أقوال العلماء حول المحكم والمتشابه :
الحمد لله رب العالمين ، وصلاة وسلاما على إمام الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه وسلم .
ماذا أراد الله بإنزال المتشابه في القرآن ؟
أجاب عنه [ ابن قتيبة ] في " تأويل مشكل القرآن " فقال :
( إن القرآن نزل بألفاظ العرب ومعانيها ، ومذاهبها في الإيجاز والإختصار والإطالة والتوكيد ، والإشارة إلي الشئ ، وإغماض بعض المعاني حتي لا يظهر عليه إلا اللقن ( سريع الفهم ) وإظهار بعضها ، وضرب الأمثال لما خفي ، ولو كان القرآن كله ظاهرا مكشوفا ؛ حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل ، لبطل التفاضل بين الناس ، وسقطت المحنة ، وماتت الخواطر ومع الحاجة تقع الفكرة والحيلة ، ومع الكفاية يقع العجز والبلادة .
وقالوا : عيب الغني أنه يورث البله ، وفضيلة الفقر أنه يبعث الحيلة .
وقال [ أكثم بن صيفي ] : ( ما يسرني أني مكفي كل أمر الدنيا .. ) قيل له : ( ولم ؟ ) قال : ( أكره عادة العجز .. ! ) .
وكل باب من أبواب العلم ، من : الفقه والحساب والفرائض والنحو ، فمنه ما يجل ومنه ما يدق ، ليرتقي المتعلم فيه رتبة بعد رتبة ، حتي يبلغ منتهاه ويدرك أقصاه ، ولتكون للعالم فضيلة النظر والإستخراج ، ولتقع المثوبة من الله علي حسن العناية .
ولو كان كل فن من العلوم شيئا واحدا ؛ لم يكن عالم ولا متعلم ، ولا خفي ولا جلي .. لأن فضائل الأشياء تعرف بأضدادها ، فالخير يعرف بالشر ، والنفع بالضر ، والحلو بالمر ، والقليل بالكثير ، والصغير بالكبير ، والباطن بالظاهر .. - تأويل مشكل القرآن ص ٨٦ - ٨٧ ) .
* * *
قال تعالي ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله . والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا . وما يذكر إلا أولوا الألباب ) .
قال العلامة [ ابن عثيمن ] في الآية السابقة : ( والإشتباه قد يكون اشتباها في المعني ، بحيث يكون المعني غير واضح .. أو اشتباها في التعارض ، بحيث يظن الظان أن القرآن يعارض بعضه بعضا ، وهذا لا يمكن أن يكون .. لأن الله عز وجل قال : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) " النساء - ٨٢ " ، والقرآن يصدق بعضه بعضا ) .
والتعارض الذي يفهمه من قد يفهمه من الناس إنما يكون لأحد الأسباب التالية :
١ - إما لقصور في العلم .
٢ - أو قصور في الفهم .
٣ - أو تقصير في التدبر .
٤ - أو سوء في القصد ؛ بحيث يظن أن القرآن يتعارض ، فإذا ظن هذا الظن لم يوفق للجمع بين النصوص ، فيحرم الخير لأنه ظن بالقرآن ما لا يليق .
تفسير الآية الكريمة :
قوله تعالي :
( منه آيات محكمات )
" الآيات " : جمع آية وهي العلامة ، وكل آية في القرآن فهي علامة علي منزلها ، لما فيها من الإعجاز والتحدي .. وقوله : " محكمات " أي : متقنات في الدلالة والحكم والخبر ، فأخبارها وأحكامها متقنة معلومة ليس فيها إشكال .
وقوله تعالي :
( وأخر متشابهات )
يعني : أن أحكامها غير معلومة ، وأخبارها غير معلومة ، فصار المحكم هو المتقن في الدلالة سواء كان خبرا أو حكما ، والمتشابه هو الذي دلالته غير واضحة ؛ سواء كان خبرا أو حكما .
ولهذا نجد أن بعض الآيات لا تدل دلالة صريحة علي الحكم الذي استدل بها عليه ، وبعض الآيات الخبرية أيضا لا تدل دلالة صريحة علي الخبر الذي استدل بها عليه .
