الرمـْــل
وعالمه المتسع في الصحراوات والغيبيات والعشق القديم

ظل عنترة بن شداد يواجه المصاعب بين صليل السيوف وصهيل الجياد ، لثير في الوجدان سحب الرمل الجيّاش بالعواطف ، وكانت عبلة بنت عمه مالك ، تذوب ( على اتساع رمل الفروسية ) انتظارا للإنتصار والتحرر، واستمرت شاشة سينما بلدتنا تتسع ليصبح للصحراء المعنى الواسع للغرام .
وهذا ما لا تدكه حوائط قريتنا تحت ظلال الشجر ، وعلى ضفاف الجداول والمستنقعات ، فاضطررنا نحن العشاق المبكرين أن نخترق الحقول غربا بحثا عن الصحؤاء ، هذه الساحة المتسعة التي لا يمكن لعبلة أن تعيش بعيدا عنها .
ومع تعاقب العصور ، ظهر امرؤ القيس ( خارج أفلام السينما ) ، وقد استبد به الشجن مخترقا الآكام والتلال وكثبان الرمل ، بلتمس المعونة من القبائل في الثأر لأبيه .
وأثناء عملي في مشروع السد العالي بمصر ، في عمق الصحراء الغربية ، حيث قامت الكركات والبلدوزرات ، أنواع الطفلة والكاولينا والطفلة الطينية المكمورة من تحت طبقات الرمل لتصبح نواة للسد العالي ..
هناك اكتشفت وأحسست بهذه الآفاق الممتدة حتى تلامس الغيوم الرملية غربا ، أو المنحدرة شرقا كي تشرق خضرة الوادي ، فوق التيار المتلأليء لبحر النيل ..
والرمْل ( مع تسكين الميم )
هو فتات أو تراب الصخر ، وهذا المعنى القاموسي يجعل الصخر أساسا للرمل ، مع أن مشهد الرمال في الصحراء يجعلك تعتقد ، أنها تحت ظروف قاسية قد تصخّرتْ .
والفعل رمَلَ ( مفتوح الميم ) يعني هرول ، ورمَلَ النسيج ..أي رققه ، أهل العرائس ( يرمّلون الأسرّة ) ( جمع سرير ) ، أي يزينونها بما يضفي البهجة على العروسين ، ولا يكاد الفعل الثلاثي ( رمل ) يصبح رباعيا ( أرمل ) حتى يدخل المعنى في كارثة الإحتجاج أو الإفتقار أو نضوب الزاد ، ثم فقدان القرين أي الزوج أو الزوجة ، وعند تشديد الميم أي ( رمّلَ ) ..يدخل الفعل على الطبيخ فيفسده ، وعلى الثوب فيلطخه بالدم ، وعلى الكلام فيزيفه ، ومع ذلك فإن هذا الترمل أو الإرتمال ، إذا دخل على خط الكاتب يصبح القصد رش الرمل على كتابته ليشرب فضلة الحبر , وذلك أيام التدوين والتسجيل بالحبر الزفر الذي لم تشهده الأجيال الجديدة .
لكن ( الرملة ) سوف تظل تلك المدينة العربية ( شرقي القدس ) التي عاشت تاريخا مريرا طوال حياتها .
والرمل على اتساعه المذهل خلال هذه الآفاق الصحراوية في العالم كله ، ( دون التدقيق في صحراء الأسكيمو المتجمدة شمالا ) ، لا يلبث أن يتسلل إلى بحور الشعر ليكون بحر الرمل أحد أكثر بحور الشعر سهولة وشيوعا في العصر الحديث ، والذي لا يمعن كثيرا في الدقة الفنية الموروثة ، أو البعد المقصود أو التلقائي ، عن بحور أخرى ليس فيها إيقاع الرمل ( فاعلاتن فاعلاتن فاعلن ) ببساطته الواضحة .
وهي البساطة ذاتها التي تمارس بها ( الرمّالة أو الرمّال ) الإمعان في رقعة الرمل لتبحث عما يخفيه الغيب لك ..!! وهو نوع من الغيبيات التي لازمتنا دهورا ، وفي مقابلها يكون (ضرب الودع ) مع وشوشة الذكر الذي يكون أكبر الودعات التي ستودعها سؤالك وحيرتك ..!!
وهي أنشطة لها وقعها في القلوب والعقول ، برع فيها دون شك قبائل الرحّل في كل الصحرارات ( والغجر منهم خصوصا ) ،
وفي مرة التقيت ومعي صديق ( عمل فترة عميدا لإحدى الكليات الهندسية ) غجرية تضرب الرمل في أشهر حدائق القاهرة بضاحية حلوان ( الحديقة اليابانية ) والتي تيعد أكثر من ثلاثمائة كيلومترا عن قريتنا ، وهالنا أنها ظلت تمعن في رقعة الرمل ثم أصابها اضطراب أحال ملامح وجهها وخاصة عيناها ، إلى تكوين مرعب لا نراه إلا في الأفلام السينمائية ، ثم لم تلبث أن أعلنت أسماء أمي وإخوتي البنات الخمس ( لم تكن أسماؤهم معتادة ومألوفة ) ، مما زاد في اضطراب منطقة العلم في عقولنا ...!!
إلا أن الرمل يرق ويتلمس العذوبة حينما يصبح صفة لشقائق البطيخ الناضج ( البطيخة المرمّلة ) ، وألاعيب الأصدقاء حبنما تسوخ أقدامنا في حيلهم الرملية الخالية من الشرّ ، فإن خرجت الحيل عن الرمل أصبحت مكائد ومؤامرات يميل إليها السياسيون والموظفون وذوو الضمائر الشريرة ، الذين لا يميل الرمل أن الآفاق الممتدة لبصيرتهم ، فلا يستمتعون بالجهود التي بذلها عنترة عنترة بن شداد كي يتحرر من سطوة الرقّ ..

إضافة ( يوسف أبوسالم )
وكذلك لا يستمتعون بشجو ونشيج أحمد شوقي على لسان قيس في رائعته جبل التوباد وهو يتذكر ..

كم بنينا من حصاهـــا أربعـــا .....وانثنينــــا فمحونـا الأربعـــا
وخططنا في نقى الرمل فلـــم ......تحفظ الريح ولا الرمل وعى

على أن الرمل رافق معظم غزوات الرسول ( عليه السلام ) وارتوى بدماء شهداء المسلمين الأوائل ...وسيظل رمل الجزيرة العربية يشعر بالفخر والطهر إلى يوم الدين لأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وصاحبه أبوبكر الصديق طهراه بالمسيرة التاريخية الظافرة من مكة إلى المدينة فيما يعرف ( بالهجرة النبوية الشريفة ) ...
ولعل بلاد العرب ...من أكثر البلاد في العالم التي تحتوي على مساحات شاسعة من الرمال في صحاراها الممتدة ...التي تحتاج إلى جهود الأمة في تخضيرها وإحيائها ...


محمد مستجاب
كتاب نبش الغراب ( سلسلة كتاب العربي )
الصادر في 15 أكتوبر 2008- الجزء الثالث