سلام الله عليكم
سؤال يتردد كثيراً هل كل كلمات القرآن الكريم هي عربية
وقد قال الله تعالى :" {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}

وكيف نفسر ورود كلمات رومية أو قبطية أو هندية أو فارسية
مثل سندس وطور واستبرق وقسطاس وما شابه

سأنقل لكم هنا كلاماً مفيداً موضحاً لذلك وقد نقلته من
كتاب البرهان في علوم القرآن
المؤلف : بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (المتوفى : 794هـ)




معرفة ما فيه من غير لغة العرب:


اعلم أن القرآن أنزله الله بلغة العرب فلا يجوز قراءته وتلاوته إلا بها لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} الآية يدل على أنه ليس فيه غير العربي لأن الله تعالى جعله معجزة شاهدة لنبيه عليه الصلاة والسلام ودلالة قاطعة لصدقه وليتحدى العرب العرباء به ويحاضر البلغاء والفصحاء

والشعراء بآياته فلو اشتمل على غير لغة العرب لم تكن له فائدة هذا مذهب الشافعي وهو قول جمهور العلماء منهم أبو عبيدة ومحمد بن جرير الطبري والقاضي أبو بكر بن الطيب في كتاب التقريب وأبو الحسين بن فارس اللغوي وغيرهم.


وقال الشافعي في الرس
الة في باب البيان الخامس ما نصه وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه لكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة له فقال قائل منهم إن في القرآن عربيا وأعجميا والقرآن يدل على أنه ليس في كتاب الله شيء إلا بلسان العرب ووجد قائل هذا القول من قبل ذلك منه تقليدا له وتركا للمسألة له عن حجته ومسألة غيره ممن خالفه وبالتقليد أغفل من أغفل منهم والله يغفر لنا ولهم هذا كلامه.

وقال أبو عبيدة فيما حكاه ابن فارس إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول ومن زعم أن كذا بالنبطية فقد أكبر القول قال:


ومعناه أتى بأمر عظيم وذلك أن القرآن لو كان فيه من غير لغة العرب شيء لتوهم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغات لا يعرفونها وفي ذلك ما فيه وإن كان كذلك فلا وجه لقول من يجيز القراءة في الصلاة بالفارسية لأنها ترجمة غير معجزة وإذا جاز ذلك لجازت الصلاة بكتب التفسير وهذا لا يقول به أحد انتهي

وممن نقل عنه جواز القراءة بالفارسية أبو حنيفة لكن صح رجوعه عن ذلك ومذهب ابن عباس وعكرمة وغيرهما أنه وقع في القرآن ما ليس من لغتهم

فمن ذلك الطور جبل بالسريانية وطفقا أي قصدا بالرومية والقسط والقسطاس العدل بالرومية: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} تبنا بالعبرانية والسجل الكتاب بالفارسية والرقيم اللوح بالرومية والمهل عكر الزيت بلسان أهل المغرب والسندس الرقيق من الستر بالهندية والإستبرق الغليظ بالفارسية بحذف القاف السري النهر الصغير باليونانية طه أي طأ يا رجل بالعبرانية يصهر أي ينضج بلسان أهل المغرب سينين الحسن بالنبطية المشكاة الكوة بالحبشية وقيل الزجاجة تسرج الدري المضيء بالحبشية الأليم المؤلم بالعبرانية:

{نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أي نضجه بلسان أهل المغرب: {الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} أي الأولى بالقبطية والقبط يسمون الآخرة الأولى والأولى الآخرة: {وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} أي أمامهم


بالقبطية اليم البحر بالقبطية بطائنها ظواهرها بالقبطية الأب الحشيش بلغة أهل المغرب: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} قال ابن عباس نشأ بلغة الحبشة قام من الليل: {كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ضعفين بلغة الحبشة القسورة الأسد بلغة الحبشة


واختار الزمخشري أن التوراة والإنجيل أعجميان ورجح ذلك بقراءة الأنجيل بالفتح ثم اختلفوا فقال الطبري هذه الأمثلة المنسوبة إلى سائر اللغات إنما اتفق فيها أن تتوارد اللغات فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد وحكاه ابن فارس عن أبى عبيد


وقال ابن عطية بل كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لسائر الألسن بتجارات وبرحلتي قريش وبسفر مسافرين كسفر أبى عمرو إلى الشام وسفر عمر بن الخطاب وكسفر عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة

وكسفر الأعشى إلى الحيرة وصحبته لنصاراها مع كونه حجة في اللغة فعلقت العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية غيرت بعضها بالنقص من حروفها وجرت في تخفيف ثقل العجمة واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن فإن جهلها عربي فكجهله الصريح بما في لغة غيره وكما لم يعرف ابن عباس معنى فاطر إلى غير ذلك قال فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية لكن استعملتها العرب وعربتها فهي عربية بهذا الوجه


قال وما ذهب إليه الطبري من أن اللغتين اتفقتا في لفظه فذلك بعيد بل إحداهما أصل والأخرى فرع في الأكثر لأنا لا ندفع أيضا جواز الاتفاقات إلا قليلا شاذا

وقال القاضي أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك إنما وجدت هذه في كلام العرب لأنها أوسع اللغات وأكثرها ألفاظا ويجوز أن يكون العرب قد سبقها غيرهم إلى هذه الألفاظ وقد ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبعوث إلى كافة الخلق قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وحكى ابن فارس عن أبى عبيد القاسم بن سلام أنه حكى الخلاف في ذلك ونسب القول بوقوعه إلى الفقهاء والمنع إلى أهل العربية ثم قال أبو عبيد والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعا وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء إلا أنها سقطت إلى العرب فعربتها

بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب فمن قال إنها عربية فهو صادق ومن قال أعجمية فصادق قال وإنما فسر هذا لئلا يقدم أحد على الفقهاء فينسبهم إلى الجهل ويتوهم عليهم أنهم أقدموا على كتاب الله بغير ما أراده الله جل وعز فهم كانوا أعلم بالتأويل وأشد تعظيما للقرآن
قال ابن فارس وليس كل من خالف قائلا في مقالته ينسبه إلى الجهل فقد اختلف الصدر الأول في تأويل آي من القرآن

قال فالقول إذن ما قاله أبو عبيد وإن كان قوم من الأوائل قد ذهبوا إلى غيره.
انتهى