سيد التابعين : سعيد بن المسيب
قال عنه أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) :
فأما أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي كان من الممتحنين ؛ أمتحن فلم تأخذه في الله لومة لأئم ، صاحب عبادة وجماعة ، وعفة وقناعة ، وكان كاسمه بالطاعات سعيدا ، ومن المعاصي والجهالات بعيدا .
وقال عنه ابن حبان في الثقات :
كان من سادات التابعين فقها ودينا وورعا وعبادة وفضلا ، وكان أفقه أهل الحجاز وأعبر الناس للرؤيا ، ما نودي للصلاة منذ أربعين سنة إلا وسعيد في المسجد ينتظرها .
اسمه وكنيته ومولده وصفته :
اسمه سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي المدني سيد التابعين .. وكنيته : أبو محمد .
وعن مولده ، قال الذهبي : ولد في خلافة عمر ، لأربع مضين منها وقيل لسنتين مضتا منها .
وقيل ولد سعيد قبل موت عمر بسنتين .
وعن صفته : روي عن عمران بن عبد الملك ، قال : قال سعيد بن المسيب : ما خفت علي نفسي شيئا مخافة النساء ، قال : فقالوا : يا أبا محمد إن مثلك لا يريد النساء ولا تريده النساء ، قال : هو ما أقول لكم . قال - الراوي - : وكان شيخنا كبيرا أعمش .
وعن أبي الغصن أنه رأي سعيد بن المسيب أبيض الرأس واللحية .
وعن محمد بن هلال أنه رأي سعيد بن المسيب يعتم ، وعليه قلنسوة لطيفة بعمامة بيضاء ، لها علم أحمر يرخيها وراءه شبرا .
قالوا عنه :
قال مكحول : طفت الأرض كلها في طلب العلم ، فما لقيت أحدا أعلم من سعيد بن المسيب .
وقال علي بن المديني : لا أعلم في التابعين أوسع علما منه ، وهو عندي أجل التابعين .
وقال أحمد بن عبد الله العجلي : كان رجلا صالحا ، فقيها ، وكان لا يأخذ العطاء ، وكانت له بضاعة أربع مئة دينار ، وكان يتجر بها في الزيت ، وكان أعور .
وعنه قال أبو زرعة : مدني قرشي ثقة إمام .
وقال أبو حاتم : ليس في التابعين أنبل من سعيد بن المسيب ، وهو أثبتهم في أبي هريرة .
وعن مكحول أيضا ، أنه قال : لما مات سعيد بن المسيب استوي الناس ، ما كان أحد يأنف أن يأتي إلي حلقة سعيد بن المسيب ، ولقد رأيت فيها مجاهدا وهو يقول : لا يزال الناس بخير ما بقي بين أظهرهم .
وقال القاسم : ذاك خيرنا وسيدنا .
وقال محمد بن عمر في حديث : ذاك سيدنا وعالمنا .
شيوخه وتلامذته رحمهم الله جميعا :
من شيوخه : روي عن أبي بكر مرسلا ، وعن عمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وحكيم بن حزام وابن عباس وابن عمر وابن عمرو بن العاص وأبيه المسيب ومعمر بن عبد الله بن نضلة وأبي ذر وأبي الدرداء وحسان بن ثابت وزيد بن ثابت وعبد الله بن زيد المازني وعتاب بن أسيد وعثمان بن أبي العاص وأبي ثعلبة الخشني وأبي قتادة وأبي موسي وأبي سعيد وأبي هريرة وكان زوج ابنته وعائشة وأسماء بنت عميس وخولة بنت حكيم وفاطمة بنت قيس وأم سليم وأم شريك .
ومن تلاميذه : ابنه محمد وسالم بن عبد الله بن عمر والزهري وقتادة وشريك بن أبي نمّر وأبو الزناد وسمي وسعد بن ابراهيم وعمرو بن مرة ويحيي بن سعيد الأنصاري وداود بن أبي هند وطارق بن عبد الرحمن وعبد الحميد بن جبير بن شعبة وعبد الخالق سلمة وعبد المجيد بن سهيل وعمرو بن مسلم بن عمارة بن أكيمة وأبو جعفر الباقر وابن المنكدر وهاشم بن هاشم بن عتبة ويوسف بن يوسف وغيرهم .
