النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: رسالة من الطرف الآخر

  1. #1 رسالة من الطرف الآخر 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية أحمد غانم عبد الجليل
    تاريخ التسجيل
    Nov 2007
    الدولة
    الأردن
    العمر
    51
    المشاركات
    31
    معدل تقييم المستوى
    0
    رسـالـة مـن الـطـرف الآخـر
    ـ قصة قصيرة ـ

    فيرنندا, ساحرتي الجميلة ..
    ربما ينتابكِ الضحك من بعض حماقات مراهقتي و هذياني و أنت تقرئين خطابي هذا, و قد تطفح سمرتك بحمرة الخجل من عبثية أحاول إحياءها حتى في أكثر فتراتنا العصيبة, فأنا أجدك في هذا القيظ اللاهب تتحممين في البحر, عند شاطئ مدينتنا الصغيرة, أرقب شلالا من المياه يهيم بعناد سواد شعرك الأجعد الطويل, يتخلل خصله الكثة و يهوي بها على جبينك و وجهك و عنقك البلوطي النحيل, ينساب في خطوط متموجة فوق نهديك الكمثريين, و تذوب قطراته عند قمتي تلكما الحلمتين سريعتا الانتصاب لدى لمسة إصبع من أصابع يدي المتشققة من سنوات العمل في مزارع الموز و قصب السكر و تبغ السيجار الغالي, بذات الثياب المرَتقة حائلة اللون, أو مداعبة نسمة ريح تعبر المحيط نحو الشمال, مدن الفردوس السعيد التي نأت عن نداءاتنا, استغاثاتنا, صرخاتنا .. تلفعاتنا المحمومة فوق رخو الرمال الغافية تحت زبد الموج الهادر, و نوارس الفجر تتباهى بحرية تحليقها في الآفاق البعيدة, نستحلفها أن تقص علينا ما تعرف من حكايا عن الطرف الآخر البعيد, توغزنا أحزاننا و حسرات صدورنا المطعونة بالفقر و إدمان الخوف في جزيرة الحرية, تلك الندبةٌ السوداء الطافية على وجه الزرقة الغامقة, بساط الأساطير القديمة الذي ركبناه و جمع من الوجوه الكالحة, و النظرات المذعورة في مقلات العيون, كأسماكٍ صغيرة تنتفض بين شباك رفاقنا الثوريين, كنتِ تترنحين بثمالة الدوار بين ذراعيَ المفتولين, و المركب العتيق يتأرجح بنا في عرض البحر الهائج, يطوِح الجنين داخل أحشائك, أهدهد مواجعك بإشراقة عينين سوف تبرقان, بعد عدة أشهر, كلؤلؤتين منسلتين من محارة, زفرها الموج الصاخب لتوه, تحت ألق شمس وهّاجة, تحفل بها سماء فسيحة, تدلت منها أخيرا حبالا غليظة الأشواك نحو قاعنا الموحل بالعازة و الأمراض و خبايا العهر, و عصابات الأزقة المتخفية خلف الطرق العريضة المخططة, يبرق الأسفلت فيها بريق السيارات الفارهة و الوجوه و البذلات الأنيقة, و ناطحات السحاب الشامخة في إطلالتها على العالم, حبالٌ شدت كل انتفاضاتي المقهورة للتعلق بأنصالها الحادة, رغم رفضك العنيد, بكائك المرير, تهديدك بالعودة و طفلنا جليانو إلى أرضنا المفقرة, و إن وجدت مقاصل الإعدام في انتظاركما منتصبة أمام إحدى لوحات جيفارا الجدارية, على كتفية الضيقين تحط حمامتان بيضاوان, عيونهما تتماهيان مع بريق عينيه دائمتي التمرد .. ما أكثر الصوَر في بلاد الموت هذه أيضا, صوَرٌ مخلوعة, لم تلبث أن استبدِلت بأخرى, تتنوع ألبستها و لحاها, وجوهها باسمة القسمات في سوح الحرب المتشظية بين جنبات المدن الحبيسة, لا أخفيك سرا أن شيئا من الزهو ينتابني كلما ركبت إحدى المدَرعات أو السيارات العسكرية المصَفحة, ضمن دورية تجوب تلك الشوارع المقحلة, أو أرى نظرات الهلع في عيون من نلقي القبض عليهم و عوائلهم المستلبين من كل شيء, و لكن ذلك الزهو لا يلبث أن يحال إلى أفعى شرسة, تتلوى بين شراييني المنقوعة بسم الذكريات البعيدة في الأرض المشققة بالدماء و ملح البحر المتغلغل في مسامنا, كما لو أني متسلسلا بكلاليب أرجوحةً عملاقة, تلف العالم بأذرعٍ أخطبوطية متسارعة الدوران, تسَفر في مخالب أضلعها الحديدية نظرات العيون الذليلة و ذعر الوجوه و دمعات الأطفال المتطافرة فوق زئير النيران و أرمدتها الدخانية عبر خطوط العرض الملتفة حول العالم حتى تصل أكواخنا المحتمية بأشجار جوز الهند الباسقة من عتو الرياح و دمدمة الأعاصير المسلطة على الفقراء أكثر من سواهم ..
