*عقب سيجارة*
................

كنت أتنفس السعادة في النسيم الرقيق الذي يمر عبر النهر فيما نعد الأمواج فيعانق الراقصة ثم ينساب إلى وجهي نديا فأملأ رئتي منه في ارتياح .
كنت أسمع لخطواتي وقعا موسيقيا وأنا سائر ببطء على الكورنيش آخذ النفس بعمق من سيجارة وأنفثه في الهواء وقد رفعت رأسي قليلا وأنا انظر عامود الدخان الرفيع الذي يندفع من فمي ثم يضيع مع النسمات الرقيقة .
كنت مستغرقا في إحساسي بالسعادة حتى لم أعد ألحظ شيئا حولي اللهم إلا صفا به بعض شجيرات الزهور التي تتمايل في كسل مع هبات الرياح الهادئة، وطرق سمعي صوت خفيف لحذاء يدب صاحبه خلفي وكأنه يبذل مجهودا كبيرا ليتمكن من جذبه على الأرض دون أن ينخلع من قدميه لاتساعه، ونظرت خلفي لأرى رجلا نحيلا يتبعني عن قرب، واستأنفت سيرى لأصل في ميعادي وسرح فكرى مره أخرى وتصورتها في ثوبها الجميل الذي أهديته لها عندما قابلتها في المرة الأخيرة، منذ ذلك اليوم لم أرها، ولم اقرأ أحلامي الحلوة في عينيها الزرقاوين الجميلتين، وأخذت صور الليالي الماضية تتوالى على مخيلتي: الغرفة التي أسكنها مع زميلي على سطح إحدى العمارات الأنيقة في شارع النيل، والمكتب الذي أجلس إليه لأستذكر محاضرات اليوم المنقضي على ضوء المصباح الكهربائي المدلى من السقف والذي تعلوه ورقة مستديرة صنعها له زميلي فخري الذي يستلقى دائما على سريره المقابل لسريري وقد اسند ظهره إلى المخدة ويروح يلقى على مسامعي أنواعا من الفكاهات اللاذعة .
وأخذت نفسا من سيجارتي وتلفت حولي .. لم يزل الرجل يسير على بعد خطوات قليلة من خلفي، إنى المح هذه المرة عصا طويلة في يده، إنه ينظر إليَّ في فضول ولكنه أشاح بوجهه عنى عندما التقت عيناي بعينيه اللتين تلمعان في ضوء الشارع الشاحب كما تلمع سيجارتي هذه التي وصلت النار إلى قرب منتصفها لماذا يتبعني هكذا في هذا الشارع الخالي إلا من رجل يقابلني بين فتره وأخرى؟ لماذا لا يسرع فيسبقني أو يبطئ الخطو فيبعد عني؟ إنني لا أرتاح لهذه العصا الغليظة التي يحملها في يده أتراه يعلم أن حافظة نقودي تضم بعض جنيهات أرسلها الوالد من البلد لتكون ذخيرة وعتادا طوال الشهر؟ وتحسست جيبي فإذا بالحافظة ترقد به في أمان.
لكن هل من الرجولة أن يخشى شاب مثلي سطو هذا الشبح الهزيل الذي أستطيع أن أصرعه في ثوان إذا بدرت منه بادرة شر رغم أنني لست على قدر كبير من القوة البدنية ؟
وابتسمت في سخرية من نفسي بعد أن أعرت هذا المسكين من اهتمامي أكثر مما ينبغي فحرمت نفسي متعة التخيل للمقابلة القريبة مع فتاة أحلامي الجميلة ومضيت في طريقي وعادت الصور إلى خيالي: سوف أقبلها الليلة مهما كانت الظروف .. نعم سأقبلها وأضمها إلى صدري في لهفة وشوق، فلا يمكن أن انتظر أسبوعا بين أكداس الكتب وإرهاق الامتحان دون قبل، إنها زادي وقمة سعادتي. ولن تضيع الفرصة بين ترحاب الوالد . وثرثرة الوالدة سأختطف قبلتي كما تعودنا هي وأنا على باب الشقة فهي تعرف الطريقة التي أدق بها الجرس مره طويلة تتبعها مره قصيرة بعدها تندفع إلى الباب لتفتحه قبل أى إنسان ثم تقف أمامي وقد تشبثت عيناها الجميلتان بعيني فأضمها لنغيب في قبلة حذرة قصيرة صامتة.
وأحسست بطعم القبلة على شفتي فتحسستهما بلساني ورفعت السيجارة وضغطتُ على طرفها الأحمر بشفتي برفق وتؤدة وسحبت نفساً عميقاً.
ومرت عربة أنيقة فارهة يميل سائقها المترف على حسناء جميلة في قبلة خاطفة وتألقت المصابيح فانعكس نورها على صفحة الماء فكان المنظر رائعاً. ما أسعدني هذه الليلة!! دعوت الله أن تكون هناك .. وأن تفتح هي الباب لأحظى بحلاوة اللقاء، ترى ماذا سيكون شعورها عندما تسمع رنة الجرس التي تعرفني بها؟!
ماذا سيكون مصيري لو كانت سافرت لزيارة أخيها في الإسكندرية؟ وأحسست في هذه اللحظة بضيق وشعرت بالحرارة تتسرب إلى أصابعي بقوة . . إذاً فليكن النفس الأخير .. إن هذا الملعون لم يزل يتبعني ولكنه يزداد اقترابا منى ويزداد صوت جر حذائه على الأرض هل يمكن أن يسير كل هذه المسافة خلفي مصادفةً، لابد أن يكون في الأمر شيء! سأكلمه بعنف وأسأله عن وجهته ولماذا يتبعني لكن بعد هذا النفس الأخير!
وأخذت نفسا طويلاً ووقفت فوقف الرجل، واستدرت له وأخذت ما تبقى من السيجارة في نفس آخر وعيناي تقدحان بالشرر، وحرقة الدم أحس بها في وجهي ثم ألقيت بالعقب في الماء اللامع بين الأمواج الراقصة، وإذا بي أسمع من الرجل شهقة مكتومة كمن وخزته إبرة وهو ينظر في الاتجاه الذي استقر فيه العقب على صفحة الماء، وقبل أن أفيق من دهشتي كان الرجل قد تمتم بكلمات لا أفهمها وقفل راجعاً.