أحكام قراقوش
بين
الحقيقة والخيال
بقلمكلما سمعنا عن حكم جائر ، أرعن رجل مستبد ، أو عن قرار مستهجن ، أو عن موضوع يدعو إلى سخرية .. تبادر إلى أذهاننا كلمة ( هـذا حكم قراقوش ) .
أ.د: بكري شيخ أمين
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو اللجنة التأسيسية العالمية للغة العربية
فمن هو قراقوش
وما قصة هذا الرجل ، وما سبب هذا المثل الشائع بين الناس من يوم ولد المَثَـل إلى أن تقوم الساعة ؟
معنى قراقوش : في اللغة التركية ( النسر الأسود ) .
تقول كتب التراجم : هو قراقوش بن عبد الله الأسدي ، أبو سعيد بهاء الدين .
كان أحد العلماء في مصر ، وأحد السياسيين المحنكين ، ورجل الدولة الذي يعتمد عليه في الملمات ، بل كان أكبر أركان دولة صلاح الدين الأيوبية .
كان مملوك صلاح الدين الأيوبي في مصر ، ونشأ في خدمته . ولما استولى على " عكا " من الفرنجة ولاه عليها ، ثم لما عادوا واستولوا عليها ، أسروه ، افتداه السلطان صلاح الدين منهم بعشرة آلاف دينار ، وفرح به فرحاً عظيماً .
ولاه صلاح الدين الإشراف على قصر الخلافة الذي كان يسكنه الخلفاء الفاطميون بمصر ، فنظر قراقوش فإذا فيه التحف والكنوز والنفائس ما لا يحصيه عد .. وفيه من الجواهر والحلي النادرة والكؤوس والبسط المنسوجة بخيوط الذهب ما لا مثيل له في الدنيا .. هذا فضلاً عن العرش الذي كان من أرطال الذهب .. ومن نوادر اليواقيت والجواهر .. ومن الصنعة العجيبة ما لا يقوم بثمن .
وكان في القصر فوق ذلك من ألوان الجمال المئات والمئات من الجواري المنحدرات من أمم الأرض ما يفتن العابد ..
لم يفتتن قراقوش بالمال ، ولا بالجمال .. فلا أغراه المال ، ولا أغواه الجمال .. ووفى الأمانة حقها ، ولم يأخذ لنفسه شيئاً ، ولم يدع أحداً يأخذ منها شيئاً .
******
يقول ابن خلكان : لما استقل صلاح الدين بالديار المصرية ، جعل قراقوش المفوض على قصره ، ثم ناب عنه مدة بالديار المصرية ، وأوكل أمورها إليه ، واعتمد في تدبير أحوالها عليه ..
ويضيف ابن خلكان وصفه لقراقوش :
كان رجلاً مسعوداً ، وصاحب همة عالية ، وهو الذي بنى السور المحيط بالقاهرة ومصر وما بينهما ، وبنى قلعة الجبل ـ المعروفة اليوم بقلعة صلاح الدين ـ وبنى القناطر على طريق الأهرام ـ وتعرف اليوم بالقناطر الخيرية ـ .. وكان حسن المقاصد ، جميل النية .. وانتهى إلى القول : وكان له حقوق كثيرة على السلطان ، وعلى الإسلام والمسلمين .
وتابع ابن خلكان حديثه فقال :
والناس ينسبون إليه أحكاماً عجيبة في ولايته ، حتى إن الأسعد بن مَمّـاتي له جزء لطيف سماه ( الفاشوش في أحكام قراقوش ) وفيه أشياء يبعد وقوع مثلها منه ، والظاهر أنها موضوعة .
توفي بهاء الدين قراقوش سنة 597 هجرية الموافقة سنة 1201ميلادية
******
أما الأسعد بن مَمّاتي :
فالذي جاء في كتب التراجم : هو أبو المكارم أسعد بن الخطير أبي سعيد المهذب بن مينا بن مَمّـاتي . أصله من نصارى أسيوط .. قدم أبوه ـ المهذب ـ مع أسرته مصر ، وأحسنوا خدمة الدولة ، فولوا الإمارات .
كان المهذب ـ والد اسعد ـ يلقب بالخطير ، وكان كاتب ديوان الجيش بمصر أواخر أيام الفاطميين وأول أيام بني أيوب .. فقصده الكتاب ، وجعلوا له حديثاً عند السلطان ، فَهَمَّ به صلاح الدين يوسف بن أيوب ، أو أسد الدين شيركوه ، وهو يومئذ المستولي على الديار المصرية ، فخاف المهذب ، فجمع أولاده ، ودخل على السلطان ، وأسلموا على يديه ، فقبلهم ، وأحسن إليهم ، وزاد في ولاياتهم وجبَّ الإسلام ما قبله .
