النخلة

في التعريف بأمة العرب ، انصب اهتمام علماء التاريخ والإجتماع والجغرافيا ، على الدين واللغة والتقاليد ، دون الإنتباه الكافي للنخلة ، هذه السامقة الشامخة المتأودة مع النسيم والمقاومة للريح على شواطىء النيل ، ودجلة والفرات والعاصي ، وعلى سواحل البحرين والكويت وعمان حتى المغرب وموريتانيا ..( وفي الإحساء السعودية ) وهي أكبر واحة نخيل في العالم
( وحديثا في العقبة الأردنية ) ..
ولا يخلو بلد عربي من غابة لها أو أجمة أو عدة أفراد تتراقص بين الحقول وعمق الصحارى .
شهدت بكور العقل ، وتفاعل الأساطير مع الخرافات ، ومولد الأديان وحكمة السماء ، واجتياح الطوفان وظهور السجون والحدود والكتب والكتاتيب ، لترى العيال وقد جلسوا يتلقون العلوم على قفص من ( جريد ) ، وتحت سقيفة من ( الفلق ) المنشف من سيقانها .
ورغم تعدد الأنواع من عائلة النخيل في الهند وجنوب آسيا وأمريكا وإسبانيا وبعض مناطق وسط وجنوب أفريقيا ، إلا أن ( النخلة العربية ) متفردة في صفاتها وثمارها ..!!
وحتى وقت قريب لم يكن يخلو بيت ( كوخا كان أو قصرا ) ، من أثر في بنائه من أجزاء النخلة ، ولأمة العرب دراية في شق جذوعها لتصبح أفلاقا ( جمع فلق ) ، تعالج في الماء وتجفف فترات طويلة حتى تكتسب صلابة ومناعة ضد التسوس والحشرات لتصبح ركائز وسقوفا ...
ويعالج الجريد ليصبح سقفا قابلا للتحمل والضغوط ، لكن أمر ( الجريد ) دون أغصان بقية أشجار العالم ، تسلل من أحقاب إلى الأقفاص وألأسرة والكراسي والموائد ، وقرى الشواطىء الراقية الآن لا تزال تتعامل بشكل فني رقيق مع عناصر الجريد ، لخفته وقدرته على إذكاء نوع من التشكيل الفني البديع ، لكن ( السعف ) يتفرد وحده ليصبح صلبانا يحملها المحتفلون في أعياد الأقباط ، يومي أحد السعف وسبت النور استحضارا لموعظة محاولة صلب النبي عيسى بن مريم ( عليهما السلام ) ، تلك التي أجاءها المخاض إلى جذع النخلة ، والتي أكلت منها رطبا جنيّا ، كما جاء في القرآن الكريم .
والرطب الجني ذلك الذي لا مثيل لحلاوته وليونته وقدراته الشفائية ، يقودنا إلى الأتواع المتعددة من بلح النخل ...
اللين والخشن والأخضر والرطب والأصفر والأحمر واليابس والتمر والرملي والعجوة والأمهات والزغلول
هي الثمرة الوحيدة التي تتعدد بتعدد النخيل وتعدد مناطق زراعته ، على غير ما ألفنا من جميع النباتات التي قد لا يزيد تعدد أنواعها عن أربعة في أكثر الحالات كالبرتقال مثلا ...
ويحصي ابن البيطار وأبو زكريا ابن العوام وداود الإنطاكي في كتبهم عن النباتات والعلاج بالأطايب والثمار ، ما قد يصل إلى ثلاثمائة نوع من بلح النخيل ، ومع ذلك فإن النخلة تستعصي على التطعيم أو التلقيح مزجا بينها وبين أي نبات آخر كما حدث في البرتقال ، ولذا فإن النخلة تظل شجرة أمينة مخلصة ، لا تمنح نفسها إلا لذكر النخيل ، وتجد ذكر النخيل واقفا وسط إناث النخيل شامخا غليظ الرقبة ، وكأنه ديك وسط الدجاجات .
وفي الحالات التي تشاء الظروف فيها أن يبقى الذكر وحيدا دون إناثه ، فإنه لا يلبث أن يضطرب ويحتقن ويتجهم ويصبح وكرا للثعابين والزنابير والغربان الضالة .....!!
وهو ما يصف به الناس فاقد التواصل مع الغير ، ( يعيش قلقا ويموت فلقا ) .
وأصحاب المأثور من الطب العربي يعتبرون البلح غذاء له قدرته على تقوية جهاز المناعة ضد الأمراض ، وخصوصا إذا ما تم تناوله مع اللبن ، ويؤثر المسلمون عادة أن يفتتحوا صوم إفطار رمضان ، بتناول البلح أو التمر ، خالصا أو مخلوطا بالأشربة ، ولا يزال كثيرون يعتبرونه خير زاد للسفر ، وللذهاب للمدارس ، وخير مفتتح لتكريم الضيف .
لكن المثلبة الكبرى للنخلة كانت في هذه الوقائع المؤلمة التي ربط فيها الجبابرة الفقراء والمناوئين لهم في جذوع النخل وسقوهم الويل حتى الهلاك .
حدث هذا في عصر الوليد بن عبد الملك والحجاج بن يوسف الثقفي ، وفي عصور المماليك والمداهمين ومحطمي الأوطان وذوي القدرة على الإجتياح قديما وحديثا ، حتى أن قاذفات اللهب وحاملات الصواريخ لم توقفهم عن ولعهم بهذا الفعل .
لكن النخيل سوف يظل نخيلا ، فيه كثير من صفات هذه الأمة التاريخية ، يمتزج بأخلاقها ، وبأغنيها وفولوكلورها ، وبقدرتها على الصمود والإستمرار ....


محمد مستجاب
كتاب نبش الغراب ( سلسلة كتاب العربي )
الصادر في 15 أكتوبر 2008 _ الجزء الثالث