كان نحيلا ضئيلا قصيرا ، لدرجة لا تدعو من يراه للمرة الأولي إلي احترامه ، غير أنه كان يحمل فوق كتفيه عقلا كبيرا مفكرا .. واعيا ومدركا لكل ما يدور حوله أو يتصل به ، تملؤه الحماسة للعلم والتعلم .. ورغبة جارفة للمعرفة ، فكان يحب أن يسأل عن كل شئ يبدو غامضا عليه .. ودفعه ذلك إلي التعرف علي العديد من أصحاب الحرف والصناعات ، وعمل في خدمتهم ليتعلم علي أيديهم ؛ الكثير من أسرار مهنهم وأعمالهم ، حتي شبهه البعض بمصنع صغير متحرك ، يمكنه عمل أي شئ ، ويعرف شيئا عن كل شئ !
كان ابنا من أبناء مدينة ( دمشق ) العربية ، عاش علي أرضها وتربي بين شبابها .. فكان شعلة من حماس لا تنطفئ أبدا ، كيانا يفيض بالنشاط والحركة .. ثم اشتد ولعه بجمع آلات ( النفاطين ) ، وهم طائفة من الصناع ، يقومون بصناعة قناديل الإضاءة ؛ وأدوات النفط علي اختلاف ألوانها ، وما يتصل بها من مواد .. وبدأ ذلك الرجل النحيل الضئيل عمله : في ابتكار مواد عجيبة تقوي عمل النار ، وتساعد علي اشتعالها ، خاصة علي الأسطح والأجسام ؛ التي لا تشتعل بسهولة .. وقطع بالفعل عدة خطوات في هذا المجال ، مما عرضه للوم أصدقائه المقربين ، لرؤيتهم أعماله تلك ؛ غير ذات جدوي للمسلمين .. فكان يقول لهم :
- هذه حالة لا أباشرها بنفسي .. إنما أشتهي معرفتها والقيام بها .. وأجد راحة كبيرة في تنفيذها .. !

فكان عمله هذا رغبة في المعرفة والتعلم ، وليس رغبة في ابتكار أشياء تضر أكثر مما تنفع ، ولا فائدة تجني من ورائها ؛ كما يبدو لغير العارف ببواطن الأمور .. حيث تفرض الضرورة أهمية تعلم كل العلوم ، ومحاولة التعرف إلي كل غريب ، للإستفادة منها وتجنب شرورها .
وقد صادف ذات مرة ، أن قام ذلك الدمشقي النحيل الضئيل ؛ بزيارة لمدينة ( عكا ) ، قبل شهر ربيع الأول من عام 587 ه ، للتعرف علي أصحاب الحرف والصناعات فيها ، والوقوف علي أحدث ابتكاراتهم في مجال صناعاتهم وحرفهم .. ثم زحفت الجيوش الصليبية علي المدينة بعد ذلك ؛ فحاصرتها وضيقت الخناق عليها ، أملا في استسلامها في أقرب فرصة وأسرع وقت .
لكن الأمير ( قراقوش )حاكم المدينة ، استعد قبل ذلك بوقت كاف للقاء العدو .. فتحصن داخل اسوار مدينته ، بعد أن زودها بالمؤن والسلاح الكافي للصمود .. واحتشد الجند خلف الأسوار يناوشون العدو ويقاتلونه ، فينالون منه ولا ينال منهم .

وعندما استعصت المدينة ؛ بأسوارها العالية واستحكاماتها القوية علي الصليبيين ، قاموا بصنع ثلاثة أبراج عالية جدا من الخشب ، يبلغ طول الواحد منها ستون ذراعا ، ويتكون كل برج من خمسة طوابق ، يسع كل طابق منها العشرات من الجنود المقاتلين المجهزين بالسلاح والعتاد .
وقد قام صناع العدو ، بتصنيع تلك الأبراج من نوع خاص من الخشب القوي السميك ، وقاموا بتغطيته بالجلود والخل والطين ، المعالج بأدوية كيميائية ، تمنع اشتعال النار فيه ، وتقف حائلا بين وصول النار إلي الخشب ، حتي لا يحترق .
وزحف الصليبيون بالأبراج الثلاثة نحو اسوار المدينة ، وكانت تلك الأبراج أعلي بكثير من السور .. مما رجح بميزان القوة إلي جانب العدو ، فكان جنود الأبراج يرمون المسلمين بالسهام والنشاب فيصيبونهم ، وهم متحصنيين داخل أبراجهم ، لا يصلهم شئ من سهام المسلمين .. الذين أصبحوا في موقف صعب جدا .

لكن رغم هذه المحنة القاسية ، حاول أهالي المدينة بكل وسائلهم المتاحة لديهم ؛ تدمير هذه الأبراج بحرقها .. فلم يستطيعوا أبدا .. فقد كانت الأبراج قوية للغاية ، كما أنها معالجة بشكل جيد ، يمنع وصول النار إلي الخشب .
تكررت محاولات الأهالي لتدمير تلك الأبراج ، فلم يفلحوا في ذلك أبدا .. فضاق بهم الحال حتي يأسوا من تدميرها ، بعد أن وضعتهم تلك الأبراج الثلاثة في مأزق حقيقي ، وموقف حرج بكل المقاييس .
وكان ذلك مما دفع بالأمير ( قراقوش ) ، إلي ارسال أحد رجاله للقاء القائد ( صلاح الدين الأيوبي ) .. فسبح ذلك الرجل في البحر حتي بلغ الشاطئ ، ونجح في الوصول إلي الجيوش الأسلامية ، التي كانت مرابطة في منطقة ( الخروبة ) تحت قيادته .. فالتقي به وأخبره بما حدث مع العدو وأنبأه بما أشرفت عليه المدينة من الهزيمة والخزلان ، بسبب تلك الأبراج اللعينة .

وفي سرعة زحف ( صلاح الدين ) بجيشه ؛ من المنطقة التي كان مرابطا فيها ، واتجه في سرعة نحو مدينة عكا ، وما أن وصل إليها حتي بدأهم بقتال شديد عنيف ، بهدف اجبارهم علي فك الحصار عن المدينة ، أو علي الأقل تخيفيف ضغطهم عليها .
غير أن العدو الصليبي تنبه لتلك الخطة ، فقام بتقسيم قواته إلي قسمين : قام القسم الأول منها بالتصدي للجيش الإسلامي بقيادة البطل ( صلاح الدين ) ، وواصل القسم الثاني هجومه علي المدينة ، بأبراجه الجديدة في صناعتها القوية بطريقة قتالها .
وعلي ذلك استمرت المعارك أياما ، فشلت خلالها كافة محاولات الأهالي في تدمير تلك الأبراج .. وحاصرهم اليأس من كل جانب ، ليؤكد للجميع أنهم يعيشون محنة حقيقية ، ولا يبدو لهم منها انفراجا في وقت قريب .

وكان لابد للبطل العظيم أن يظهر ..
فقد جاء وقته المناسب .. وحان دوره ..
ها هو يظهر علي الساحة ، يقترب بخطواته الصغيرة ؛ وجسمه النحيل الضئيل القصير ، من الأمير ( قراقوش ) حاكم المدينة .. يهمس له بصوت يفيض ثقة وإيمانا :

- أستطيع بعون الله وتوفيقه حرق تلك الأبراج وتدميرها !
نظر إليه الأمير من عل .. قال :
- أنت ؟!

فقال الدمشقي بهدوء العلماء :
- نعم يا مولاي .
كان اليأس قد تمكن من الأمير ، بعد كل المحاولات الفاشلة التي سبق تجربتها .. مثله مثل كل أهالي المدينة البائسة .. لكنه سأل في غير تصديق :

- وكيف يمكنك عمل ذلك ؟
أجاب الدمشقي علي الفور :
- لقد وفقني الله إلي تركيب بعض المواد .. يمكننا بها حرق تلك الأبراج .. إذا نجحنا في إلقائها علي الأبراج بشكل محكم بواسطة المجانيق .

بدا الضيق علي وجه الأمير ( قراقوش ) وقد ظن أنه مجرد هاو يتسلي .. قال :
- من فضلك .. دعني الآن إن أمامنا عدو قوي يتربص بنا .
سأل الدمشقي بدهشة :

- ولماذا لا تدعني أجرب موادي ؟
فقال الأمير مهيا اللقاء :
- ليس أمامنا وقت للعب والمحاولات الفاشلة !

وظل الأمير ( قراقوش ) علي تردده ، وتكرر إلحاح الدمشقي في طلبه .. حتي تدخل بعض الأمراء الحاضرين ، الذين عرفوا بالقصة .. ونجحوا بالفعل في إقناع الأمير ؛ بأن يدعه يجرب مواده ، رغم احساسه الغريب بأنه لن ينجح فيما فشل فيه أهل الخبرة والصناعة من أهالي المدينة !
وفي فرح وسرعة ، أعد الدمشقي عدة قدور كبيرة ، ملأها بتلك المواد الكيميائية ؛ التي نجح في تركيبها .. وأمر المنجنيقي فقذف بها فوق البرج الأول .. وكانت دهشة الصليبيين داخل البرج عظيمة ، عندما رأوا المسلمين يقذفون برجهم بقدور ليس فيها نار .. فتأكدوا من يأسهم وفشلهم في تدميرها ، تماما مثل عشرات المحاولات الفاشلة السابقة ، فراحوا يرقصون ويصفقون داخل أبراجهم ، وكأنهم يعلنون تفوقهم وانتصارهم !
في حين كان ذلك الدمشقي .. النحيل الضئيل القصير ، يرقب الموقف بكل يقظة وانتباه .. تأكد من أن مواده قد تمكنت من كل جزء في البرج .. فأمر بتجهيز قدر آخر وجعل فيه النار .. قام المنجنيقي بقذفه أيضا فوق البرج ..

وكانت المفاجأة مذهلة ..
أخرست السنة المعتدين وقتلت الفرحة في عيونهم !
لقد اشتعلت النار في البرج .. أخيرا !

وظهر البرج من بعيد ، وكأنه كتلة من النار ، يبدو من المستحيل السيطرة عليها .. وتغير الموقف بسرعة .. ها هم المسلمون يكبرون ويهللون ، في فرحة لا حدود لها .. بينما انقلب حال العدو وفرحه إلي صراخ وعويل .. ومرت الدقائق مسرعة .. كانت النار قد أتت علي البرج بكل مافيه من جنود وذخيرة .
وبعد أن انتهي الدمشقي من تدمير البرج الأول ، أسرع إلي البرج الثاني وفعل به نفس الشئ ، ولكن بسهولة اكبر .. بعد أن هرب من فيه من الجنود والمقاتلين ، الذين رأوا ما حدث لإخوانهم في البرج الأول ، تاركين داخله من الأسلحة والعتاد الشئ الكثير ، ليحترق مع البرج .
ثم انتقل الدمشقي إلي البرج الثالث ، وفعل به نفس الشئ ولحق به نفس المصير .. الذي بدا أنه لا فكاك منه .. وكان هذا اليوم من الأيام المشهودة ، في تاريخ هذه المدينة العربية الخالدة .. فاستبشر الناس بعده وفرحوا واطمأنوا إلي قرب النصر .

وتعاقبت الأيام .. ونجح البطل العظيم ( صلاح الدين الأيوبي ) ؛ في هزيمة العدو الصليبي وأجلاه من حول المدينة .. ثم دخلها مظفرا منتصرا ، وحمل أهالي ( عكا ) ذلك الدمشقي النحيل الضئيل إليه .. فأعجب به ( صلاح الدين ) وشد علي يده محييا ، وقدم له أموالا طائلة وهدايا ثمينة ، مكافأة له علي جده واجتهاده ودوره الرائع في تدمير الأبراج الثلاثة .
وكان للبطولة أن تتجلي مرة ثانية ؛ داخل ذلك الدمشقي الضئيل جسما .. العظيم في عقله وعلمه وعمله .. فرد جميع الأموال والهدايا إلي ( صلاح الدين ) في لطف وأدب .. قائلا :
- إنما فعلتها لله وحده .. ولا أبتغي الجزاء إلا منه تعالي .

فعانقه ( صلاح الدين ) في سعادة وفرح ، محييا داخله بطلا رائعا عظيما .. نجح بالإصرار والصبر والمثابرة ، فيما فشل فيه كثيرون من الأسوياء !