المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عائده محمد نادر
(( قلادة تعريف))
تحرك من مكمنه بعد أن لبس الليل عباءته السوداء.. وفي كل حذر صار يقطع الطرقات الملتوية كي يصل العاصمة التي لاحت له من بعيد أضواء بيوتها التي لم تنقطع الكهرباء عنها بعد.. أيام ثلاثة مضت وهو يمشي ليلا بين شوارع عرفها جيدا يختبئ نهارا, من أولئك المسلحين اللذين يقتلون كل من يرتدي بزة عسكرية.. ويأكل من رغيف خبز أعطته إياه امرأة عجوز وجدته يختبئ في حضن ساقية جفت مياهها, تغطيها شجرة رمان سقطت بفعل قصف قذيفة وقعت بالقرب منها.. وحين رأته شهقت وهي تتلفت خلفها وتضرب صدرها الواهن قائلة:
- ويلي بنيّ.. سيقتلونك لو رأوك هنا.. إنهم يجوبون الشوارع مثل الضباع الجائعة.. يقتلون بلا رحمة.. لا تتحرك .. سأآتيك برغيف خبز يسد رمقك.
قضم من رغيف الخبز قضمة صغيرة, ومشى بخطوات كبيرة اعتاد على مشيها.. وأضواء العاصمة صارت أقرب, وشعور بالعطش لازمه منذ أن دفن أخيه أول أمس , بعد أن ضربت صدره شظية من ناقلة جند قصفتها طائرة أباتشي, فتناثرت الناقلة بمن فيها.
كان يختبئ وأخاه بين الأشجار, في مزرعة تبعد عن منطقة (( اليوسفية)) بضعة كيلو متر, يمسك يده بقوة , حين أحس أن قبضة يد أخيه تراخت, وأنة مكتومة تصدر منه, تفحصه مثل المجنون وهو يحثه بصوت مبحوح, على النهوض, لكنه ظل ساكنا لم يتحرك, العتمة شديدة, تحسس صدره , فغرقت يده بفجوة كبيرة, أطارت صوابه, وضع كلتا يديه على الفجوة يمنع النزف, فضاعت يديه كلتاهما, لطم على وجهه, وضع رأس أخيه على حضنه, وصار يمسح وجهه وكأنه نائم.
بزغ الفجر, فبانت ملامح أخيه التي تشبهه تماما, فبدا له وكأنه يغط بنوم عميق, والدماء تغطي جسده, لاحت له قريبا منه (( فأس ومسحاة)) , فشرع يحفر بعجالة قبرا لأخيه, وهو يبكيه بحرقة, والوجع يعتصر قلبه على والده , الشيخ الكبير الذي ينتظر رجوعهما معا, يتمتم يحادث أخاه::
- ماذا سأقول لأبي, قل لي ثامر؟ كيف سأخبره بأني لم أستطع حمايتك, كيف سأخبرهم.. ويحي لمَ لمْ أكُ أنا؟
بدون وعي منه تحسس قلادة التعريف الخاصة بأخيه, بعد أن نزعها من رقبته , قبل أن يواري جسده التراب, وبصق لقمة الخبز التي كانت بفمه, لأنه لم يستطع بلعها, وتابع السير.
دخل أطراف العاصمة بعد منتصف الليل, وصار يقطع الشوارع وهو يجري بسرعة, وقد بدت شوارع مدينته غريبة عنه, تقطع بين شارع وآخر, جذوع أشجار نخيل قطعها الأهالي , ثم مدوها, وجعلوا منها متاريس تفصل بين حي وآخر, خوفا من هجمات الأغراب عليهم.
وهاهو بيته أمام ناظريه, وثلة من شباب المنطقة تقف بالقرب منه, والجميع مدججون بالأسلحة, تراخت ساقاه, وأبطأ سيره, واجتاحت كيانه رهبة, أيعقل أن يقتلوه, إنهم رفاق طفولته وصباه , وأخيه؟
لمحه أحدهم فصاح مبتهجا:
- لقد عاد ثامر.. أو ثائر؟
أسرع الشبان إليه , تلقفوه بالأحضان, والشيخ الكبير الطاعن في السن, أسرع خطاه المتعثرة بذيل عباءته, يتوكأ عصاه, يرتعش جسده الواهن, بلهفة متشحة بالخوف من سؤال لا يريد أن يسمع جوابه, ودمع غزيز ينهمر على وجهه المتغضن, وهو يحتضن ولده, وعيناه تنظر خلف كتف ابنه.. تبحث عن الآخر.
ومن عتبة الدار خرجت شابة, تتقدمها بطنها المنتفخة, وقد تهللت عيناها بدموع الفرح, وابتسامة خائفة تغطي ملامح وجهها الحزين, مدت ذراعيها, احتضنته, دفعها عنه بيسر, عادت إليه , احتضنته بقوة هذه المرة وهي تقبله وتبكي, وكلمات التهنئة بالعودة إليها سالما, تخرج من فمها متلعثمة, متعجلة غطت على كل الكلام, فرحتها أفقدتها رشدها, والاستيعاب.
دفعها عنه بقوة هذه المرة, وتراجع إلى الوراء خطوتين, وهو يبكي, اتسعت عيناها بخوف, وإنكار, وهي تنظر إلى يده الممدودة أمامه, تقبع بوسطها, سلسة وميدالية تحمل رقم تسلسل أخيه, ورقم وحدته.