ريوق العَم عَلوّش
كاظم فنجان الحمامي

عاش العم علوّش الفريجي (أبو كريم), خلال أربعينيات القرن الماضي, في مملكة القصب والبردي العائمة فوق مياه هور (الشلفة), من أهوار العمارة (ميسان). و(الشلفة) مسطح مائي واسع, يكتنز الأحراش والأدغال, المغروسة في قيعانه, منذ العصر السومري الأول. ومازال الهور ينتمي إلى تلك العصور الغابرة, حتى كتابة هذه السطور. وسيبقى متمسكا بملامحه السومرية, المطبوعة في ذاكرة الطين والماء, إلى أن تنتهي الشمس من سباحتها الكونية, وتصل إلى مستقرها النهائي بتقدير العزيز العليم. .
يتثاءب الفجر في هور الشلفة بنهوض (أم كريم) بحبور وسرور, لتحضير الريوق (الفطور), من رغيف الرز المخبوز (الطابك), وسمك القطان المشوي, وحليب الجاموس الطازج. وما أن تباشر (أم كريم) باشعال الحطب تحت القرص الطيني المفخور, والمنصوب بعناية على ثلاثة قوائم صخرية, تمهيدا لصب مستحلب الرز فوقه, بعد أن يتوهج القرص بالنار الحامية. حتى تبدأ بايقاظ (أبو كريم) بصوت حاد, يستفز سكون الهور, لاستعجاله بجلب سمكة (كطان) كبيرة. فينهض الرجل من منامه على الفور. ويركب قاربه الصغير (المشحوف), ليطوف حول كوخه العائم, باحثا في الجوار بين اسراب اسماك البني, والشانك, والحمري, والشبوط, عن سمكة قطّان واحدة. وما هي إلا بضعة دقائق, حتى يعود بالسمكة المنتقاة لمائدة الفطور (الريوق). فلا يسرف في الصيد, ولا يتأخر عن تلبية طلب (أم كريم). ثم تبدأ حفلة الشواء في الصباح الباكر. ويفترش الاثنان بساطهم, ويمدا سماطهم في الفضاء المفتوح, ويتناولان طعامهم الشهي في هذا الفردوس الملائكي. حيث تطوف عليهم طيور الحذاف, والخضيري, والبط, واللقلق, والأوز العراقي, في مجاميع مغردة بالحان شجية. بين جنات عدن تنساب حولها المياه الرقراقة. لا يسمعون فيها لغوا اذاعيا, ولا تأثيما سياسيا. ولا جدالا برلمانيا. إلا زقزقة العصافير المرحة, وترنيمات طيور الجنة, وهمسات النسيم المشبعة بطراوة البردي, وأريج زنابق الماء. تداعبهم أحيانا فراشات ملونة, تحلق فوقهم في سماء زرقاء صافية. .
ثم ينطلق العم (علوّش) بعد التهام هذه الوجبة الدسمة, بخفة ورشاقة, في رحلة يومية صباحية, يجوب فيها الهور بقاربه المنساب بين الاحراش. ليستمتع باصطياد طيور الحذاف السمينة. أو ليقص البردي الغض بمنجله اليدوي, ويواصل عمله بقوة محرك حديث من طراز (كتربلر) عالي الجودة. فيعود إلى كوخه قبيل الظهر, محملا بخيرات الهور وأرزاقه. وطالما اشتهر عرب الاهوار بصيد الطيور والاسماك. وتربية الدواجن والأغنام والأبقار والخيول والجاموس. ونسج الحصران من القصب والبردي. وزراعة الرز (العنبر) ذو الرائحة الطيبة الفوّاحة. . لكن أحفاد العم (علوّش) غادروا الأهوار, ونزحوا نحو البصرة, بعد ان قست عليهم الظروف. وتعرضت بيئتهم الجميلة للجفاف. وشهدت انخفاضا حادا في مناسيب المياه, تجاوز مؤخراً حدود الثلاثة أمتار. الأمر الذي قلص المساحات المائية, وأثر بالتالي على الزراعة وحجم الثروة السمكية. وتعذر عليهم الحصول على المياه الصالحة للشرب. وتفاقمت ظاهرةالجفاف المتمثلة في محدودية الدفعات المائية, التي ترفد الأهوار بالمياه. فضلاً عن قيامالسلطات الإيرانية بإطلاق مشاريع تقضي بتجفيف مساحات واسعة منالأهوار القريبة من الحدود العراقية الإيرانية. وكانت أهوار العمارة الأكثر تضررا. فلجأ الناس إلى المدن القريبة. واعتادوا على تناول جبنة (KDD) المستوردة من الكويت, أو جبنة (المراعي) المستوردة من السعودية, أو القشطة والألبان المستوردة من ايران. واحيانا يتناولون سمك الساردين, أو سمك التونا المعلبة في المصانع المغربية. أو يأكلون دجاج (Sadia) المجمد. وأعتادت الجواميس الجائعة على مواجهة مصاعب العيش في الهور, بسبب غلاء الأعلاف,وتفشي الآفات الزراعية, واستشراء الأمراض البيطرية. .
ومازال العم (علوّش) يتطلع بشغف إلى اصلاح أوضاع سكان الأهوار, والأهتمام ببيئتهم, التي تعد من أكبر المسطحات المائية في العالم, وأكثرها ثراء في تنوعها الإحيائي. ويأمل عرب الأهوار تحويل فردوسهم السومري إلى محميات طبيعية, وإقامة مشاريع استثمارية وتنموية. .