    أعرف بما يمكن أن تتهميني, بل لعلكِ تتقززين من الأحرف التي يسَطرها كفي المعروق, النقود البراقة التي خولتك بتسلمها, تذكري يا جميلتي المجنونة أنك لن تضطري بعد الآن للتسكع في الطرقات, تتسولين ثمن حليب ضنَ به صدركِ العارم على الوليد, أو بيع الورود الذابلة فوق شطآننا الكئيبة, و لن .. تمس عنفوان جسدك الباهر يد رجل غريب, تعودين من عنده نازفة بلا قطرة دم واحدة, تزفرين قرف الفحولة المعربدة في أوصالك, و يباغتك غثيان يصب قيئه في عينيكِ الإرجوانيين, أجاج بحرهما يسوقنا إلى تجنب الحديث و لوْك صمت النظرات عدة أيام .. كانتا هناك, تُصلبان في حدقتي تلك المرأة العراقية الفقيرة, تستنجد طويلا بأسم الرب الذي يتكرر عبر شتى أفواه الجماعات المتناحرة, و السماعات المثبتة إلى جانب القبب و المآذن العالية, لعل كان فيها شيء من الشبه منك, تمردها, عنفوانها, و ربما طريقة بصقها في الوجوه, فلم أملك سوى الهرب منكما, و تولي الحراسة على بعد خطوات من تلك الدار الخربة, لم أتبين بالضبط من استبق الآخر إلى اغتصابها .. الملثمون, مرتدو الجلاليب البيضاء و الكوفيات مختلفة الألوان و النقشات .. أم ( رفاقي ) الأمريكان في الدورية, لم يكن أيا من الطرفين يفهم من لغة الآخر شيئا, و لكنهم كانوا يتشاركون القهقهات و الإيماءات و الحركات الفاضحة, ترسم رعشات أعواد القصب تحت زخم الأمطار الموسمية ..
    جنحت الصرخات الباكية نحو الخمود, مع تطاول الخطوط الحمراء في الأفق, تعلن عن ضرورة رجوع كل منا إلى مواضعه الخلفية, بأصابعٍ أدمنت احتضان أزندة لا تكف عن الارتعاد نهارا .. لا تصدقي كم اشتقت إليكِ حينئذٍ, توقٌ جارف بالعودة أرسى الدموع في مقلتيَ, رغم علمي أن أمثالي آخر من يفكرون في عودتهم, و لو لحين, إلى أرض الميلاد الجديد, مهد جليانو و جنينكِ الثاني, ولدنا القادم نحو عالم أكثر عطاءً, يعدنا بمستقبلٍ ترتسم أبعاده من حولي, يحملنا فوق بساط آخر, حُر التنقل أينما نشاء, يحلق في فضاء ميامي الحر, أو أية مدينة, و ربما ولاية ثانية, أو حتى بلد آخر, لا نلجأ إلى دخوله متسللين, مذعورين في هرولاتنا نحو أحد ملاجئ الإيواء, ما دمنا من ضمن رعايا ذلك العلم المبرقش الكبير, المرفرف عاليا في شتى البقاع, ننشئ مزرعتنا التي رسمنا خطوط حدودها مراتا و مرات فوق الرمال الحارة, أقنيتها و مزروعاتها, عنابر البقر و الجاموس و الخنازير و مختلف الطيور, على جانبٍ منها يقع بيت ريفي أنيق, تلجه الشمس من كل زاوية, نستأجر ما نشاء من عمال, و من شتى الأجناس .. علَي عندئذِ أستطيع نسيان عبث الوجوه الممسوخة في ساعات يقظتي و أضغاث أحلامي بصورةٍ متزايدة, بعيدا عن شموس بلادنا المنسية و اللهب المتصاعد من أرض هذه البلاد المذعورة نحو حمرة سمائها القانية ...
    قبلات اشتياقي عبر البحار أرحِلها إلى ثغرك العذب و خديّ جُلينيتو الورديين ...
    ملاحظة : لا تبخلي عليه بأي لعبةٍ شاء, دعيه يسعد بما فاتنا, و لا تحملي هم النقود, فالرواتب هنا في تزايد مستمر ...

