بغداديات
شعر
أحمد العسكري
عجّل بكأسِك واسقيني تُرابَ أبي
فمرُّ خمرِكَ يا مجنون من عِنَبي
زدني وليتكَ لا تُطفي الفؤادَ ولا
تُعتّق الروح في دوامةِ القِرَبِ
قلبي ببغداد مغروسٌ بساقيةٍ
تجري فيطرحُ أوجاعاً من الرُطبِ
وقامتي في أقاصي الأرض ذابلةٌ
لم يبق منها سوى عودٍ من الخَشَبِ
خُذني إليَّ وسجّيني لمن عَشِقَتْ
نفسي .. بأحزانها حمّالةُُ الحطبِ
خُذني إليها مجاذيفُ الهوى تَعِبتْ
لا تضرِب البحر إضرب زورقي الخَرِبِ
عَجّل فقد أطفأتْ روحي سكائِرها
بمُهجتي .. واسحبِ النشّابَ بالعَصَبِ
ودعْك منّي فإني مُذ ولدتُ بها
رميتُ آخِرَ سهمٍ لي ولم أُصِبِ
ما أطهرَ المالَ في كفّي غانيةٍ
وأوسَخَ الدمعَ في عينيّ مُغترِبِ
هذا ينالُ من اللذات ذروتها
وتلكَ تذبحُ بينَ الرِمشِ والهَدَبِ
خُذني لبغداد تمشيني شوارِعُها
أظمى لنهدٍ يُداوي جُرحَ ألفِ صبي
أُريدها الآن .. لا ما بعدَ قافيةٍ
لهفي إليها كلهفِ الطِفلِ للُعَبِ
كقِصةِ الطير أشلاءً مقطعةً
من كلِ فجٍ تُناديني بلا أربِ
من ذا يُخلّصُ موجوعاً قصائِدهُ
غاصت بحزنِ الليالي السود للرُكبِ
تقاسمتني بناتُ الليل من أرقٍ
ومزقتني نيوبُ الفجرِ بالنوبِّ
الحزنُ يومان يومٌ لي أطارِحُهُ
وآخرٌ لأنايَ الحائرِ التَعِبِ
كلُ الفضاءاتِ ضاقت بي أُمزِقُها
كيفَ احتواني قميصٌ ضيقُ الجَنَبِ
شرُّ المواقِفِ للإنسان ما امتُحِنت
بهِ السرائِرُ بينَ الحِلمِ والغضَبِ
بغدادُ أُمنيتي الخضراء .. كارِثتي
حقيقتي جوهري إخفاقتي كذِبي
كأنها من صخورِ القلب قد بُنيتْ
أركان مجدٍ على أضلاعِ مُنتحِبِ
بغداد قامةُ سيفٍ صوتُ شاعِرةٍ
جمرٌ تلظّى على راحاتِ مُغتَصِبِ
بغداد سِحرُ العيون السود .. لسعتُها
دنادِنُ العود تُغري الصُمَّ بالطربِ
خمرٌ... فحولةُ نهدٍ في صبابتهِ
لو مسّهُ الشوق لَاستسقاهُ ألفُ أبي
أمُّ المُصلين أختُ الأوفياءِ دماً
عِشقُ المُغنين بنتُ السادةِ النُجُبِ
الكاظميةُ تبكي سادةً رحلوا
والأعظميةُ تُحيي مولداً لنبي
والجسرُ بينهما روحٌ مُعلقةٌ
بينَ الحبيبين تسعى بالهوى العَذِبِ
بغدادُ بعضُ صداها ألفُ مئذنةٍ
لو كبّرت حيَّت الدُنيا على الغَضبِ
وشارِعُ المُتنبي .. كم تُرى اشتعلتْ
قريحتي منك لا حُييتَ من سببِ
تُحَمِّلُ المرءَ إرثاً لا يُطاقُ وإنْ
جفاكَ تُصبِحُ سوطاً لاذِعَ العَتَبِ
رُد ما أخذتَ من العينين كُحلتها
وخُذ من النفسِ ما سَطّرتَ من كُتُبِ
بنتُ الرصافةِ تدريني إذا انتفضّتْ
من نهدِها شهوةُ التاريخ والأدبِ
ولو مَشَت تحسِدُ الجارات خطوتها
لِموعِدي .. أعدِلُ الخطواتِ بالذهبِ
ويعلمُ الكرخُ ما خبأتُ من قُبَلٍ
مُذ كُنت بعدُ بِلا قلبٍ ولا شَنَبِ
والنخلُ يعرِفُ عني ما يُظلِلُهُ
ويُسألُ النهرُ في مجراهُ عن نَسَبي
حدائِقُ الدفلةِ العذراء هل بَقيتْ
تُخبِئُ الهمسَ للعُشاق في حُجُبِ
بغداد يَتَمّني بُعدي .. ورَمّلَها
يا لَلبعيدِ المُسجّى منكِ عن كَثَبِ
أدارَ عُمري لعُمري الظهرَ مُنسحِباً
وتابَ ذنبي .. وذنبي بعدُ لم يَتُبِ
أخا الفراتِ أغثني ألفُ داهيةٍ
طاحت عليّ من الأفلاكِ والشُهُبِ
ما لِلنجومِ تهاوت كالرجومِ على
قلبي المُعبّأ آلامَ الدمِ العربي
بيني وبينكِ يابغداد تذكرةٌ
لكنها رحلةُ العيدانِ للهبِ
فهل أعودُ وآلافُ الضِباع على
لحمي تُعارِكُ بين الرأسِ والذنَبِ
أم أدمِنُ الغربة الصفراء مرمرني
بعدٌ قريبٌ وقربٌ دائِمُ الهرَبِ
وهل رحلتُ على روحٍ مُغامِرةٍ
لكي أعودَ على لوحٍ من الخَشَبِ
لو غِبتُ قبلَ مغيبِ الشمس عن وطني
شُقي الفُراتَ على موتايَ وانتحبي