حنين
في يوم من الأيام، وبينما كنَّا نلهو ونلعب ونمرح في أرجاء الحديقة أنا و صديقاتي، سمعت صوت طفلة صغيرة تصرخ وتبكي، ركضتُ مسرعة وراء الصوت فوجدتُ طفلة صغيرة لا تتجاوز الأشهر من عمرها، موضوعة في مهدها، رائعة الجمال كبياض الثلج، سوداء الشعر، ذات عينان سوداوان مكحلتان وكبيرتان، فأخذتها إلى منزل عمتي الكبيرة في السن والتي لم ترزق بطفلٍ حتى الآن، ففرحت بها كثيراً وقلت لها: أن تعتني بها وتطعمها وتعاملها منذ هذه اللحظة كابنة وطفلة لها. وأثناء وضعها في السرير كان في جيبها ورقة وكان مكتوب عليها فقط عبارة (( هذه الطفلة أمانة في أعناقكم)) حتى أنَّه لم يُذكر أي شيء عنها وعن اسمها ونسبها. وبعد أيام ذهبت عمتي وقامت بتسجيلها باسم لونا وأنسبتها لكنية زوجها.
يوماً بعد يوم بدأت هذه الطفلة الصغيرة تكبر والسعادة والفرحة تملآن أجواء المنزل فرحاً ومرحاً بها. وحين دخولها المدرسة بدأت وعمتي في مساعدتها في دراستها، وقد كنت مدرسة في ذات المدرسة، فكان همَّنا الوحيد هو رسم الابتسامة والسعادة على وجه هذه الطفلة، فكانت أيضاً الفرحة تملأ وجوه أصدقاؤها والتعاون والإخاء والمودة والمحبة تكبر بينهم يوماً بعد يوم. و كان من بين أصدقائها فتاة بدأت أولاً بالتقرب من صديقات حنين المقربين والمتعاونين معها لتتعرَّف عليهم عن كثب، فكانت الطفلة حنين من المتفوقات في صفها فبدأت صديقتها لونا تزورها في منزلها بشكل مستمر وقد كانت صديقة كسولة جداً لها حيث كان هدفها الوحيد هو التقرّب منها لمعرفة طرقها في دراستها واتباع أسلوبها المماثل لها أيضاً في كل شيء، وبدأت تراقبها بكل خطواتها وتصرّفاتها ومحادثة صديقتها المقرَّبة لها لمعرفة كل شيء عنها بالتفصيل واستدراجها حول الأحاديث التي تدور بينهما، ولعفوية حنين كانت تبوح عن كل ما بداخلها إلى لونا وقد كانت تجلس لونا بجانبها في كل حصة درسية إلى حين بدء الامتحانات ولونا التي بجوارها بدأت تلهيها بالحديث معها بصوتٍ خافت و حنين المسكينة كانت تجيبها على بعض أسئلتها، والوقت يمرّ بسرعة دون أن تشعر حنين بذلك وصديقتها مستمرة بالكتابة. فعجباً لأمر حنين أريدها فقط أن تهتم بالكتابة وملء ورقة امتحانها دون اللهو مع صديقتها لونا، ومضت على هذا المنوال لحين انتهاء الامتحان بأكمله. وبعد فترة فوجئت حنين بنتائج الامتحان وتدني علاماتها وأنَّ صديقتها الكسولة قد تفوقت عليها.
أقبلت حنين تخبرني بنتائج الامتحان وتقول لي: أتذكرين صديقتي التي كانت تأتي وتطالع معي، فأجبتها: نعم، وما بها؟ فقالت لي: لقد نجحت بعلامات أعلى منّي. فقلت لها: أروي لي بالتفصيل ما الذي حدث معك بالامتحان يا حنين. ولماذا علاماتك متدنية بهذا الشكل؟ فقالت لي: إنًّني أثناء الامتحان كانت أساعد صديقتي بحل الأسئلة، ونسيت نفسي وأنَّ الوقت قد مرَّ ولم أستطع اجتياز الامتحان كما يجب.
ومنذ ذلك اليوم نصحتها بالا تصغي لها وإن أرادت أي شيء منك قولي لها: أن تسأل معلمتها وإنَّك لست المسؤولة عنها ويتوجب عليك الاهتمام بدراستك أكثر.
وفعلاً قد أصغت إلى هذه النصيحة لكي تبقى متفوقة كما عهدتها من قبل، بشرط ألا ترافقها. فعجباً لذكاء صديقتها هذه رغم أنَّها كسولة. رغم كل ذلك لم تتوانى هذه الصديقة عن جلب المشاكل والمتاعب لحنين. حيث بدأت تلهيها عن دراستها كثيراً وحتى عن أصدقائها. ولله الحمد فقد كانت حنين تخبرني بكل شيء وأنا بدوري أقوم بنصحها بشكل مستمر ريثما عادت حنين التي أعرفها، لانا المتفوقة في دروسها وفي صفٌّها أثناء حلها لأسئلة الامتحانات دون مضيعة وقتها في أشياء غير مجدية ومفيدة لها، وحرصها الدائم على انتقاء واختيار الأصدقاء الطيبين الصدوقين والمتفوقين والإبتعاد عن الأصدقاء السوء والكسولين والمسببين مضيعة للوقت وأذىً لبعضهم البعض.
