((حشود))

لم يكن اليوم هذا كباقي الأيام, فالأجساد تسير بلا توقف, قطعان مأخوذة وكأنها تتبع قوى خارجة عن إرادتها, يدفعها نهم غريب يتوقد بالعيون المحمرة كالجمر.. تتدافع بين بعضها مخلفة وراءها غبارا يعبق برائحة غريبة, تشبه رائحة تراب متعفن, تلفحه عاصفة ريح, فتنثره.. وضوء الشمس الآيل للسقوط بفعل الأتربة المتصاعدة من الأرجل, لم يفلح بتنشيط ذاكرتي التي تآكلت من كثرة الوجوه المتشحة جباهها بشرائط ملونة, ظننتها للوهلة الأولى فرق تشجيع, لم أعرف كيف ساقتني قدماي اللعينة.. ضمن قطيعها.
تابعت سيري معها , يتملكني فضول لم أستطع تداركه على غير عادتي, وشعور غامض من الوهن سيطر على حواسي المشوشة, هي المرة الأولى التي أرى فيها الناس.. يسيرون على غير هدا!!
وكأني قرأت تلك العبارة في كتاب ما!!
على غير هدى!!
وتلك العبارة أفاقتني من شرودي وانبهار نفسي, فصرت أبحث عن موطئ قدمي.. وفتحة صغيرة لأخلص جسدي.
حاولت التملص من الحشود الغفيرة, لكني لم أستطع, فقد سحبتني يدا لست أدري من صاحبها, لأستمر في المسير ضمن طابور, الحشر!!
الحشر؟!!
هل نحن في يوم الحشر؟
سؤال راود ذهني وعيناي تتفرسان بتلك الملامح الجامدة, القاسية من حولي, وشعور بالاختناق أصابني, فرفعت بصري إلى السماء, لأتيقن من الأمر, فكانت السماء فوقي كما هي لم تتغير, غير أن لونها بدا لي مغبرا, يميل إلى الاحمرار.. وعلى شرفات الأبنية بانت رؤوسا سوداء تومض بوميض أبيض, تتوهج ثم تختفي بسرعة شديدة.. مثل البرق.. وبمثل لمح البصر.
حاولت التنفس بعمق, لكني لم أفلح, والهواء من حولي أصبح ثقيلا, مشبعا بالسموم, لم تستطع رئتاي استنشاقه, وسعال مكتوم يدفع بعظام صدري الصدئة, الذي أرهقه الربو, وسجائر كنت ألتهمها.. فالتهمته رغما عنها.
لم تزل عيناي تبحثان عن مخرج, وأزيز رهيب يدوي برأسي, كأنه أزيز الطائرات يدفعني لأن أرتمي تحت الأرجل كي تسحقني أقدامها, فربما سيخلصني انسحاق جسدي من اختناقي, وتيه روحي, وذاك الدوى المرعب الذي أسمعه, يكاد أن يصم سمعي, وضميري بات يؤنبني لأني حشرت نفسي بتلك المعمعة بفضولي, ولم أحرك ساكنا كي أمنعها, يخزني بوخز مؤلم , صرخت بأعلى صوتي, أحاول أن أتبين إن كنت في دوامة كابوس مرعب, فتبدد صراخي بين صرخات الحشود الغريبة, بينما نظر إلي بعضهم نظرة متفرسة, غاضبة, تكاد أن تنفذ داخل رأسي, جعلتني أرتعب.. وأكتم صوتي.
والخوف الذي تلبسني من الحشود, أطاح بكل آمالي بأن أخرج من بينها, سالما, فصرت أبحث عن وجه أعرفه ربما يساعدني على الهروب من موقفي المخزي, وهذا الطوفان الأهوج.. الذي أصبحت أراه أكثر من خطير.
امتدت يد خفية من بين الجموع, دفعتني بقوة, أخرجتني من بين طوفان الوجوه المشوهة, المتشحة جباهها بكل تلك الألوان, سقطت على حافة الرصيف, ارتطم رأسي به بقوة, فدوى صوت الارتطام بجمجمتي, أحسست بألم شديد, لا يوصف, وخدر تنامي بأنحاء جسدي, أفقدني الشعور بحواسي, وشيء ما ينسل من جسدي رويدا رويدا, ظننتها روحي وهي تغادرني.. وأوصالي ترتجف بردا.
فتحت عيناي على وسعيهما, كانت الغشاوة تظللهما, وأمواج من الأرواح الهائمة تراءت أمامي.. فبدت لي السماء غارقة بالدم.