الثورة الحسينية .. وانهيار الفكر الميكافيللي
(( لم أخرج أشراً ، ولا بطراً ، ولا ظالماً ، ولا مفسداً ....إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي وأبي ، أريد أن أأمر بالمعروف وأنهى عن المنكر))
البيان الأول للإمام الحسين (ع)
رغم الفارق بين زمن الإمام الحسين (ع) وزمن ميكافيلّلي المتأخر ، ورغم الفارق بين المكانين ، ولكن يبقى الفارق الأهم هو الفارق بين الرؤيتين ، ويبقى التفاوت واضحاً في أسلوبية التعامل مع (الغاية ...و ... الوسيلة) ، وتبقى الملامح الإنسانية جليـّة في التعامل مع الأحداث ، وتستمر صيغة الفهم للثورة وأسلوبها والبحث عن نتائجها تدور في فلكين مختلفين .
(الغاية) عند ميكافيلّلي (تبرر الوسيلة) ، وهذا معناه أن أيّة غاية في الكون ، ومهما كانت ، فهي تحمل سر تبرير الوسائل التي من شأنها أن تصل بالغاية إلى أعلى مستويات التطبيق ، فمن أجل إصلاح المجتمع – مثلاً – يمكن أن نجد وسيلة – أي وسيلة – يمكنها أن تضمن قوة الوصول الى غاية الإصلاح ، وهذا موجود لدى أغلب الأديان ، وموجودة أيضاً في بعض التطبيقات لدى المسلمين ، وإن ادعوا أنهم يقفون بمستوى (مستضد الضد) من آراء ميكافيلّلي ورؤاه ، ولكنهم بدءوا يلعبون لعبة المصطلحات ، واتخذوا من مصطلح (المصلحة) بديلاً عن الميكافيلّلية ، وهو جزء من مشكلة العالم ومحنته الحالية أمام (التعاريف) .
إن الأديان الحقيقية ، ومنها الإسلام ، تتعامل مع الغاية والوسيلة ضمن اعتبارات مهمة ، وتؤمن بأن (الغاية) هي من جنس (الوسيلة) ، وبذلك ، فليس بإمكان الوسيلة (الرديئة) أن تجد لها تبريراً لدى الغايات السامية ، وليس بإمكان الغاية (الرديئة) أن تبرر الوسيلة السامية ، بل الغايات السامية ينبغي أن تبرر الوسائل السامية حصراً ، والوسائل السامية ينبغي أن تكون الطريق لتحقيق الغايات السامية ، وبالتالي ، فليس بوسع الوسائل الرديئة إلاّ أن تؤدي الى غايات رديئة مهما اختلفت الذرائع ، على أساس أن (النتيجة ، تعتمد على أخس المقدمتين) .
ولأن الإمام الحسين يمثل الدين الحقيقي ، بل يمثل الرؤية الإنسانية للإنسان داخل المؤسسة الدينية ، فقد وضع الأسلاك الشائكة أمام (الميكافيللّية) قبل أن تولد بقرون عديدة ، وصنع الآليات التي من شأنها أن تهزم استدعاء الوسائل المنحطة لتحقيق الغايات السامية .
في المقولة التي قالها الإمام الحسين ، كبيان أول عن الثورة الحسينية ، بدأ (ع) بالوسائل ، فوضع مندرجات الأسلوبية للثورة ، ووضع أطر التحرك (السامي) لتحقيق الغاية (السامية) ، لكي يرسم للمسلمين خصوصاً ، ولمفجّري الثورات في العالم طريقاً واضحاً في استخدام الأساليب لتحقيق الغايات .