فلما مات المهذب خلفه ابنه أسعد على ديوان الجيش ، وظل فيه مدة طويلة ، ثم أضيفت إليه في أيام صلاح الدين وابنه العزيز ديوان المال ، وهو أجلُّ ديوان من دواوين مصر . وكان له نفوذ واسع ، كأنه المستولي والمسيطر على الديار المصرية .
وفيه فضائل ، وله مصنفات عدة ، ومنها ديوان شعر ، وكتاب قوانين الدواوين ، وكتاب الفاشوش في أحكام قراقوش .
وحين جاء جلال الدين السيوطي واطلع على كتابات ابن المهذب يقال : إنه ألف كتاباً على شاكلته ، وأعطاه العنوان نفسه .
ثم جاء مؤلف مجهول ، لم يذكر التاريخ لنا اسمه ، فصنف كتاباً سماه : ( الطراز المنقوش في أحكام قراقوش ) .. وما زال نهر الحياة يتدفق حاملاً النماذج تلو النماذج من البدائع القراقوشية بمختلف ألوانها .
ويذكر المؤرخون أن قراقوش وابن المهذب ظلا مكرمين في عهد صلاح الدين وابنه الملك العزيز عماد الدين . فلما توفي العزيز كان له ابن صغير السن ، فأوصى قبيل وفاته أن يكون المشرف عليه ووصيه ومساعده في شؤون الحكم بهاء الدين قراقوش .
غير أن هذه الوصية لم تصادف هوى من ابن المهذب ومن كبار الجند الطامعين ، وإذ ذاك استدعوا الملك العادل .. وكان ابن المهذب ممن اشتركوا في استدعائه .
ولم يمض زمن إلا وانقض الملك العادل على أولاد أخيه صلاح الدين ، واغتصب منهم السلطة في مصر ومعظم سورية . وراح ينكل بكل من كان يتعاون مع صلاح الدين وابنه العزيز عماد الدين .. فكان من جملتهم ابن المهذب ، وكيلت له التهم ، فلم يقو على ردها .. وعندئذ لبث في ذل ، ينتظر أول فرصة سانحة للهرب من مصر ، ولما جاءت انطلق يعدو متخفياً في البراري وبين القبور ، حتى وصل حلب متشرداً ، وقد ذاق الأمرين ، ولاذ بالسلطان الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين فأكرمه ، ومات بحلب سنة 606 للهجرة والموافقة سنة 1209للميلاد .
******
كيف نشأت أحكام قراقوش ، وما أسبابها ؟
للجواب عن ذلك خاض عدد من العلماء .
فعبد الكريم اليافي
يبرئ قراقوش من كل جريرة ، ويبرزه بصورة الرجل اليقظ الذي يسهر على أموال الأمة ليصونها ويمنع عنها الابتزاز . كما يتهم ابن المهذب برغبته في تلاعب أموال الأمة ، وطموحه في الإشراف عليها ليسرقها ، فمنعه قراقوش ، ووقف في وجهه فكتب ما كتب .
والمستشرق كازانوفا
يرى أن ابن المهذب قصد أن يهز ثقة صلاح الدين ثم ابنه العزيز بقراقوش ، كما قصد أن يثير سخط الشعب على الدولة الأيوبية الجديدة ذات المذهب السني ، والتي قامت على أنقاض المذهب الفاطمي .. ومثل هذه الآراء لا تثبت أمام أي دليل .
وكامل الزهيري
يقر بشخصية قراقوش المستبدة ، ويعلل هذا الاستبداد برغبته في توطيد دعائم دولة الأيوبيين ، وسحق كل من حاول استعادة مجد الدولة الفاطمية .وصدف أن ابن المهذب كان حانقاً على قراقوش من وجهة نظر مذهبية ـ كما زعم كازانوفا ـ .
وعبد الغني العطري
لم يزد على وصف قراقوش بالحاكم الطاغية المستبد ، والمكروه من الناس ، وأن ابن المهذب أماط اللثام عن صفات قراقوش ، وسجلها في كتابه .
والخلاصة :
كان الحنق والغيرة والحسد تملأ قلب ابن المهذب ، وكان قراقوش في الوقت ذاته حاكماً قاسي القلب ، أميناً على أموال الدولة ، مخلصاً للدولة الأيوبية .. ولربما سعى إلى تحديد صلاحيات خصمه اللدود ابن المهذب ، فكان ما كان .
