الأعمال المنوه بها:
----------------
وهاب شريف
قصيدة
في رازقيّ الروح لاحوا

فاسْتدْرج الأسف اقتراحُ
لو أمهلوا مطر الحدائق ليت يمهلهم ْ سماحُ
عندي من الطُرف الكثيرُ وعندهم أمل مُزاحُ
عندي سأحملهمْ عليّ وعندهمْ وجع متاحُ
لأرى ابتسامتهمْ وتحت أصابعي صمت نواحُ
آه ستذكرهمْ حكايات مضيئات ملاحُ
وتشكُّ في فمها الصباحاتُ النديّات الفساحُ
أخذوا طفولتهم وراحوا
تركوا الوساوس واستراحوا
عافوا ملامحهم على
غبش الندى لما أشاحوا
شغفتْ بهم آلامهمْ
عبروا مضايقها وساحوا
فرشوا لذاكرة الشذا
أسرارهمْ لمّا أباحوا
ضحكوا لفقر انائهم
من نبلهم فبكى الصباحُ
لمّا أتاهمْ آخذُ الأحلام ما ارتجفوا وصاحوا
يتزاحمون محبة
وفمُ ابتسامتهمْ جراحُ
هذا سحاب الضيم وهو يصبُّ ماشرب الكفاحُ

في لوعة النارنجة اتّحدوا كبسمتهم ْ وفاحوا
قصصا يحلّ الورد فيها حين يسحره انشراحُ
لمْ يندموا لكنْ يعذّبهمْ جمال مستباحُ

يبستْ أسامينا على
دمنا فذرّتْها الرياحُ
أخذوا طفولتهم وراحوا
تركوا الوساوس واستراحوا
في رازقيّ الروح لاحوا


============
=======
============

عبد الله الطليان
قصة
الدرس الأخير

ضوء الشمس يتسلل ببطء يعلن قدوم النهار وانحسار الظلام لتبدأ معركة البحث عن الرزق وهو متدثر في فراشه غارق في نوم عميق فاقد الإحساس بما حوله، شخيره يتردد في الغرفة بلا انقطاع معزوفة على وتيرة واحدة لا تتغير لا يستمتع بها سوى من ولج إلى تلك الغرفة المظلمة التي تفتقر إلى النظام والترتيب فخزانة الملابس ذات الأبواب الخمسة كان اثنان منها مشرعين تصدران صريرا عند إغلاقهما وفي إحدى الزوايا طاولة مسندة إلى الجدار هجم عليها الغبار فأود بريقها ولمعانها يعلوها مرآة ذات برواز خشبي أصابها شرخ في طرفها فغدت كحال الأرض التي أصابها الجدب، كانت تلك الطاولة تحوي أدواته فهذه صبغة شعر وزجاجتان من العطر إحداهما فارغة والأخرى لا يوجد بها إلا القليل بالقرب منهما نظارته ومشط بلاستيكي مكسور من منتصفه..
جاءت دقات الساعة التي كانت بجانب سريره لتخبره بقرب حلول موعد العمل استيقظ ورفع الغطاء عن وجهه وفتح عينيه ثم أغمضهما وعركهما بعدها نهض بتثاقل وكاد أن يترنح، فالنوم مازال يسيطر عليه والكسل غامر جسده قاوم قليلا وجمع قواه ونهض بسرعة انطلق إلى عمله لكن هذه المرة لم يغلب عليه الحماس والجد بل كان مترددا خطواته بطيئة لا تعرف الجدية في السير زاد عليها عمره الذي زحف نحو الكبر حادا من طاقته التي بدأت في النضوب يدلف إلى المدرسة ويحدث نفسه لقد جاء التقاعد انه اليوم الأخير سوف يغادر المدرسة من غير رجعة يجول ببصره وترسم الذكريات سنوات العمر التي أمضاها فيها ليخرجه من حالته صوت التلميذ الذي أشار إليه من عند باب الفصل يا أستاذ.. يا أستاذ انك عندنا فنحن في انتظارك ادخل إلى الفصل وراح يتفحص وجوه طلبته في صمت كانت نظراته تحمل الوداع سعل وكح وامسك الطباشير ورفعها بالقرب من عينه فقال في نفسه لن أمسكك ولن أكون في حاجة إليك بعد اليوم لقد قضيت معك عمري وأنا كل يوم أداعبك بين أناملي خط درسه على السبورة وشرع في شرحه حتى قرع جرس الحصة معلنا نهايتها.