    عاشقكِ الدائم
    خوليو بانداروس

    وصلت الرسالة بعد قرابة الشهر, برفقة نعشه الملقى على جانبٍ من حوض الطائرة العملاقة, بمنأى عن نعوش بقية الجنود و الضباط, ذوي العرق الأبيض .. قال لها أحد زملائه, و ذهول صبي ضاع عن ذويه يسطو عليه, فيما القروح تشوه وجهه, إنه قد لقي حتفه إئر إطلاق قذيفة نحو كتيبته من دار خربة, كانت تسكنها امرأة مصابة بالصرع مع طفليها, بعد تصفية الزوج من قبل إحدى المليشيات المسلحة, على بعد خطوات من تلك الدار المنكوبة ...

    ................................
    7ـ 5 ـ 2008 عَمان
    التعديل الأخير تم بواسطة يوسف أبوسالم ; 17/12/2008 الساعة 05:49 PM
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2 رد: رسالة من الطرف الآخر 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية عائده محمد نادر
    تاريخ التسجيل
    Nov 2008
    المشاركات
    368
    معدل تقييم المستوى
    16
    الكاتب الزميل
    أحمد غانم عبد الجليل
    قصتك قوية
    رسالة من رجل باع نفسه لأميركا..
    وماكان الجزاء
    ليشبعوا نعوشا هؤلاء الأوغاد ومهما كانت ذرائعهم
    إلى جهنم وبئس المصير
    سردك كان متسلسلا سلسا
    والطرح كان رائعا
    أحييك سيدي الكريم
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3 رد: رسالة من الطرف الآخر 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية أحمد غانم عبد الجليل
    تاريخ التسجيل
    Nov 2007
    الدولة
    الأردن
    العمر
    51
    المشاركات
    31
    معدل تقييم المستوى
    0
    الأديبة الكريمة عائده محمد نادر ...
    أصبح العراق بمثابة جائزة اللوتو لمختلف المستويات و الأجناس, و أنا في كل مرة أحاول التطرق إلى موضوع الحرب التي تبيح عادة شريعة الغاب من زاوية مختلفة ...
    أشكر مرورك الجميل و اسحسانك للنص
    تمنياتي بدوام الموفقية
    رد مع اقتباس  
     

  4. #4 رد: رسالة من الطرف الآخر 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية شهرزاد
    تاريخ التسجيل
    Jul 2006
    المشاركات
    13
    معدل تقييم المستوى
    0
    استاذى الطيب احمد

    قصه رائعه المعانى بكثره الهموم التى لمستها من حرفك لما آل اليه حال العراق الحبيب
    لااعرف لما وانا ابتدى بالقرآة تذكرت الشاعر الزنجى : ايمي سيزر الذى ادان وحشية الغرب
    اتذكر مقولته : (( الغرب قابع على كومة جثث إنسانية ))

    قصه اعجبتنى واعدت قرائتها اكثر من مره
    ننتظر جديدك بالقريب ان شاء الله


    اختك // شهرزاد
    رد مع اقتباس  
     

  5. #5 رد: رسالة من الطرف الآخر 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية أحمد غانم عبد الجليل
    تاريخ التسجيل
    Nov 2007
    الدولة
    الأردن
    العمر
    51
    المشاركات
    31
    معدل تقييم المستوى
    0
    الأخت العزيزة شهرزاد ...
    أشكرك جزيل الشكر لحضورك و قراءتك الواعية التي تنم عن ثقافة واسعة ...
    لعل أكثر نصوصي التي كتبتها تناولت الشأن العراقي بشكل عام, فآثام الماضي هي التي مهدت لنكبات الحاضر, و قد أشرت إلى هذا من خلال التطرق إلى النظام الديكتاتوري في كوبا الذي يضطر الكثيرين إلى الهروب و التعرض لمخاطر البحر, كما هو حال العراقيين المشتتين في شتى بقاع العالم منذ أعوام بل عقود طويلة ..
    يا ليت كان الأمر ـ كما يحب الكثيرون اختزاله ـ مقتصرا على وجود احتلال غاشم و مقاومة شريفة خالصة الاتنماء و النوايا من أجل تحرير العراق و تأمين العدل و ألأمان لكافة مكوناته, لكانت البلاد بألف خير عما هي عليه الآن ...
    مودتي الأخوية
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. دقات الآخر.
    بواسطة خليد خريبش في المنتدى أدب الجملة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 17/02/2010, 06:10 PM
  2. قبضة الآخر
    بواسطة خليد خريبش في المنتدى أدب الجملة
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 07/10/2009, 09:45 PM
  3. الهجر(قصيدة لمن يعارضها)
    بواسطة د.مقبل العمري في المنتدى الشعر
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 29/03/2008, 08:56 PM
  4. يا مليحَ الطرف...
    بواسطة هيثم سعد زيان في المنتدى الشعر
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 05/02/2008, 07:32 PM
  5. هو و الآخر وأنا
    بواسطة البشير الأزمي في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 03/02/2007, 09:52 PM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •