النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»


يضم هذا الكتاب معظم المقالات التي كتبت في نقد شعر الدكتور حسين علي محمد
***



( 1 ) ديوان «شجرة الحلم» لحسين علي محمد،
والرحيل داخل الذات

بقلم: مصطفى نجا
.................

في ديوان "شجرة الحلم" للشاعر حسين علي محمد يضعنا الشاعر وجهاً لوجه أمام مأساة الإنسان الحالم، هذا الإنسان الذي يُحاول جاهداً ـ ولا نقول عبثاً ـ تغيير الواقع المعيش، الذي يحمل في أعماقه بذور العقم والموت والبؤس، ومن ثم يتخذ الشاعر من الأمل ـ وليس من اليأس ـ الركيزة الأساسية التي يقف عليها بنيانه الشعري:
أقفُ على رأسِ قٍبابٍ نصبوها في الطرقِ الوهميَّهْ
يشربُ غيري منقوعَ الكلماتِ الشافيةِ من الأدواءْ
ويبيعُ الفجر الآتي ذات صباحٍ أبيضَ للضُّعفاءْ
أقفُ وأصرُخُ في الأمواتِ: أفيقوا
هذا زمنُ الحجرِ الصَّنَمِ الرابضِ في الأبْهاءْ !
فلتخرُجْ كلُّ شجيراتِ الأحلامْ
ولتنفضْ عن عاتِقِها ظلَّ غُبارِ الأيَّامْ !
كي تحمينا ـ نحنُ الإخوة والأبناء ـ
من هذي الشَّمسِ الحارقةِ الصَّمَّاءْ
إن الشعر في هذا المقطع من قصيدة "شجرة الحلم" لا يستخدم ألفاظا رقية ناعمة، بل يستخدم ألفاظاً حادة وعميقة ومتوترة وصارخة بالحركة، ومع ذلك فإننا نحس بجمال الصورة، هذا الجمال النابع من تركيب الصورة الكلية، وليس من جمال جزئياتها المتنافرة، فالشاعر لا يتعامل مع الكلمات باعتبارها ترفاً عقليا، بقدر ما يتعامل معها باعتبارها سلاحاً وتصعيداً وجدانيا في مواجهة هؤلاء الموتى الذين يتحدث عنهم الشاعر:
أقفُ وأصرُخُ في الأمواتِ: أفيقوا
إن المسيح كان قادراً على إحياء الموتى ـ بإذن الله ـ فهل يستطيع الشاعر أن يكون مسيحاً في القرن العشرين؟ هذا ما سنراه من خلال المقطع السابع من قصيدة "شجرة الحلم":
هأنذا مُلقى في اليمِّ الجامحِ
أسبحُ نحو المُدُنِ المجهولهْ!
وجهي يا تُعساءْ
يرجو أنْ يأتي ذاكَ الشَّطُّ الطَّيِّبْ
(وأنا أسألُ نفسي:
هلْ أصِلُ إليهِ الآنْ؟
أمْ تُبصِرُني حبَّةُ قلبي جسداً ميْتاً؟
أمْ أصلُ إليهِ قتيلاً بعدَ فواتِ الوقتْ
جسداً ميْتاً يُلقى للغربانْ؟)
إن الشاعر يجسد لنا في هذا المقطع الجو العام لمأساته، وذلك من خلال وعيه لذاته، ورغبته المعذبة في تخطي هذه الذات، والرحيل إلى عالم محكوم عليه بالصمت والموت، إلى عالم مجهول يكون أكثر بهجةً وأكثر إشراقاً.
إن رحيل الشاعر هنا يُذكِّرني برحيل الشاعر جبران خليل جبران في قصيدة "البلاد المحجوبة":
هُـو ذا الفجْرُ، فقومي ننْصَرِفْ
عنْ بـــلادٍ ما لنا فيها صديقْ
ما عسى يرْجـــو نباتٌ يختلِفْ
زهْرُهُ عنْ كـــلِّ ورْدٍ وشقيقْ
وجديدُ القلْــــبِ أنَّى يأْتَلِفْ
معْ قلوبٍ كلُّ ما فيهـــا عتيقْ
ولكن إلى أين يكون رحيل الشاعر؟
إن رحيل الشاعر حسين علي محمد لن يكون رحيلاً عن الديار كرحيل الشاعر جبران خليل جبران، بل سيكون رحيلاً إلى الدّاخل، إلى أعماق ذاته الثائرة، ومنطقية حلمه الميتافيزيقي، وهو يُحاول خلال هذا الرحيل أن يحتفظ بإيمانه بنفسه حتى لا يصل إلى موقف عدمي كما يفعل البعض. كما أنه يحاول أن يقدم خلال عالم الإحباط والهزيمة وعياً حادا بضرورة تغيير الواقع، وهو حينما يتماسك ضد السقوط في اليأس، فإنه يلجأ إلى ممارسة نوعيْن من الحب علهما يُحققان له تلك المعادلة الحياتية الصعبة.