============
=======
============
هبة الله محمد حسن
قصة
الخيال البعيد

أرعبني ذلك الخيال البعيد،لم استطع أن أتبين ماهيته ،غير أن حركته الدءوبة و ظلال أطرافه أفزعتني وشلتني عن التفكير..لمَ يحدق بي هكذا؟..عيناه- أستطيع الآن أن استبينهما- كقاع جب عميق يرغب في ابتلاعي..انزلقت وسط زحام الشارع الشائك ، لكنه كان يعرف هدفه جيدا..يتجه إلىّ أنا بالذات..تبا.. ما الذي يريده مني؟..انسللت إلى أول حارة مظلمة قابلتها..تتسارع خطواتي مع دقات قلبي.. تبتلعني الحارات الثعبانية المتشابكة.. و.....و أخيرا وجدت نفسي في وسط شارع رئيسي أعرفه..التفت وراءي، لم أجده..تنفست الصعداء..لمحت مقهى قريبا فاتجهت إليه..ألقيت نفسي على أقرب مقعد ورحت ألهث في عنف..أغمضت عيني وأخذت نفسا عميقا، فتحتهما لأجد من يجلس أمامي، انتفضت:-"ما بك؟..كأنك رأيت عفريتا.." لم يكن من يجلس أمامي سوى صديق لي؛ كان يجلس على طاولة أخرى ولما لم ألحظ تحيته جاء ليشاركني مجلسي..عاود سؤاله:-"ما بك؟" رددت ببطء:-"لا شيء..أنا بخير..""لا تبدو بخير إطلاقا..ماذا حدث.." وشعرت بهواء بارد يصفعني ولأول مرة ألحظ الغيوم الرمادية التي غطت وجه السماء..ارتعش شيء ما بداخلي ووجدت نفسي أقول بكلمات مبعثرة:-"شخص.. ما.. يطاردني.." رد باستنكار:-"ما هذا الذي تقوله؟" أجبت بانفعال:-صدقني..لقد فررت منه بصعوبة عندما......."وانقطع صوتي المبحوح فجأة؛ لم أجد ما أكلم به عبارتي؛ "عندما...عندما ماذا؟"..لكن صديقي التقط طرف الخيط بهدوء قائلا: "ومن تعتقد أن يكون؟" أجبت بقلق:-"جل ما أخشاه أن يكون أحدا من أهلها.." فرد:-"أنس الأمر..إنها ستتزوج الأسبوع المقبل..لا أعتقد أن أحدا منهم قد يهتم بك الآن أو يذكرك أصلا..".شعرت بقليل من الهدوء يسري في عروقي، لكنه عاد ينسحب بسرعة..والتفت إليه قائلا:"لعله سليمان نجيب..نعم..لابد وأنه من طرفه..جاء يطالبني بنقوده.." أجاب هو بسرعة :-"لا تفكر في هذا أيضا..إن الرجل مسافر إلى الإسكندرية منذ أول أمس..كما أنه فقد الأمل تقريبا في أن تعيد إليه ماله.." وهذه المرة بدأت أشعر بالاسترخاء، ورفعت رأسي أتنسم الهواء المنعش المشبع برائحة المطر عندما.....لمحته هناك يتحدث إلى شخص ما مشيرا إلىّ.. قفزت من مقعدي وانطلقت..من خلفي كنت أسمع شظايا من كلمات صديقي:"انتظر..إلى..أين؟.." وكضوء البرق قفزت في أول سيارة أجرة قابلتني..سألني الرجل بصوته الروتيني المعتم:- "إلى أين؟.."ولم أكن أعرف إلى أين..لو كان لي أن أقول ما أريده لقلت له:"أجعلني أتيه في الزحام..