السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

(( ابن زيدون ))
الأمير الشاعر

ابن زيدون :

نبذة عنه :
هو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي آخر شعراء بني مخزوم ، ولد بالرصافة من ضواحي قرطبة - وهي الضاحية التي أنشأها (( عبد الرحمن الداخل ))- وكان بيته بيت شرف وفقه وأدب في زمن الدولة العامرية عام 394هـ 1003 م، أبوه فقيه من بني مخزوم القرشية ، وجده لأمه صاحب الأحكام الوزير أبو بكر محمد ،وهو من بيت حسب ونسب كان والده ذا جاه عريض ومال وضياع .. وله المشورة المحترمة في قرطبة .

وتولى جده لأمه القضاء بمدينة سالم ثم أحكام الشرطة والسوق في قرطبة نشأ في مدينة الرصافة بالأندلس وتعلم علومه الأولى بها ومات والده وهو فتى صغير فكفله جده وتولى تربيته وأكمل تعليمه في قرطبة ...

نظم الشعر وهو في العشرين من عمره وكان موت القاضي الفقيه ابن ذكوان أثر كبير عند ابن زيدون حيث رثاه بقصيدة على قبره فذاع صيته واشتهر .
وكانت حياته السياسية مضطربة فقد اشترك فعلياً بالفتنة التي وقعت في قرطبة وكان من زعمائها ..

وكان يشايع ابن جهور ويؤيده في سياسته مما جعله وزيرا عند ابن جهور ، وقد تولى الوزارة عام 422 وعمره ثمانية وعشرين عاما فقط..

مكانته ومناصبه :
كان ابن زيدون من الصفوة المرموقة من شباب قرطبة ؛ ومن ثم كان من الطبيعيّ أن يشارك في مسير الأحداث التي تمر بها .وقد ساهم بدور رئيسي في إلغاء الخلافة الأموية بقرطبة ، كما شارك في تأسيس حكومة جمهورية بزعامة (( ابن جهور )) وإن كان لم يشارك في ذلك بالسيف والقتال وإنما كان له دور رئيسي في توجيه السياسة وتحريك الجماهير وذلك باعتباره شاعراً معروفاً ذائع الصيت ، وأحد أعلام (( قرطبة )) ومن أبرز أدبائها المعروفين ، فسخر جاهه وثراءه وبيانه في توجيه الرأي العام وتحريك الناس نحو الواجهة التي يريدها .
وحظي ابن زيدون بمنصب الوزارة في دولة (( ابن جهور )) واعتمد عليه الحاكم الجديد في السفارة بينه وبين الملوك المجاورين ، إلا أن (( ابن زيدون )) لم يقنع بأن يكون ظلاً للحاكم .
واستغل أعداء الشاعر هذا الغرور منه فأوغروا عليه صدر صديقه القديم ، ونجحوا في الوقيعة بينهما ، حتى انتهت العلاقة بين الشاعر والأمير إلى مصيرها المحتوم .

ثقافته وعلمه :

ومما لا شك فيهأن ابن زيدون تلقى ثقافته الواسعة وحصيلته اللغوية الكبيرة على عدد كبير من علماءعصره وأعلام الفكر والأدب في الأندلس في مقدمتهم أبوه وجده ومنهم كذلك أبو بكر مسلم بن أحمد بن أفلح النحوي المتوفى سنة 433هـ - 1042م .

كما اتصل ابن زيدون بكثير منأعلام عصره وأدبائه المشاهير فتوطدت علاقته في سن مبكرة بأبي الوليد بن جهور الذي كان قد ولي العهد ثم صار حاكماً وتوثقت علاقته كذلك بأبي بكر بن ذكوان الذي ولي منصب الوزارة وعرف بالعلم والعفة والفضل ثم تولى القضاء بقربه فكان مثالاً للحزم والعدل فأظهر الحق ونصر المظلوم وردع الظالم .


غزلياته :
يحتل شعر الغزل عند ابن زيدون نحو ثلث ديوانه وهو في قصائد المدح يبدأ بمقدمات غزلية دقيقة ، ويتميز غزله بالعذوبة والرقة والعاطفة الجياشة القوية والمعاني المبتكرة والمشاعر الدافئة التي لا نكاد نجد لها مثيلاً عند غيره من الشعراء إلا المنقطعين للغزل وحده من أمثال (( عمر بن أبي ربيعة )) و (( جميل بن معمّر )) و (( العباس بن الأحنف )) ..
ومن عيون شعره في الغزل تلك القصيدة الرائعة الخالدة التي كتبها بع فراره من السجن بقرطبة إلى أشبيلية ولكن قلبه جذبه إلى محبوبته (( ولادة بنت المستكفي )) في قرطبة فأرسل لها تلك الدرّة الفريدة التي يقول في مطلعها :
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا ..... وناب عن طيب لقيانا تجافينا

*****

ولادةبنت المستكفي :
وقفت قرطبة كلها خاشعة ترنو مبهورة إلى الأميرة)) ولادة )) إذ تظهر في قصر الخلافة لأول مرة .. بارعة الحسن ، ساحرة الطرف ، تخطف بسنا جلالها الأبصار .. وعجبوا كيف تكون هذه الأميرة هي بنت محمد بنعبد الله ، كيفلم تأخذ عن أبيها غباء عقله وضخامة جسمه وبلادة حسه ويصفه أبو حيان مؤرخ الأندلس((بأنه كان مجبولاً على الجهالة ، عاطلاً من كل خلّة تدل على فضيلة .. معروفاً بالتخلف والركاكة ، مشتهراً بالشرب والبطالة ، سقيم السر والعلانية أسيراً للشهوة... ))وفي بيت هذا الخليفة تربت ولادة ، وتدل أوصاف ابن زيدون لها على أنها كانت بيضاء البشرة ، ذات شعر أشقر وجمال فتان ..

