همس بأذنها بصوته الدافئ الحنون وهو يحتضنها بكل حب.. قائلا:
- كم أحبكٍ .. حبيبتي.. آهٍ لو تعلمين .
بدلالٍ وتذمرٍ وهي تكاد تبكي ويداها تعبثان بأزرار قميصه, تحاول أن تثنيه عن سفره وهي تستخدم سلاح المرأة فيها, التي ما خيبت آمالها سابقا.. قالت له:
- هل لابد أن تسافر حبيبي , ألا يمكن أن تؤجل سفرك أياما أخرى ؟ فلم يمض على عودتك إلا اسبوعان فقط .
أمسك رأسها بين يديه وهو يهمس لها بصوت شجي طالما أسرها وسحرها.
- أتمنى لو كان الأمر بيدي, حبيبتي , لبقيت العمر كله , لا أفارقك , لكن ,لا تحزني غاليتي هي أيام .. وأعود.
بان الحزن على وجهها, وظلال الشك علت محياها, وهي تتلمس أزرار قميصه تمارس معه سحرها الذي طالما أسره سابقا.. تعزف على أوتار أنوثتها الصارخة التي لم تخيب ظنها يوما.. اقتربت منه تكاد شفتاها تلامس جلده وهي تهمس بصوت مليء بالدفء.. فشعر بحرارة أنفاسها تنصب لهفة بروحه, أغمض عينيه وأنفاسه تتلاحق رغبة بها.. أحست أن محاولتها نجحت وهي تشعر برجولته تتأجج لهيبا..غزتها فرحة لأنها استطاعت أن تشعل نيران حبه وشغفه بها.. وهي تزيد الهمس همسا:
- حبيبي, خذني معك إذن, ولا تتركني لوحدتي, فحياتي بعدك جحيم لا أطيقهُ, ولا أحتملهْ.. فالوحدة تقتلني هنا.
أجفل وكأنه صحا من حلم حريري , ابتعد عنها قليلا, طأطأ رأسه يتحاشى النظر إلى عينيها , تغلب على صوته نبرة حزن , وهو يرد عليها .. وكأنه يحدث نفسه .
- أتمنى لو أني أستطيع ذلك , لكنك تعرفين مكان عملي , الصحراء حبيبتي , وما من مهندس أخذ عائلته معه .
أسقط من يدها, وإحساس باليأس داهم روحها .. فتهالكت جالسة على السرير , وأجهشت ببكاءٍ مرير. نظر إلى وجهها الخمري الذي أغرقته دمعاتها الغزيرة, بعينين حائرتين , وعلامات حزن خفيف طغت على وجهه , وتساؤل جعله يعقد مابين حاجيه, وهو ينصت لثورة ردها وهي تمسح دموعها عن خديها.. والتوتر اجتاح كيانها الرقيق فجعلها ترتعش وهي تقول له بصوت ملتاع متهدج:
- أخبرني إذن , كيف سأقضي أيامي بعدك , قل لي بربك , ماذا سأفعل , وأنا هنا وحيدة ..لا تقل لي أن أذهب إلى بيت أهلك أو أهلي , فهناك أيضا سأشعر بالوحدة والغربة بدونك .. ثم قل لي ,أين سأدفن أشواقي وحنيني إليك, وهي تقض مضجعي, وتعذبني بفراقك .. إني أحترق بعدك ..ألا تفهم .؟
جلس على السرير قربها.. أمسك يدها محاولاً تهدئتها, مسح شعرها بيده بكل حب وألفة.. قائلا لها:
- أرجوك حبيبتي .. سأقول إليك ما تفعلين .. ظلي طوال اليوم وأنت تتذكرين حبي إليك , ظلي وأنت مشتاقة لي لحين عودتي ولتكن ذكرياتنا معا سلوتك بعدي ..ولا تنسي بأني مثلك سأعاني وبأني سأشتاق لكل ما فيك , ومنك , وإني سأعد الأيام بل الساعات حتى أعود , فنجتمع معا , فهوني عليك حبيبتي , هوني عليك , والآن هيا عزيزتي ..أعدي لي حقيبتي قبل أن أتأخر .

نهضت بتثاقل وشعور بالقنوط تلبس روحها, وريح خفيفة من الشك تلبستها, فامتقع لون بشرتها وهي تجمع بعض ملابسهِ.. أحست بشعور غامض يكتسح كيانها وهي تصف حاجياته بعناية بحقيبة سفرهِ الجديدةِ, التي اشتراها قبل اسبوعين!!.. شعرت بأنها تركت قلبها بالحقيبة وهي تغلقها.. سقطت دمعات من عينيها على الحقيبة فمسحتها.
استحم على عجل, ولم ينس أن يضع الكثير من عطرها المفضل وهو يصفف شعره.. قبلها قبلات سريعة وهو يعبث بخصلات شعرها المتموج الطويل, وعيناها الواسعتان تتفرسان وجهه بنظرة حزينة قلقة.. تحاول سبرغوره .. والشك بداخلها من سفره يحرق الإنسانة فيها.. ثم حمل حقيبته وسار مغادرا.. لوح لها بيده مودعا وانطلق بسيارته.. وعيناها تتابعان ابتعاده بخوف يشوبه الظن والريبة.. حتى غاب عن ناظريها.
كان يقود سيارته وهو يدندن بأغنيةٍ مرحةٍ .. اجتاز شوارع كثيرة حتى وصل إلى بيت كبير, بابه الخارجي مفتوح على مصراعيه .. أدخل سيارته الكراج وترجل ..أخرج من جيبه مفتاحا, وفتح باب المدخل .. كان الهدوء والسكينة تعم أرجاء المنزل , وكإن البيت فارغا لا يسكنه أحد.. توجه إلى غرفة النوم مباشرة.
على السريركانت ترقد امرأة تغفو ملئ جفنيها, زينت وجهها بزينة صارخة ..وكأنها عروس بليلة عرسها..ربما تجاوز عمرها الثلاثين بسنين كثيرة, لكنها تبدو جميلة وقد تدلت خصلات شعرها الأشقر على الوسادة المخملية, فبدت وكأنها لوحة تزخر بالألوان الزاهية.. نظر إليها بعينين شغوفتين وعيناه تتراقصان فرحا.. واشراقة غريبة غزت ملامح وجهه الوسيم .. اندس بالفراش على السرير بهدوء , مد يده تحت رأسها.. احتضنها .. تململت بين يديه حين شعرت بوجوده .. تنفست الصعداء وهي تحتضنه.. همس بأذنها بصوته الدافئ الحنون .
- كم أحبك.. حبيبتي ..آهٍ لو تعلمين.