أنزلني في أي مكان يبتلعني دون أن يسأل؛ من أكون ولا من أين أتيت"..لكنني لم أنطق بشيء سوى اسم شارع اعرفه بعيد عن هنا وجلست صامتا في مقعدي بينما الأفكار تصرخ داخل رأسي..ثمة شيء آخر كنت أخافه، ولم أجسر أن أخبر صديقي به؛ وعن ماذا أخبره؛ عن هذا الشيء الرهيب الذي فعلته..نعم كان من المستحيل أن أخبره أنني قتلت..لست واثقا حقيقة- حتى الآن-إن كنت فعلتها أم لا..لكن ذاك الفتي كان قد استفزني إلى درجة مفزعة..مميتة..أستطيع أن أتذكر ارتعاش أطرافي من الغضب كأنها تحثني أن أنهض لأبطش به..انطباق فكي كأنهما يرغبان في تمزيقه، وكان هو مستعدا للشجار..اصطدمت رأسه بالحائط ونزف الدم منها غزيرا..نافورة من السائل الأحمر أغرقت المشهد كله أمام عيني..لم يكن هناك أحد..هربت وتركته هناك..ولم أعرف أبدا ماذا حدث وظللت أتعذب بما حدث أو..بما لم يحدث..ألقتني السيارة في الشارع الذي قصدته..نزلت مزعزع الخطوات، مرهق الروح..شعرت أنني وحيد جدا، وضئيل جدا؛ منسي تماما في عالم واسع يضج بالبشر؛ بالحياة؛ بالحركة..ظللت أهيم على وجهي دقائق أو ربما ساعات؛ فقدت الوقت تماما حتى وجدت نفسي أخيرا قريبا من منزلي..سرت إليه على الفور فلقد أنهكني السير الطويل، والمطر، وتوتر الأعصاب عندما وجدت وجهه يبرز من المدخل المظلم..توقف كل شيء بالنسبة لي؛المكان، والزمان؛ وجوده ووجودي؛ قطرات المطر والغيوم والشارع المظلم وكل شيء.. كل شيء..
فتحت عيني شاعرا بصداع خفيف يتسلل بين جفني ويمزق حواسي..أين أنا؟..بل من أنا؟؛ أعتقد أن هذا هو السؤال الأول الذي سألته لنفسي وأنا أستعيد وعيي بوجودي ببطء..اتضحت معالم المكان تدريجيا، ووجدت نفسي في حجرة البواب -الذي يحرس البناية- وقد وضع بصلة ضخمة على أنفي أفزعتني رائحتها..وما إن رآني أفقت حتى قال:"سلامتك يا أستاذ.." قبل أن أحاول تحريك شفتي أصدمت عينأي بذلك الوجه في جانب الحجرة؛ وجه مطاردي الباهت..بدا أقل إفزاعا في ضوء الحجرة الأبيض الهادئ..تجمدت عينأي عليه ف....فابتسم وسمعت صوت البواب يخترق صمتي:"لقد جاء الحاج من البلد ليسلمك مبلغا من أبيك الحاج..بحث عنك ولما لم يجدك جاء ينتظرك هنا.."ورفع هو إلى عينيه قائلا:"لا تؤاخذني يا بني..كأنك كنت تهرب مني..لم أرد..شعرت كأنني تلقيت صفعة قوية..صفعة على روحي..انتزعتني من مكان وألقيتني بعيدا.. بعيدا جدا.. صفعة قاسية..أقسى ما عرفت في حياتي..ووجدت نفسي أبكي.. أبكي كما لم أفعل من قبل كأنني أغسل روحي من شيء ما لا أعرفه..لم نظرا إلىّ هكذا..ألم يكن من حقي أن أبكي؟