وبقيت على هذا المنوال إلى أن وصلت إلى أعلى المراتب وإختيارها لمهنة المحاماة لمحبتها بما يسمى بتحقيق مبدأ العدالة والإنسانية ونصرة المظلوم بحق وصدق وأمانة وإخلاص.
ورغم ذلك كلّه أشعر بها دائمة التفكير والشرود وأنَّه يوجد شيء ما يشعره بنقص ما بداخلها لا تريد الإفصاح عنه أبداً، فلعلّ مشاغلها كثرت، وقد حاولتُ سؤالها مراراً وتكراراً عما يشغل تفكيرها، ولكن بدون أي إجابة من قبلها، إلى أن جاء يوم من الأيام وجلست تحادثني وعمتي، ونحن نشرب القهوة سويةً وهي تقول لي: إنّني الآن وفي متناول يدي قضية تشغل بالي كثيراً قد استلمتها من قبل سيدة تشغل بالها كثيراً، وتريد استشارتي فيها، وهذه السيدة وزوجها قد قاما بوضع طفلتهما منذ صغرها بالقرب من حديقة، ولم تترك بحوزة هذه الطفلة سوى ورقة صغيرة مكتوب عليها عبارة هذه الطفلة أمانة في أعناقكم، وذلك نظراً لظروف الزوجين والخلافات القائمة بينهما، حسب قول هذه السيدة. وسرعان ما عمتي رجفت واندلق فنجان القهوة من يدها، وهي تقول لحنين: بسرعة بسرعة هيا بنا إلى هذه السيدة، وفعلاً تم الاتصال بها لتحديد موعد لمقابلتها مع عمّتي في مكتب حنين. فاستغربت حنين من كل هذا وتقول لعمتي: لمَ تريدين مقابلتها؟ فقط أقوم باستشارتكم في هذه القضية لأنني ولأول مرة استلم مثل هذه قضية، فكيف لي أن أساعدها في إيجاد هذه الطفلة التي ضاعت منهم منذ الصغر. فأجابت عمتي: أرجوكِ يا حنين دعيني أراها وأحادثها وسأروي لكِ كل شيء بالتفصيل ولكن فيما بعد. فعلاً اجتمعت عمتي والسيدة، وعندما سمعت عمتي قصة هذه السيدة، أجابتها: إنَّ حنين هي الطفلة نفسها التي تبحثين عنها، وهي الآن التي تستلم قضيتك في البحث عن هذه الطفلة وفعلاً هي أمانة في أعناقنا منذ وضعها في الحديقة.
وفجأةً حين سمعت بذلك دخلت مسرعة إليهم والدموع والبكاء تنهمر على وجوههم. حقاً كان ذلك الموقف صعب جداً لحنين وهي واقفة مندهشة ومستغربة عمَّا يدور حولها وهي تبكي وتلومهم على فعلتهم هذه وعدم افصاحهم بحقيقتها. وحينها لم تتمالك حنين أعصابها أثناء ذلك الموقف، فماذا ستفعل؟ هل تترك العائلة التي عاشت وترعرعت معها أم تذهب لتلك السيدة التي هي أمها والتي تركتها بلا عناية واهتمام بها منذ صغرها، لمجرد إثبات هويتها عن طريق ورقة صغيرة ما تزال بحوزة هذه العائلة. ولكنها سرعان ما حكَّمت عقلها وعادت لرشدها وصوابها، وقد كان جوابها: إنَّ الأم ليست التي ولدت وأنجبت فقط، بل الأم التي ربت وتعبت وسهرت على راحة أطفالها.
ومنذ ذلك الوقت، قررت حنين ألا تترك هذه العائلة مع تواصلها وبقاءها المستمر مع السيدة أمها أيضاً. ولم تلومها نظراً لظروفها الصعبة التي قد مرَّت بها، والأهم من ذلك كلّه أنَّه بالتأكيد لم تشعر بالنقص الذي كان ينتابها كثيراً من ذي قبل، ولنجاحها وتفوقها أيضاً في عملها هو معرفة حقيقة نفسها ما يحفّزها ويساعدها على معرفة وحل قضايا ومشاكل الآخرين.
أرجوا أن تنال قصتي البسيطة هذه إعجابكم.

كاتبة القصة: رشا السمكري
rasha1983_s@yahoo.com