يدل على صحة هذا الاستنتاج قــول ابن المهذب في مقدمة كتابه ( الفافوش في أحكام قراقوش ) :
" ... إنني لما رأيت عقل قراقوش محزمة فاشوش ، قد أتلف الأمة ، والله يكشف عنهم الغمة ، لا يقتدي بعالم ، ولا يعرف المظلوم من الظالم .. صنعت هذا الكتاب لصلاح الدين عسى أن يريح منه المسلمين " .
******
وبعد :
فلئن جارينا ابن المهذب في ادعائه ..إن التاريخ لا يسعفنا ، ولا يسعفه على ذلك .
فأحكام قضائية تتسم بالمخازي ، والظلم ، والغباء ... منسوبة إلى أكبر رأس في الدولة .. يتناقلها الناس في مجالسهم ، ويسخرون من نائب صلاح الدين ووكيله على مصر .. ذلك الرجل الذي بنى الخوالد لمصر ، والباقية إلى يومنا هذا ، والتي يفتخر بها كل مصري وعربي .. فليس من المعقول ، بل ليس من الممكن أن تمر مرور السحاب دون أن يأبه بها السلطان ، أو نائبه قراقوش .
من هذه الأحكام ـ على سبيل المثال ـ أن فلاحي مصر شكوا إليه برداً أصاب القطن ، والتمسوا من قراقوش أن يعفيهم من الضريبة في ذلك العام . فأبى أن يعفيهم ، لأن القطن إنما أصيب من البرد لإهمالهم وقلة درايتهم ، ولو زرعوا معه صوفاً لما أصابه التلف من برد الشتاء .
ومنها : أن شاعراً وقف أمامه وبدأ يمدحه ، فلما انتهى من قصيدته قال له : يا مقرئ ! قرأت قراءة طيبة .
ومنها : أن غلاماً لقراقوش قتل نفساً ، فحكم عليه قراقوش بالقتل . ثم شفع به الشفعاء ، وقالوا : إنه بيطار ، ينعل لك الفرس ، ويخدمك ، فإن شنقته لم تجد غيره . فنظر قراقوش ناحية الباب ، فوقعت عينه على صانع أقفاص ، فقال : هذا القفاص لا حاجة لنا به ، اشنقوه مكان البيطار .
ومثل ذلك كثير .. والرجل بريء منها جميعاً كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب .
******
إنا نؤمن أن قراقوش كان يدرك أن الدولة الأيوبية تعاني من خطرين كبيرين :
خطر خارجي ممثل بالفرنجة المتربصين بمصر والبلاد العربية كلها
وخطر داخلي هو بقايا الانقلاب المذهبي الذي قام به صلاح الدين ونقل مصر من مذهب إلى مذهب آخر .
ونعتقد أن السلطان وابنه العزيز لم يأبها بكلام ابن المهذب ، ولم يتغير رأيهما في قراقوش ، وتركا أمين خزينة الدولة على منصبه .. ولم يحركا ساكناً معه أو ضده .
******
ولادة ( خيال الظل ) :
في هذا الجو المضطرب سياسياً ، والمتلألئ فكرياً وأدبياً من شعرٍ ونثر ، وروائع قصائد خالدات في انتصارات صلاح الدين وأولاده على الفرنجة .. ولد أدب عالمي جديد .. أدب ساخر .. وهــو ما عرف باسم ( خيال الظل ) أو بما عرف بـ ( الأراكــوز ) .
وهو يمثـل حكايات متخيلة على لسان ( الأراكوز ) وكلها تحكي عن الحاكم الطاغي ، أو القاضي الأحمق ، السفيه ، ذي الرأي المأفون .
******
لقد أصبح في التاريخ والأدب قراقوشان :
قراقوش المجاهد العظيم ، والقائد العسكري المميز ، والوزير الصالح ، والوكيل الأمين ، والمربي المخلص ..
ولكن وا أسفاه ! لقد انطوى ذكره في طيات كتب التاريخ ، ونسي الناس ذكره ، ونسوا أخباره وأمجاده .
وقراقوش المضحك ، والظالم ، والمتسلط ، والمشهور بالبلاهة والسفاهة وقلة العقل والضمير ..
وساد هذا القراقوش ، وأصبح بطل روايات ، وكتب أدب ، وعالم فسيح من مسرحيات ومضحكات .
لقد غدا ( قراقوش ) في الأدب رمـزاً لكل حاكم ظالم مستبد ... كما هو الحال في رمز ( أوديب ) و ( عنترة ) و ( روميو وجولييت ) و( قيس وليلى ) و ( هاملت) و ( أشعب ) ..
وكلهم من الأدب العالمي الذي يدرس في المدارس والمعاهد والجامعات . .
حلب المحروسة
8/3/1429هـ
16/3/2008م
بكري شيخ أمين
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة يوسف أبوسالم