وقوله تعالي :
( هن أم الكتاب )
قدم وصف هذه المحكمات وبيان حالها ليتبادر إلي الذهن أول ما يتبادر : أنه يرد المتشابهات إلي المحكمات لأنها أم ، وأم الشئ مرجعه وأصله ، كما قال تعالي : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) " الرعد - ٣٩ " أي المرجع وهو اللوح المحفوظ الذي ترجع الكتابات كلها إليه ، ومنه سميت الفاتحة أم الكتاب ، لأن مرجع القرآن إليها ، فهذه المحكمات يجب أن ترد إليها المتشابهات .. وينقسم الناس بالنسبة إلي هذه المتشابهات إلي قسمين :
١ - قسم يتبعون المتشابه ويضعونه أمام الناس ويعرضونه عليهم فيقولون كيف كذا وكيف كذا ؟ .
٢ - وقسم آخر يقولون : آمنا به كل من عند ربنا ، فإذا كان من عند ربنا فلا يمكن أن يتناقض ، ولا يمكن أن يتخالف ، بل هو متحد متفق ، فيرد المتشابه منه إلي المحكم ، ويكون كله محكما .
وقوله تعالي :
( ... الذين في قلوبهم زيغ .. )
الزيغ : الميل ، من قولهم : زاغت الشمس إذا مالت عن كبد السماء ( أي وسطها ) .. أي في قلوبهم ميل عن الحق ، فهم لا يريدون الحق ، وإنما يتبعون المتشابه ، فتجدهم - والعياذ بالله - يأخذون آيات القرآن التي فيها اشتباه حتي يضربوا بعضها ببعض وما أكثر هؤلاء ، ليصدوا عن سبيل الله ويشككوا في كلام الله عز وجل ، وأما الراسخون في العلم ، الذين لديهم من العلم ما يمكنهم من الجمع بين الآيات المتشابهة ، وأن يعرفوا معناها .. فيقولون : ( آمنا به كل من عند ربنا ) ، فلا يرون في القرآن شيئا متعارضا متناقضا .. بعكس أهل البدع من الفرق الضالة ، الذين يتبعون ما تشابه لهذين الفرضين أحدهما أو كلاهما :
١ - ( ابتغاء الفتنة ) أي : صد الناس عن دين الله ، لأن الفتنة بمعني الصد عن دين الله .. كما قال تعالي : ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) " البروج - ١٠ " فتنوهم : يعني صدوهم عن سبيل الله .
٢ - ( وابتغاء تأويله ) أي : طلب تأويله لما يريدون ، فهم يفسرونه علي مرادهم لا علي مراد الله .
قال ( أبو بكر الأنباري ) : ( وقد كان الأئمة من السلف ؛ يعاقبون من يسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن لأن السائل إن كان يبغي بسؤاله تخليد البدعة وإثارة الفتنة فهو حقيق بالنكير وأعظم التعزير ، وإن لم يكن مقصده ذلك فقد استحق العتب بما أجرم من الذنب ، إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلا إلي أن يقصدوا ضعفة المسلمين بالتشكيك والتضليل في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل وحقائق التأويل .. ) .
وقال ( القرطبي ) وهو ينقل كلام ( أبي بكر الأنباري ) : ( فمن ذلك ما ذكر عن ( سليمان بن يسار ) أن ( صبيغ بن عسل ) قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء ، فبلغ ( عمر ) - رضي الله عنه - فبعث إليه ( عمر ) فأحضره وقد أعد له عراجين النخل ، فلما حضر قال له ( عمر ) : من أنت ؟ قال : أنا عبد الله ( صبيغ ) ، فقال ( عمر ) رضي الله عنه : وأنا عبد الله ( عمر ) ، فقام اليه فضرب رأسه بعرجون فشجه ، ثم تابع ضربه حتي سال دمه علي وجهه ، فقال : حسبك يا أمير المؤمنين ، فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي ، ثم إن الله تعالي ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فتاب وحسنت توبته .. وقد ذكر ( القرطبي ) قصة ( صبيغ بن عسل ) في تفسير سورتي ( البقرة ) و ( الذاريات ) .