسيَّرة إليك في أتم الكرامة، وتُسَيِّر معهم مَن يُوصلهم إلينا في حرز الأمن والسلامة، وترتحل بمَن بَقِيَ من جيشك إلى طبرستان، وتُخْلِي لمالكها هذه الأوطان.
وبلغَنَا أنَّك قُلْتَ إنَّ خيلك ورَجْلَكَ[8] تدخل الديار المصريَّة، فقد صدقت أنت لكن المنجِّمين غلطوا في القضية، أمَّا الخيل فإنها دخلت مجنوبة[9]، وأمَّا الرجال فكان في حلوقهم الطبول وبأيديهم الصناجق مقلوبة، فقد صدقت منهم المقال، وتباركت بهذا الفأل، وعن قليل نأتيك برجال تميد من تحتها الأرض وتزحف، فترى ما يهولك حتى تتمنى أن تنجو ولو على بطنك تزحف، فتيقَّظ من رَقْدَة المنام، وبادر الرحيل والسلام[10].