وكانت تجمع إلى جمالها الفتان وثقافتها الواسعة ذكاءً وقاداً وروحاً فنيةً موهوبة وسرعة بديهة ورقة وعذوبة في الحديث تمتلك سامعها وهي تتحدث .
وكانت من الأدب والظرف وتنعيم السمع والطرف بحيث تختلس القلوب والألباب وقد اعتنى بها أبوها فأحضر لها المعلمين والمثقفين وبعد وفاة أبيها صار بيتها قبلة الأدباء والمثقفين فقد حولت مجلسها بقرطبة منتدى لأحرارالمصر وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر .
وقد حار المؤرخون في أمرها فبدت لهم حيناً ممتنعة بجلال نسبها وعزة جمالها وطهرها وحيناً آخر مبتذلة مستهترة سهلة الحجاب مجاهرة باللذات وهذا ابن بسام يقول : (( كانت في نساء أهل زمانها واحدة أقرانها حضور شاهد وحرارة أوابد وحسن منظر ومخبر وحلاوة مورد ومصدر وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر ، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها ويتهالك الشعراء والكتاب إلى حلاوة عشرتها إلى سهولة حجابها وكثرة منتابها (( ولم تكن تصنع ذلك بوقار بل كانت تخلطه بدل وعبث واستهتار ويصور ذلك ابن بسام فيقول : (( على أنها سمح الله لها وتغمد زللها أطرحت التحصيل وأوجدت إلى القول فيها السبيل بقلة مبالاتها ومجاهرتها بلذاتها ... )) فأغلب المصادر ذكرت أنها كانت مستهترة كأبيها وكذلك ذكرت المصادر تناقضاً في سلوكها بين عفتها ومجاهرتها بلذاتها .
ولكن فيما أعرف لم يفسر أحد سبب هذا التناقض في سلوكها أو يلمح إلى ذلك ..

و أذكر هنا أن القدماء ذكروها عفيفة طاهرة الثوب لم تفعل فاحشة فقد وجدت ولادة أن سيرة أبيها يستعر منها فعوضت ذلك في علمها وأدبها ، فكانت تحاول اثبات أنها لم ترث عن أبيها مجونه واستهتاره .


*****

علاقةابن زيدون بولادة :
كان ابن زيدون من الشعراء الذين يترددون على منتداها الأدبي وفي هذا المنتدى الأدبي توطدت أواصر الصداقة بينهما التي ما لبثت أنتحولت إلى قصة حب .

فقد أحبها ابن زيدون حباً ملك عليه حواسه وسيطر على جميع مشاعره وشغله حبها عن كل شيء وفجر هذا الحب في نفسه ينابيع من الشعور الفياض انسابت في قصائده الغرامية فجاءت من أروع ما صيغ في الحب .


ومرت الأيام وهما حبيبان لكن هذه الأيام لم تدم طويلاً فحدثت بينهما جفوة وانقطعا عن التلاقي فكتبت ولادة إليه :
ألا هل لنا من بعد هذا التفرق ............سبيل فيشكو ..كل صب بما لقي


فرد عليها :
لحا الله يوما لست فيه بملتقي .......محياك من أجل النوىوالتفرق

وانقطع الجفاء ورجعا إلى ما كانا عليه لكن الجفاء سرعان ما عاد إليهما ، فتمنعت عليه وأذاقته بعد نعيم فربها جحيم هجرها .

الجدير بذكره هنا أن ولادة كانت عندها عقدة نفسية تسمى ( السادية ) وهي تلذذ الشخص بتعذيب الآخرينوقال البعض أنها مصابة ( بالنرجسية ) وهي إعجاب المرء وافتتانه بنفسه لكن المصادر لم تؤكد ذلك .

المهم هنا أن ابن زيدون فهم عقدة السادية التي كانت عندها فكان يلاطفها ويدللها ويتمنى منها النظرة ويزعم أنه عبد حبها وأسير عشقها .

وكان الجفاء الأخير وتمنع ولادة عن ابن زيدون والذي لسنا ندري سبب هذا التمنع من ولادة إلا ما ساقه ابن بسام من أن ابن زيدون طلب من الجارية أن تعيد صوتاً غنته من دون أمر ولادة فظنته يغازل جاريتها واتهمته أنه أحبها حيث بعثت إليه تقول :
لو كنت تنصففي المودة بيننا ...........لم تهو جاريتي ولم تتخير
وتركت غصنا مثمرا بجماله .............وجنحت للغصن الذي لم يثمر
ولقد علمت بأنني بدر السما ..............لكن ولعتَ لشقوتي بالمشتري

فكان هذا الجفاء والقطيعة النهائية ولم تنفع كل وسائل ابن زيدون في استرضائها بل سمحت لحبيب آخر أن يدخل حياتها وهو ابن عبدوس ونشأت بينه وبين ابن زيدون عداوة كبيرة دفعت ابن زيدون لإنشاء رسالته الهزلية الشهيرة التي تعتبر أكبر مغنم ظفر به الأدب .
وراح ابن زيدون يتهم ولادة في وفائها وخلقها لكي لا ينال حبها سواه وظل يذكرها في أشعاره باستمرار حتى هجرها مضطراً .
على أن حب ابن زيدون لولادة خلق له أعداء كثر وتتابعت حياته بين فتن عليه عند ابن جهور ليسجنه ثم تقلبت به الأحداث وتنقل كثيراً حتى اقترب من المعتمد بن عباد فعاش سعيداً برهة من الزمن لكنه ظل يذكر ولادة على الدوام حتى توفي سنة 463 هـ بعيداً عن المدينة التي أحبها .

*****
يتبع ...