اللغة والشاعر

لماذا تقدمت اللغة على الشاعر ..في العنوان !؟
سؤال قد يطرحه قارىء ذكي ليصل إلى معرفة السبب الحقيقي ، ومؤدى هذا السؤال ، أن الشاعر من دون اللغة ، كالنهر من دون الماء ، كالحديقة من دون أشجار ، وما أكثر ما كتبت مشيرا إلى أهمية اللغة بالنسبة للشاعر وإلى الكتابة الإبداعية .
وأنها تتطلب قدرا كبيرا من التركيز اللغوي ومن الإدراك العميق للإمكانات التي تتمتع بها اللغة بوصفها أداة تعبير بالغة الثراء ، لكنها لا تكشف عن نفسها ولا تمنح هذا الثراء العريض دون مقابل ، والمقابل هنا هو الجهد والبحث الدؤوب لا عن المفردات المألوفة ..!!
وإنما عن المفردات التي تبدو غريبة أو التي كانت وما زالت قادرة على إضاءة حيوية للنص الأدبي ، والشعري بصفة خاصة ، من خلال إشعاعها الدافق ، نظرا إلى أن المفردات المألوفة أضحت فاقدة الطراوة ، ولهذا المستوى من الإشعاع مهما كان المبدع الذي يتعامل معها متمكنا وقادرا على إعطائها ظلالا جديدة غير مألوفة ، أو سعى إلى وضعها ضمن تجربة جديدة ، فإن كثرة استخدامها أفقدها كل ما كان لها من توهج أو لمعان .
والملاحظ أن أغلبية الجيل الجديد من الشعراء لا يرتبطون بصلة حميمة مع اللغة ، لذلك تبدو نصوصهم فقيرة لغويا ، ولا يشفع لها ما تتمتع به من ثراء بالصور الجديدة والتقنية الفنية العالية ، والفقر اللغوي الذي تعانيه أغلبية الجيل الشعري الجديد ، هو الذي يجعل المناوئين للتجربة الشعرية الشابة ، وفيهم نقاد كبار وشعراء كبار ، يشككون بهذه التجربة ويواصلون اتهامها بعدم الموضوعية ، والتخلي عن المعايير التي تجعل الشعر شعرا والنثر نثرا ، وأحسبني واحدا من المشجعين لهذا الجيل من الشعراء ، ومن المحرضين له على التمادي في جرأته على التجديد ، وعلى مباغتتنا بمحاولاته المتمردة ، بشرط أساس طالما تحدثت عنه وصار لازمة في مقدمة حديثي عن أي شاعر من أبناء هذا الجيل ، وليس ذلك الشرط سوى اللغة ، والإتجاه إلى الكشف عما تزخر به من طاقات ، كفيلة بأن تقفز بهؤلاء الشعراء الموهوبين الحالمين بالحداثة ، إلى مقدمة الصفوف ...!!
إن اللغة كالبحر ، تكتنز أعماقها ما لايبدو على سطحها ، والشعراء الذين يكتفون بالبنية السطحية للغة ، تظل أعمالهم الإبداعية سطحية كلغتهم تماما ، أما أؤلئك الذين يبحثون في بحر اللغة عن البنية العميقة ، ويعانون كثيرا في سبيل الوصول إلى تلك البنية ، والكشف عن أبعادها وطريقة استخدامها ، فإن نصوصهم تمتلك قوتها من طافة اللغة وتميزها وعبقريتها ، ولكل شاعر كبير من القدامى والمعاصرين ، نصيبه من الشعر الحقيقي بمقدار نصيبه من اللغة وطريقة التعامل مع مفرداتها بعمق واختيار ذوقي ومعرفي .
ومنذ وقت غير قصير والحديث عن أهمية اللغة للشاعر لم ينقطع ، ولقد زاد الحديث عنها أهمية بعد أن خفت الإحتفاء بالإيقاع الخارجي ، واتجه إلى ما يسمى بالإيقاع الداخلي الذي هو من شأن اللغة وحدها ، عبر الإهتمام بالتراكيب والتنسيق المفضي إلى هذا الإيقاع .
وإذا كان المعنى ابن الواقع ، فإن الشعرية ابنة اللغة ، فهي التي تشكل النص الشعري ، وترسم له طريق الوصول إلى القارىء عبر خيط من الصور والمجازات ، والتقنيات الفنية التي يحسن الشاعر الحقيقي صهرها ، ويجعل القارىء يشعر بأنه مغمور بإيحاءاتها الحسية دون أن يكون قد قصد إلى ذلك مباشرة ، والذين قالوا أن القصيدة لوحة أو رسم قوامها الكلمات ، لم يكونوا يبتعدون كثيرا عن حقيقة الشعر ، ولا عن تحديد وظيفة اللغة بوصفها مادة الشعر وكينونته الأولى ، ومن هنا تتبين أهمية النصيحة التي كان النقاد القدامى إلى كل من يلمسون فيه موهبة الكتابة الشعرية ، بأن يحفظ عديدا من قصائد الشعراء ثم ينساها ، لكي تختزن ذاكرته رصيدا لغويا زاخرا ، يمكنه من كتابة شعر أكثر عمقا وإشراقا.
يضاف إلى ذلك العودة إلى الشعر العربي القديم ، بوصفه مرجعا يمد المبدع بجذور لغته وحيوية مفرداتها وتراكيبها ، لا في النظام البيتي المألوف بصوره ورؤاه ..