عبادته رحمه الله :
روي عن سعيد قوله : ما فاتتني الصلاة في الجماعة منذ أربعين سنة .
وعنه : ما أذّن المؤذن من ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد .
وعنه أيضا أنه صلي الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة ، وقوله : ما فاتتني التكبيرة الأولي منذ خمسين سنة ، وما نظرت في قفا رجل منذ خمسين سنة .
وقال يزيد بن حازم عن صومه : كان سعيد بن المسيب يسرد الصوم ، فكان إذا غابت الشمس أتي بشراب له من منزله المسجد فشربه .
وحكي عاصم بن العباس الأسدي ، قال : كان سعيد بن المسيب يذكر ويخوف وسمعته يقرأ في الليل علي راحلته فيكثر ، وسمعته يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وكان يحب سماع الشعر وكان لا ينشده ورأيته يمشي حافيا وعليه بت ( أي طيلسان من خز ونحوه ) ، ورأيته يحفي شاربه شبيها بالحلق ، ورأيته يصافح كل من لقيه ، وكان يكره كثرة الضحك .
وكان - رحمه الله - عزيز النفس ، فلم يكن يقبل بعطاء الحكام في زمانه ، ويقول : ( لا حاجة لي فيها ) ، وما كان يلبي دعواتهم بالحضور إلي مجالسهم .. وربما لما كان يراه من ظلمهم ، ولم يجب منهم إلا عمر بن عبد العزير عندما كان أميرا للمدينة .. وبقدر ما كان شديدا صعب القياد مع الخلفاء والحكام الظالمين ؛ كان لين الجانب سهل المعاملة مع الأتقياء والصالحين .
وقد زوج ابنته لابن أبي وداعة - واحد من تلاميذه - علي درهمين أو ثلاثة ، بعد أن خطبها عبد الملك لابنه الوليد فأبي عليه ، فلم يزل يحتال عبد الملك حتي ضربه مائة سوط في يوم بارد وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف .
تحمّل الضرب والحبس ورفض أن يبايع بولاية العهد بعد عبد الملك لولديه الوليد وسليمان .. كما رفض أن يبايع بخلافة ابن الزبير حتي يجتمع الناس .
طلب منه رجل من آل عمر أن يدعو علي بني أمية ، فقال : ( اللهم أعز دينك وأظهر أولياءك واخز أعداءك في عافية لأمة محمد صلي الله عليه وسلم ) .
درر من أقواله رحمه الله :
عن عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا سعيد بن المسيب قال : ما أكرمت العباد أنفسها بمثل طاعة الله عز وجل ، ولا أهانت أنفسها بمثل معصية الله ، وكفي بالمؤمن نصرة من الله أن يري عدوه يعمل بمعصية الله .
وروي ابن حرملة قوله : لا تقولوا مصيحف ولا مسيجد ، ما كان لله فهو عظيم حسن جميل .
وعنه أيضا أنه سأل سعيد بن المسيب قال : وجدت رجلا سكران افتراه يسعني ألا أرفعه إلي السلطان ؟ فقال له سعيد : إن استطعت أن تستره بثوبك فاستره .
وعن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال : ما أيس الشيطان من شئ إلا أتاه من قبل النساء ، ثم قال لنا سعيد وهو ابن أربع وثمانين سنة وقد ذهبت إحدي عينيه وهو يعشو بالأخري : ما شئ أخوف عندي من النساء .
وعن عيسي الخرساني أن سعيد بن المسيب قال : لا تملؤ أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم ، لكي لا تحبط أعمالكم الصالحة .
وعن سفيان بن عيينة قال : قال سعيد بن المسيب : إن الدنيا نذلة وهي إلي كل نذل أميل ، وأنذل منها من أخذها بغير حقها وطلبها بغير وجهها ووضعها في غير سبيلها .
وفاته :
توفي رحمه الله سنة أربع وتسعين في خلافة الوليد بن عبد الملك وهو ابن خمس وسبعين سنة ، وكان يقال لهذه السنة التي مات فيها سعيد سنة الفقهاء ، لكثرة من مات منهم فيها .