============
=======
============
عائده محمد نادر
قصة

جلس يستريح

بوجوده غير المرئي .. جال..((ملك الموت )) بفضاء السوق المكتظ بالناس.. ينظر بشفقة إلى وجوه البشر المتعبة التي كان العرق يتصبب منها لشدةالقيظ, وحرارة الجو تزداد سخونة كلما ارتفعت شمس الظهيرة, لتتوسط السماء المتخمة بدخان التفجيرات, معلنة انتصاف نهار صيفي لاهب آخر.. أمعن النظر بوجه شاب وسيم لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره, يمسح بيده عرقا تفصد على جبينه وينظر إلى بطن زوجته المنتفخ بتساؤل يشوبه القلق, وهي تقلب ملابس صغيرة تشبه ملابس الدمى, وظل ابتسامة خفيفة تلوح على وجهها كلما وجدت قطعة تلائم وليدها المنتظر غير عابئة بالحر الشديد, ولا بنظرات زوجها القلقة.. خطف ملك الموت بنفسه من أمامهما ليطوف فوق رأس شابين يعملان بالتحميل, وهما يكومان الكثير من الرزم فوق كتفيهما وقد ابتلت ملابسهما بعرقهما.. يتسابقان بالوصول أولا للحصول على ((بقشيش ))يعينهما على قوت يومهما, وإطعام أفواه كثيرة جائعة تنتظرهما.. تركهما وطفق يحوم حول فضاء السوق مرة أخرى يتابع من علو أكوام البشر وهي تروح وتجيء وقد بدا له الكثير منهم, يحمل هموم وأعباء حياة سقيمة لا تطاق, تكاد تنطق ملامحهم بما يعانون من بؤس وشقاء,.. بينما بدا له البعض الآخر غير عابئ تبدو اللامبالاة على محياهم, وهنالك ثلة قليلة منهم بدت ملامحهم المترفة توحي له بأنهم سعداء بالرغم من تذمرهم من زحمة السوق, وحرارة الجو إلى حد الاختناق بلفحات الهواء الساخنة المشربة برائحة العرق والأنفاس..من بعيد لمح رجل زائغ النظرات دميم الوجه, عرفه على الفور يحمل بين طيات جنبه (( ميقات الموت )).. ولحظة الآذان فيه.. تحرك ملك الموت بسرعة خاطفة باتجاهه يطوف فوق رأسه مباشرة, والرجل يمشي مطرق الرأس مشية سكرا, وملك الموت يلازمه ملتصقا به لايفارقه.. مد الرجل يده بداخل جيبه وهو يسرع خطاه المترنحة, ينظر إلى وجوه الناس الذين أبدى البعض منهم علامات الاشمئزاز والتقزز عند رؤية وجهه الدميم, يرمقهم بنظرات الغضب والحقد ثم توقف فجأة.. توسط السوق.. وضغط على (( زر الموت )) بقوة .
دوى الانفجار سريعا قويا فتقطع جسده إلى أشلاء صغيرة, وتناثرت معه أجساد كثيرة متطايرةإلى الفضاء.. يتناثر الدم منها وكأنه انهمار مطري ثقيل.. وملك الموت يتلقف الأرواح بسرعة البرق و بلمح البصر, يرفعها إلى السماء عاليا فتطير أرواح كنسمات خفيفة.. وتبقى أرواح أخرى تصارع الموت من أجل الحياة.
مئات الأرواح التي قبضها اليوم, وشدة النيران والدخان الكثيف والأبنية المنهارة وحدوث هذا الانفجار الذي يحمل الرقم ثمانية منذ بدء النهار وحتى انتصافه, جعله يشعر بالتعب الشديد والإنهاك فترك بعض الأرواح تنازع.. وجلس على حافة الرصيف .. يستريح.. وهو يلهث.. تتفحص عيناه أعداد الجثث الكثيرة المتناثرة, بنظرةٍ مذهولةٍ .
تناهى لسمعه صوت بشري يئن أنينا خافتا يائسا.. التفت ناحية مصدر الأنين, فرأى جسد شاب مسجى على قارعة الطريق مقطع الأوصال تنزف كل أوردته, مع كل نبضة من نبضات قلبه.. ترقد بجانبه امرأة بلا رأس, مقطعة الأوصال وقد تدلى جنينها من بطنها التي انفلقت من شدة عصف الانفجار, فبدا الجنين وكأنه لعبة صغيرة ممزقة, تقبع إحدى يديه المقطوعتين على صدر أبيه, وكأنه يستجير فيه إبوته, ويستغيث حمايتها, تفترش أحشائه الصغيرة الرفيعة إسفلت الشارع .. وشرايينه الرقيقة تضخ الدماء على الأرض التي اغتسلت.. بدماء والديه ودمائه .
أدار ملك الموت رأسه إلى الناحية الأخرى مشيحا النظر عن ذلك الجسد المتمزق, يتحاشى رؤية وجهه وسماع أنينه .. فالتعب أخذ منه مأخذه.. ولم يعد يطق قبض روح أخرى.. طأطأ ملك الموت رأسه وصوت أنين الشاب يرن بأذنيه ويدوي برأسه, ووجهه المألوف يحوم حوله.. يأبى أن يفارقه.. وهو يتوسل بصوت خافت ملهوف أن يسرع بقبض روحه, ويخلصه من عذاب وألم لم يعد يحتملهما .استدار ملك الموت مرة أخرى ينظر إلى وجه الشاب فوجده يحدق.. بوجوده.. بعينين تملؤهما نظرة متوسلة.. تطلب الرحمة والخلاص.. يؤشر إلى السماء بإصبعه الوحيد المتبقي من يده.. يستغيث.. قائلا, بصوت واهن متهدج, لملك الموت يستعطفه:
- أستحلفك الله أن تعجل.
خشع قلب ملك الموت .
أحس بالشفقة والرحمة تملأ روحه.. فنهض بسرعة وقبض روح الشاب.. وهو يصرخ بلوعة وحرقة مستغيثا:

- رحماك إلهي .. ألا ينتهي الموت في هذا البلد أبدا.. ألا ينتهي .؟