تعليق ...يوسف أبوسالم

يعتقد الشاعر عبد العزيز المقالح ...أن العودة إلى جذور اللغة العربية والإهتمام التام بها وتمثل تراكيبها ومفرداتها وعبقرية إيقاعاتها ..كفيلة بالوصول الشعر الحديث إلى الصفوف الأولى ، وخصوصا إذا ما استطاعوا إيجاد الإيقاع الخاص بشعرهم وهو ما يسميه بالإيقاع الداخلي ..من خلال اللغة وحدها ..
وهو رأي له أهميته وجدير حقا بمناقشته .
ذلك أن الشعر الحديث بالإضافة إلى خواء لغة كثير من شعرائه ، وتخبطهم بتحميل اللغة غرائب من الصور والتشبيهات فيما يعتقدونه حداثة ...فإنه يعاني من أهم ما يمكن أن نصف به الشعر وهو الإيقاع بالإضافة للصورة الشعرية ، فإذا كان المقصود البحث عن إيقاعات جديدة لها أحكامها وشروطها ، وقادرة أن تفرض نفسها على الساحة الأدبية الشعرية ، فلا أظن أحدا يدعو إلى غير ذلك .
إن معارضتنا أو اختلافنا نع شعراء الحداثة هو إلغائهم لأهمية الإيقاع والمقصود هنا الإيقاع الخارجي ( البحور الشعرية أو التفعيلة ) واعتقادهم أنه لا ضرورة للشعر بأن يتقيد بقوالب جاهزة منذ عصور مضت .
وإذا وافقنا ( جدلا ) على عدم التقيد وتقديس القديم ، فإننا ندعو مع المقالح كل شعراء الحداثة ، أن يقدموا لنا من خلال الإيقاع الداخلي للغة ما يقنع بأنه بديل عن إيقاع البحور الشعرية والتفاعيل على أنواعها .
لعلنا نتخلص من هذا التخبط الذي تعيشه قصائد النثر ، والتي صارت كقميص عثمان يعلق عليها ممتهنوها فشلهم في إيجاد بديل حقيقي للبحور الشعرية وتفاعيلها .


عبد العزيز المقالح
عن كتابه ...مدارات في الثقافة والأدب
الصادر مع مجلة دبي الثقافية
العدد .43 كانون أول عام 2008