أما الحب الأول فهو الحب الصوفي تجاه الواقع المدان، وأما الحب الثاني فهو الحب العاطفي تجاه المرأة، ففي الحب الصوفي يقول الشاعر في قصيدة "التجربة":
اترُكْ أحزانَكَ قُدَّامَ البابِ،
اخْلعْها جنْبَ حذائكَ،
وتعالَ إليْنا،
فستحْيا أحلى لَحَظاتٍ
في ظِلِّ الشيخِ "وليِّ الدِّينِ" الليْلَهْ!
فهل حقّق له هذا الحبُّ الصوفي ذلك التوازن النفسي؟
حينَ صحوْنا
حاولَ كلٌّ منا أنْ يفتَحَ أُذنيْهِ،
وأنصَتَ كيْ يستمِعَ إلى موْعظةٍ
يلقيها شيْخُ الدُّنيا في أحلى كلماتٍ ..
يتفتَّقُ عنها قلبٌ
هامَ بحُبِّ اللهَ، وعرَفَ اللهَ فقرّْ.
*
لكنَّ الشَّيخَ العاشقَ شربَ الكأْسَ،
ونظَر ملِيًّا في الصَّدْرِ النَّابِضَ بالحبِّ الأسمى للخالقِ،
نظرَ وقالَ: أحبَّائي،
إنِّي أضعفُكُمْ،
إنِّي آخرُكُمْ قُدَّامَ اللهِ،
وأعطى ساقيْهِ للريحِ، وفرّْ.
إن الشاعر الذي بدأ يُمارس حريته المُطلقة من خلال ذلك الحب الصوفي الميتافيزيقي ظن أنه حقق (اليوتوبيا) التي يحلم بها، والتي سيجد فيها الحرية الحقيقية والسلام المنشود، ولكن الشيخ "ولي الدين" الذي كان يُمثِّل لدى الشاعر النقاء الجديد والحقيقة المجردة، أصبح يُمثِّل الخيبة والانهزامية والإحباط.
ولذلك يلجأ الشاعر إلى النوع الثاني من الحب، وهو الحب العاطفي الذي يتمثّل في المرأة كمعادل موضوعي يُحقق من خلاله التوازن النفسي، فهل تظل المرأة أمامه مجرد حلم يخاف من الاقتراب منه واكتشاف أسراره وخلفياته:
حينَ أردْتُ دخولَ العالَمْ
وانفَتَحتْ قُدَّامي
كلَّ خرائطِ جسدِ امرأةِ الشهوهْ
كانتْ تلكِ مُغامرةَ العُمرْ
لكنِّي لمْ أشعُرْ بالعطَشِ،
ولمْ يهزمْني الدَّيْجورْ
لمْ تتْعَبْ خيلي في المعركةِ الشَّرِسَهْ
لمْ تهْرَبْ من هذا النَّقْعَ القاني
واقتَحَمتْ هذا الحِصْنْ!
لقد اقتحم الشاعر جسد المرأة، ولكن هل كانت المرأة بالنسبة للشاعر رغبة جنسية يلهث وراءها أم كانت مجرد حب أفلاطوني نقي؟
إن المرأة لدى الشاعر كانت تُمثل مجرد وهم وحلم في امتلاك هذا الجسد / الشهوة، وتحطيم ذلك الحصن الغامض، عله يستطيع أن يُطفئ في أعماقه ذلك الشوق العارم للمجهول، ذلك الحب الغامض لشيء لم يتحدد بعد، وهو بهذا يُمكن أن تتحول المرأة / الشهوة إلى أكثر من حبيبة حسية، إنها رمز للشيء المفقود الناقص الذي ظل ينتظر مجيئه:
هاتي عينيْكِ، وهاتي ...