يقول (ع) في بيان الثورة الأول (لم أخرج أشِراً ، ولا بطراَ ، ولا ظالماً ولا مفسداً) ، وهو تعيين لأسلوب سيتخذه الإمام في التعامل مع مفردات الثورة وغاياتها ، ذلك لأننا نجد أن الكثير الكثير من دعاة الثورات في العالم كانوا – وما زالوا – يستخدمون الأساليب الشريرة للوصول الى غايات الإصلاح كما يزعمون ، فيقتلون المسلمين بحجة تمترس الأعداء بينهم ، ونجد أن الإمام الحسين يشير الى أنه ليس (بَطِراً) في أسلوبه ، ذلك لأن الكثير من الثورات التي تدعي التغيير والإصلاح والتجديد إنما قامت على أسس من (البطر) والإنزياح نحو الشخصنة والمصالح الفردية والفئوية والبحث عن السلطة .
ومرة أخرى يشير أبو عبد الله إلى نقطتين مهمتين ، حين يؤكد على إلغاء (الظلم والفساد) من قاموس ثورته ، ذلك لأن الكثير من الثورات قامت على أسس من (الظلم) والفساد ، على أساس أن (الثورات ..يخطط لها المفكرون ، ويقوم بها المندفعون ، ويجني ثمارها الانتهازيون) ، ولكن الإمام الحسين عليه السلام استطاع كسر هذه القاعدة من أجل الخلاص من قاعدة أن (الثورة تأكل أهلها) .
فالظلم والفساد مصاحبان عجيبان لكثير من الثورات في العالم ، بيد أن كل المشاهد في ملحمة الإله الكبرى على شاطئ الفرات ، تثبت أن الحسين بكى على أعداءه ولم يبك منهم ، ولم يدخر جهداً في أن يواجههم بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويسوق إليهم الدليل إثر الدليل ، وحتى أنه (ع) لم يفكر أن يبدأهم بالقتال ، بيد أن معسكر أعداء الإنسانية كان يحمل شعار (يا لثارات بدر وحُنين) وإن كان هذا الشعار غير معلن ، ولكننا نجده في مقولة (عمر بن سعد بن أبي وقاص) حين نادى بالناس كي يستعجلوا بذبح الحسين قائلاً (هذا ابن الأنزع البطين ..هذا ابن قتـّال العرب) .
وهنا ، يدل الإمام الحسين على غاياته من الثورة ، بعد أن أدرج وسائلها ، فنراه يقول (إنما خرجت لطلب الإصلاح) ومن الغريب أنه (ع) لم يقل (الصلاح) ، ذلك لأن الصلاح ليس من مسؤوليته ، بل هي مسؤولية تقتضيها الحكمة الإلهية ، فما على الحسين إلا مهمة الإصلاح ، والصلاح شأن التوفيق الإلهي ، وبذلك يكون الإمام الحسين قد ضرب القاعدة الفتوائية المتأخرة التي تجعل من (قبول الآخر) شريطة من شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
لقد أختار الإمام الحسين مفردة (أمة جدي وأبي) لأنه يعتبر أن أمة جده هي مرتكز الإصلاح العالمي ، على اعتبار أن أمة محمد هي (خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف ، وتنهون عن المنكر) والتالي ، فما لم يتم إصلاح (آلة الإصلاح) ، فليس هناك من نتيجة مرتقبة في إصلاح العالم ، وما لم يغير الناس ما بأنفسهم ،فلن يغير الله ما بهم ، ولن يستطيعوا تغيير ما بالآخرين .
إن تأكيد الإمام الحسين على ضرورة تطابق سمو (الغاية) مع سمو (الوسيلة) ، إنما جاء ليحفظ امتداد الفكر الثوري ، وليخلق وعياً (تحضيرياً) جديداً بإزاء الفهم والوعي الذي يمكن أن تنتجه النظريات الجديدة في الفكر الثوري العالمي ، وليؤسس لأسلوبية التضحية الحقيقية وعدم الانسياق وراء العاطفة أو الثأر أو الأحقاد في التعامل مع فكرة (محاولة الإصلاح) ، وهو بذلك يمنهج لطريق التسامح والمحبة بالشكل الذي لا يتجاوز حق الاقتصاص من أعداء الإنسان ووجوده .
راسم المرواني
العراق / عاصمة العالم المحتلة