تجليات المكان في مجموعة الضاني سرداب التاجوري

رغم أن المكان يبرز في الرواية ، أكثر بكثير من بروزه في القصة القصيرة ، لكنه إذا وظف توظيفا ماهرا ..فإنه يتحول إلى الشخصية المحورية للقصة كلها ..وفي كل الأحوال ..فإن تأثيرات المكان تضفي أبعادا وعمقا جديدا للشخصية القصصية من جهة ..وللحدث وفكرة القصة من جهة أخرى.
على أن قصص مجموعة مريم برزت فيها..أماكن محورية ...شكلت الفضاء الأساس لكثير من القصص ، وأماكن ثانوية ..متفرعة من الأماكن المحورية ..وذلك على النحو التالي ...
برزت في قصص المجموعة ..الأماكن التالية كأماكن محورية
المنزل وهو محور هام على مدار قصص المجموعة ..واتخذ مساحات كبيرة منها .
والمدينة المنورة بأسواقها ومختلف مفرداتها المعمارية ألأخرى
مع إشارات لافتة للقرية الفلسطينية وهي الوطن الأم ..ولمدينتي بغداد وغزة بما تعانيانه من عذابات
المدرسة ( التي لم تأخذ دورها ولا حقها كمكان من أهم الأماكن في حياة المبدعة ذاتها .

ورغم ذلك وما يبدو من تعدد الأماكن في قصصها ...فلم تظهر المدينة بتركيبتها الديموغرافية ، وتعقيدات الحياة فيها ..والإحساس بالعزلة لكثير من ساكنيها ...، وطحن المدينة في العادة لسكانها وتذويبهم بشكل أو بآخر ،..ولم نلحظ تأثيرات روحانية للمدينة المنورة على بعض القصص ، ولا حيوية الحركة الدائمة فيها خصوصا في مواسم العمرة والحج . وظل المكان محدودا ..إلى حد كبير في عالم مريم القصصي ..فهو في حقيقته لم يبرح المدينة المنورة والمنزل وبعض الأماكن العادية فيها .
ولأن المنزل شكّل لأبطال المجموعة عالما قائما بذاته ، وكان هو المعادل الموضوعي للوطن ، والمستقر والأمان ، فسأبدأ بتجلياته في قصص المجموعة .

