كانت قسماتُ د. حامد عبدالباسط تتخذ حالة ً واحدة ً من اللامبالاة ، بسبب البوهيمية (1) التي اقترنت به ، حتى ألف محيطوه هذا الطبع فيه ، ذلك أنه قضى شطر عمره عابثا لاهيا ، لا يحفل بشيء من امر دنياه وصروفها ، ولم تكُ أكتافه تحمل شيئا من تكاليف العيش سوى رأسه ، إذ لا هموم يتعاورها أو شيئا من هذا القبيل مما يقض مضجع الراحة في النفس البشرية.
وكان كَـلِـفاً بحياة العزوبية أشدَّ الكلف ، ولفرط كَـلَـفه بها ، واطمئنانه لها ، أن اتخذ له شيعة ممن تتقاطع دوائر اهتماماتهم مع رغبته ، فمضوا في إنشاء جمعية ٍ تلم شعثهم ، خلعوا عليها اسم " إلى الحرية " ، وقد جعلت قاعات تلك الجمعية تضج بروادها ، ممن أقعدتهم تكاليف الحياة عن الزواج ، يأنسون بمحاضراته ، يصفقون له تارة ، ويتندرون على خطبه تارات أخرى .
ارتقى د.حامد منبره ، وشحذ لسانه ، والعيون تطوقه بنظرات الإعجاب :
أيها السادة ، ما مدى واقعية خطر الزواج ؟
إنه واقعي تماما !
إنه يكمن في التبعات الداخلية للزواج نفسه ، وهذا ما يضيف إلى حريتك – كأعزب - عنصرا ينذر بالتشاؤم ! .
ثم ما هي ماهيتك كأعزب ؟
إنك امبراطور ! ، حاكم لا شريك لك ، تصحو متى شئت ، وتغفو متى شئت ، تلعب تغني ترقص في امبراطوريتك ، فأي ملك أسعد بملكه بعد ذلك منك ؟ !
احتفل بحريتك ، ونم قرير العين هانئها ، تحلم بك كل عانس ، ويحسدك كل زوج ، يحمل همك البواب والمكوجي والطباخ ، ولا تحمل سوى ابتسامة معها آخر طرفة من طرف الموسم .
أيها السادة :
يقول المتحذلقون من دعاة الزواج أن حياتنا كعزاب تعاسة ، حياة تنهشها الوحدة ويمزقها الضجر . وما هذه إلا خرافة اصطنعها الأزواج أنفسهم ، ذلك أنهم فشلوا أن يكونوا عزابا ناجحين .
فلا تغكرنكم شعاراتهم البراقة التي يختفي وراء حبرها ألمٌ كثير ، إنهم يمجون اسماعنا بالمنزل الدافيء والزوجة الصالحة والابن البار ! هه هه هه ...
ما تلكم الشعارات إلا إعلانات كالترويج لسلعة يضحكون بها على الذقون ، إن الواقع يدحض هذا ، فالبيت قد لا يدخله الدفء ، والزوجة قد تزلزل حياتك ، والابن قد يأخذ اجلك . إن النهاية ليست محصنة ضد مصير كهذا .
إن الشرائح الواسعة - ممن وقعت في هذا الشَرَك البراق –أخذت الأرض تميد من تحت أقدامها ، وبدأ النََـفَـَس الميال للعزوبية يدغدغ دواخلهم . وإن هذا ليضعنا بإزاء مهمة مقدسة ، تلك التي تفرض علينا الدخول في حرب ضروس مع الزحف التسونامي للفكر الذي يروج للأغلال ، الفكر الذي يغتال حريتنا.
أخيرا أيها السادة ، إن جمعيتنا حبلى بالأهداف والتنظير ولكن – إذا ما تركنا النظريات خلفنا - فإن اهدافنا ستبقى حبرا على ورق ما لم تتخذ جمعيتنا شيئا ملموسا على أرض الواقع . إن ضرورات المعركة تقتضي منا الدخول بسلاح أبيض ... فإما أن نكون قاتلين أو مقتولين ... ومن وظيفتنا أن نغير.
طوى التصفيق الحار صدى أخر كلماته ، ثم ران الصمت على أروقة القاعة ، بعد أن خرج إلى سيارته محمولا على الأكتاف ، وودع بمثل ما استقبل به من حفاوة وتكريم .
أطفأ محرك سيارته ثم صعد السلم ، وراع انتباهه صوت الضحكات التي تتسرب من خلف ثقوب باب جاره فتح الله ، تعلو الضحكات حينا وتخفت حينا آخر ، تكسوها المودة ويظللها الدفء .
وكان فتح الله ممن يأخذون على الدكتور حامد غلوه في نبذ فكرة الزواج ، مشفقا عليه وناصحا له .
أطرق قليلا :
" مالذي يجعلني أضيق ذرعا بالصراخ ولعب الصبية دقيقة واحدة ، فلا أكاد أحتمله ، ويحتمله فتح الله كل هذه السنوات ؟
أثمة سر يجعل كل شيء محتملا بين الأب وأولاده ؟ سر لا يفهمه أعزب مثلي ؟!
لم تبرح تلك التساؤلات رأسه وهو يذرع درجات السلم ، ولج إلى الشقة ثم لبث ساعة لا يريم ولا يتحرك ، حدج أركانها وراعه منظر قطعان الصراصير تسير زرافات ووحدانا في نتوؤات الصالون ، فانتبذ مكانا قصيا من الشقة ، ثم رمق الثياب الوسخة الملقاة على السرير ، لا بد أن المكوجي لم يدلف إلى الشقة اليوم . اللعنة !
ذهب إلى الثلاجة ليتناول كأسا من الماء يطفيء لظى حلقومه بعد تلك الخطبة العصماء ، فطوقت الدهشة نظراته ، كان المطبخ أشبه بخرابة !.
أحس بالثقل يكتنف رأسه ، وجسده كمدينةٍ اتى الزلزالُ بنيانها من القواعد .
أهذه هي اللذة ؟
ثم إني أسأل نفسي : أهذه هي الحرية ؟
أردف في يأس :
لا .. لا يمكن أن تكون هذه حرية ، إني أرفض طريق الزواج لأنه يكبلني ، وأقف في الوقت ذاته على سيقان من الرمل في مفترق طرق ! . ما هذه الازداوجية وما هذا التناقض ؟
؟
؟
؟
؟
؟
وظل يثرثر : لكن لماذا ..و كيف ؟!
بقلم محمد سرحان
14 – 6 – 2009
(1) البوهيمي: انسان ينحو منحى التفكير الحر المطلق غير المقيد ؛ محاولة منه لاضفاء أسلوب خاص على سلوكه ، لذلك فهو لا يمتثل في أعماله إلى أعراف المجتمع وتقاليده.