أعطيني الكوْثَرْ
قولي إنَّكِ نَجْمٌ أشرقَ في ليْلِ العُمْرْ
إنكِ قديسَةُ هذا الدَّيْرْ
وأنا مجنونُكِ ياامْرأةً فاتِنَةً
تخرجُ من شرنقَةِ الشَّبَقِ،
وتأسِرُني
هذا قلبٌ مُلتاعٌ
يُطْفِئُ وَهَجَ الرَّغبةِ في بحرٍ لُجِّيّْ
قولي، هذا الشَّعرُ الغَجَرِيّْ
إنْ لمْ نجعلْهُ غِطاءً
في الليْلِ المفتونِ بنورٍ قُزَحِيّْ
.. فماذا .. ماذا؟
ولكن هل تُعتبر المرأة الملاذ الأخير للشاعر؟ والطريق الوحيد إلى خلاصه من مُعاناته الذاتية؟ أم هل يعود الشاعر حاملاً مرارة الإحباط والهزيمة حتى بعد أن اقتحم أسوار هذه القلعة الحصينة:
هأنذا مُلقى في القاعِ
أمُدُّ يَدَيَّ إليها
لكنَّ حبيبة قلبي
تهربُ منْ وجهي
من نظرةِ عينيَّ الخائفتيْنْ
لقد هربت المرأة المحبوبة من الشاعر، وها هو ملقى في القاع، لقد انتهت رحلته مع المرأة بإحساس أعمق بالانسحاق ومرارة الهزيمة والإحباط:
أسقُطُ من فوقِ الحبلِ كسيرا
تُدميني الطَّعَناتْ
يصرخُ توأم روحي في فَرَحٍ صوفِيّْ:
"ها قدْ أشْرقَ وجْهُكْ"
لكنْ لايلْبثُ أنْ يرْفَعَ صوتاً مذبوحاً
ويُنادي مَنْ لا أَعرفُهُ:
"يا مَنْ علَّمْتَ أخانا الحُبَّ ونحنُ صغار
نتوسَّلُ لكْ
أنْ تقلعَ هذا النَّبْتَ الطيِّبَ
.. من غاباتِ الشَّجرِ الثَّرثارْ
وتُعيدَ الغُرسَ إلى تُربتهِ النِّيليَّهْ
نتوسَّلُ لكْ
أنْ تقتُلَ أشباحَ الذُّعرِ المُتوحِّشْ
في الكلماتِ العارِ وفي الرَّغباتِ السريهْ
إذن لقد سقط الشاعر كسيراً بعد أن أدمته الطعنات، ولكن هل يستسلم الشاعر لهذا السقوط وهذه الطعنات؟ وهل تذوب أحلامه وأمنياته كشيء خرافي يفتقد الوجود والصيرورة؟
إن الشاعر يندفع نحو نداء صوفي ميتافيزيقي يتراءى له خلال رحلته الضبابية الدائمة لاكتشاف عالمه السرابي المجهول:
يصرخُ توأم روحي في فَرَحٍ صوفِيّْ:
"ها قدْ أشْرقَ وجْهُكْ"
لكنْ لايلْبثُ أنْ يرْفَعَ صوتاً مذبوحاً
حتى هذا النداء الذي تراءى للشاعر كمعادل موضوعي يُعيد له التوازن النفسي، ما لبث أن تحوّل إلى حلم سرابي لم يستطع الشاعر خلاله أن يتجاوز همومه الذاتية، وأزمته الإنسانية عبر عالم منسحق، لا يفهم مشرعية تطلعه وأحلامه:
أعينُكم في عينيَّ المُتعَبَتينِ الآملتيْنِ تقولانِ كلاماً
يُشعرُني بالحبِّ وبالصِّدْقِ،
وهاأنتم تبتعدونَ وأبقى وحدي
في ليْلِ الثَّلْجِ، أُجالسُ غربةَ نفسي،
وأُقاسي عَبَثَ الزَّمنِ وصمتَ الغُربةِ والأحزانْ.
إن الشاعر هنا يفشل في إقامة استجابة وتقابل متبادلة مع عالمه الإنساني، لذا فإنه يبقى وحيداً في ليل الثلج، وهو يستسلم بسهولة لهذه الوحدة الثلجية، بل إنه يُحاول جاهداً أن يُعيد ذلك التوازن النفسي والاجتماعي من خلال ذلك التساؤل المستقبلي:
هلْ يتكلَّمُ حضنُ مديحةَ،
يمنحُني دفئاً وحناناً،
يتبرْعمُ حُبًّا،
يحملُ باقةََ ورْدٍ، ويُضِيءْ ؟
في الشُّباك أُطِلُّ،
وأنتظرُ الوجْهَ الغائبَ
ـ وجهَ مديحةَ ـ
(هلْ يأْتيني معْ نَسَماتِ الصُّبحِ،
وفي أزهارِ ربيعٍ؟
حتْماً سيجيءْ.
إن تجربة الشاعر حسين علي محمد تمثل تجربة إنسانية منسحقة تكشف عن خواء العالم، وفقدانه للتوازن واليقين، لذا فإن الشاعر ينسحب من هذا العالم، ويسبح في تهـويمات حب غامض، ويستغرق في هذا الحلم الميتافيزيقي السرابي، الذي يقوم بنيانه على دعائم الحزن والأسى والانتظار اللامجدي.
وأخيراً فإن الشاعر حسين علي محمد يعد واحداً من الشعراء القلائل الذين أرسوا تجربتهم الشعرية على مقومات وخصائص وأسس مميزة؛ فالشعر لديه يشكل عنصر مكاشفة ومواجهة مع النفس أولاً، ومع الواقع ثانياً، ومع العصر ثالثاً، وذلك من خلال البساطة والعمق، حيث ابتعد نهائيا عن الكلمة القاموسية إلى الكلمة المألوفة، ولجأ إلى لغة الإيحاء، وحاول استبطان القيم الجمالية التي تحقق عنصر الإدهاش والمفاجأة، فجاءت تجربته الشعرية محمّلة بالإضافة والجدة والثراء.
مصطفى نجا