المنزل ...
وهو الشقة أحيانا ..والبيت أحيانا أخرى وكلها تسميات لتكوين مكاني واحد
يمتد المنزل كمكان ..محوري عند مريم ..في مساحات كبيرة من القصص ، بل اعتبر في أعماق أبطالها هو المأوى والأمان ....كما تقول في قصة أخرج يا سعيد ( لعل البيت في الرؤيا يرمز إلى المأوى والأمان ما رأيك..؟فيرد عليها سعيد ردا مقتضبا مليئا بالغموض ...ربما ربما
وهو رد ذكي جدا ..من الكاتبة ..ارتبط بالحدث الرئيس في القصة وهو نهايتها ( بل خرجت امرأة )
ومن أين ..من البيت الذي هو المأوى والأمان ...ولكنه لم يكن كذلك أبدا بالنسبة لسعيد ...!!
وإذا كان البيت هنا قد فقد رمزيته ، بفعل الخيانة الزوجية ، لكنه عاد يشكل مكانا لعدم الإستقرار النفسي وللعذابات التي تعانيها بطلة قصة أسبرين كلما عاد زوجها ورن جرس التلفون الذي يذكرها ( بسحر )
الزوجة الأخرى ...
وكذلك في ( ثلاث على الطريق )
لنقرأ كيف تصف علاقتها بالمنزل ( أكاد أسمع زفيف الرياح عبر شقوق حجرتي تنتظرني فوق السطح ، لعل الغبار الآن يغطي سريري وأرفف الكتب ) .
والإشارة إلى أرفف الكتب لم تأت عبثا .ولكنها إشارة بشكل أو بآخر مستمدة من الكاتبة نفسها ، والتي أسقطت الإهتمام بالكتب على بطلة القصة .
وفي طرب وحرب وبرتقال ...لنقرأ كيف تحول المنزل هنا إلى صراع أجيال ...فهاهو الأب يعود إلى بيته وهو مهموم بأنباء الغارات على غزة فيجد أولاده مشغولين تماما عنه وعما يعتمل في داخله ببرنامجهم المفضل السوبر ستار ، بينما تمزقه فكرة أن ضررا أحاق بأهله وقريته .
و( كم أحب النوافذ ...! ) ...كما تقول في ( ثلاث على الطريق )
تتوقف بطلات وأبطال قصصها طويلا أمام النوافذ ..في لحظات تأمل ...ومناجاة للنفس
فمن النافذة ترى زوجها وهي حزينة في أسبرين ، ومن النافذة تطل لتتأمل أوضاعها من خلال شرودها عبر تأملها هذا في ( ثلاث على الطريق ) ومن النافذة تنز الوحدة ويصرخ الفراغ ، وتصيح الغربة ، في تألق بارز لدور المنزل في قصص المجموعة كما تجلى في ( عصفور على النافذة )
وهذه القصة تدور كلها في المنزل الذي من خلاله ومن نوافذه تطالعنا البطلة بهمومها ووحدتها ومعايشتها للحزن وإحساسها الشديد بالغربة وتفاؤلها رغم هذا كله ..في سرد شاعري حزين بالغ الشجو ..!!
( فالصمت يسكن أوصال شقتها الصغيرة ) ( وأطفو في فراغ الحجرة ) ( وحين تناهى إلى سمعي تغريدك قرب النافذة ) ( وصفحات من مناجاتها لعصفور النافذة التي عبرت بها عن كل دواخلها النفسية )
لدرجة أنها رغبت في البكاء لكنها( تشاغلت عن رغبتها بالبكاء بمراقبة حركة العنكبوت جيئة وذهابا )
ثم تشرع أبواب الأمل ومن النافذة أيضا ( حدقت مليا بستارة نافذتي ، وسحبت الستارة فوجدتك على حافة النافذة .......)
لكن تألق المنزل كمكان ( في سرداب التاجوري ) أمر آخر
فالمنزل هنا هو الوطن والمأوى والملجأ كما ترسب في أعماقها .....لطول معايشتها لكل عناصره المعمارية والبيئية والأسرية ( فهي تغسل مع أمها درج البيت المتآكل ، وتسترخي على بسطة الدرج ، وتضع خدها على الأرض الرطبة الندية ، وتشم رائحتها التي تدغدغ مشاعرها ، وتجلس مع عرائسها على الدكة القريبة من الباب ، وتحب القاعة والديوان والمقعد وكل الحجرات الأخرى ) إلا مكانا واحدا معتما مجهولا هو السرداب ....!!!! ذلك الحبل السري الذي يربط البيت بالمدينة الوطن... !
فأي توحد وتماهي وتمازج بين الشخصية القصصية والبيت هنا ..إنك لا تكاد تميز بينهما أبدا ، إن الطفلة هنا تكاد تصبح عنصرا من عناصر البيت ذاته ، ويكاد البيت يتحول إلى جزء من تكوينها النفسي وهو كذلك فعلا ولعلي أظن أن الطفلة هنا تحديدا هي مريم نفسها ..لشدة صدق الوصف والإنتماء إلى ذلك البيت )..!!
أما المدينة
فقد برزت بشكل واضح ذو دلالة في قصة ( بائع الشراريب ) وشكلت أرضية وفضاء المسرح الذي دارت فيه القصة ..بل وانعكست دلالاتها وتناقض مستوياتها الإجتماعية الطبقية من خلال التناقض الحاد بين بائع الشراريب شبه المتسول والعجوز التي تشتري دراجة لطفلها بسهولة بالغة ..ومن خلال رفض بعض المتسوقين الموسرين لشراء شراريب مسعود وهي المعادل لثمن دواء أمه المريضة
وأكثر من ذلك لم تكتف المدينة هنا بعذابات مسعود بل وطحنته بصخب وتهور السيارات العمياء التي خرجت من بعض الأحياء الضيقة لتقضي على كل أمل له في إيصال الدواء لأمه ..
هل نقول هنا أن المدينة بتناقضاتها تطحن الفقراء ...وتزيدهم فقرا وتدلل الأغنياء لتزيدهم غنى ورفاهية ..
إن أشد ما يلفت النظر هنا أننا نتحدث عن المدينة المنورة بظلالها الروحية العطرة وعن بلد نفطي بظلاله المادية الخانقة...!!!!

وفيما عدا ذلك فقد تناثرت مفردات المدينة بشكل متوتر أحيانا وهادىء أحيانا أخرى في فضاءات القصص الأخرى ، فمن الشارع وهو الآهة الطويلة في ( ضوء ) بما تعنيه هذه التسمية للشارع من انعكاس على البنية النفسية للشخصية القصصية والبيوت الطينية القديمة حول المدرسة والدروب الضيقة الوعرة ( في ثلاث على الطريق ) إلى السوبر ماركت والمسجد ( في طرب وحرب وبرتقال ) إلى العيادة الطبية التي كانت مسرحا آخر لمأساة إنسانية في ( خطوات ميتة ) إلى المستشفى التي صرخت احتجاجا على عقوق الإبنة المتبرمة من بقائها مع أمها المريضة والتناقض الحاد مع الأخرى التي امرأة غريبة عنها وتعتبرها أمها
وإلى دار الرعاية الإجتماعية في ( صناديق البكاء ) وهي المكان الذي يكاد يكون شاهدا على التحولات الإجتماعية في المدينة الكبيرة ...وشاهدا على ما تخفيه المدينة من أسرار ...وأكثر من ذلك شاهدا على التناقض الحاد بين الإيمان الظاهري المقنع وبين الواقع الفعلي المتفسخ .
ويؤكد ذلك أيضا البنك الذي عصف بنفسية عجوز تتلقى راتب الإعانة بعد أن تم قطع الإعانة عنها دون تفهم لظروفها الشاهدة تماما على عقوق الأبناء وعلى التحولات الإجتماعية السلبية في ( على بابه )
وهكذا نجد أن مفردات المدينة شكلت فضاءات دلالية صارخة ، وشواهد على تحولات إجتماعية متجددة
ولكنني لن أنسى الإشارات اللافتة والتي لم تعطها الكاتبة حقها كما يجب وهي وضع العراق وغزة وفلسطين المحتلة ...
ففيما عدا إشارة دارت حولها قصة حرب وطرب وبرتقال عن غارات على غزة ....وإشارة عن غارات على بغداد في نفس القصة لا نلمس التأثيرات المكانية للعراق وفلسطين في قصص المجموعة إلا في الوصف الشجي للقرية الفلسطينية وهو وصف أخاذ في سرداب التاجوري .
بقي أن ألفت النظر إلى مكان شكل دلالة هامة للغاية وهو ( المقبرة ) في ( خارج المفكرة ) وما استدعته من تداعيات عميقة في نفس الكاتبة والشخصية القصصية والقارىء على حد سواء
فالمقبرة لم تعد إلا مكانا توارى فيه الأجساد بصورة آلية ، ثم لا يلبث الذين دفنوا المتوفى أنفسهم إلى الإنشغال في متطلبات الحياة الأخرى كبناء المنزل وشراء السيارة وغيرها وكأن هذه المقبرة والمتوفى وحالة الموت ذاتها خارج مفكرات حياتهم .

على أنني أستطيع التأكيد أن المحور المكاني ذو الدلالة في كل المجموعة هو المنزل بمختلف أشكاله الدلالية والمدينة بمفرداتها المعمارية المتنوعة التي حضنت الأفكار القصصية في المجموعة .
ودارت فيها شخوص القصص وأضاء فيها بمستويات مختلفة فضاء دلاليا حادا وساطعا أحيانا وباهتا خافتا أحيانا أخرى .