الحب والفردوس الأعلى
بقلمعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً سـأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، فقال : متى الساعة ؟ قال النبي : وماذا أعددت لها ؟ قال : لا شيء ، إلا أني أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال النبي : أنت مع من أحببت .
أ.د. بكري شيخ أمين
قال أنس : فما فرحنا بشيء فرَحَنا بقول النبي صلى الله عيه وسلم : أنت مَعَ مَن أحببت . قال أنس : فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر ، وأرجو أن أكـون معهم بحبي إياهم ، وإن لم أعمل عملهم .
رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وأحمد
حوارية ناعمـة لطيفة أوردها أئمة الحديث النبوي على لسان أنس خادم الرسـول الكريم وحبيبه . قال أنس : سأل رجل النبي عليه السلام عن الساعة ، أو كأنه استعجل القيامة ليعرف مصيره ، أو ليسارع في الطاعات إن كانت قريبة ، أو ليتراخى في نشـاطه إن كانت بعيدة ، أو لأمر ما في نفسه .
ومعرفة وقت قيام الساعة لا تقدم ولا تؤخـر لو قال له : ستقوم بعد ألف سنة ، أو بعد ألف قرن ، أو أقل ، أو أكثر .. فالله سبحانه وتعالى سيحاسبه في حدود عمله الذي عمله في دنياه ، ولن يزيد ، أو بنقص ، أو يُمحى ، بعُدت تلك المدة أو قرُبت .
الرائع في الجواب أن الرسول الكريم حوَّل سؤاله من معرفة زمن قيام الساعة إلى ما هو أهم وأجدى ، وهو : ماذا أعددت لها ؟ ومثل هذا التحويل يسميه علماء الذوق ـ الذين هم علماء البلاغة ـ أسلوب الحكيم .
ويستشهدون عليه بآيات من القرآن الكريم كقوله تعالى : ( يسألونك عن الأهلة . قل : هي مواقيت للناس والحج ) . فقد سأله بعض الناس فقال : ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط يتزايد قليلاً قليلاً حتى يستوي ويمتلئ ، ثم لا يزال ينقص وينقص حتى يعود كما بدأ ؟ فأجابه النبي الكريم منبهاً له ومعلماً بأنه أجدى من سؤاله وأهم وأنفع أن تعلم من الأهلة أوقات الطاعات .
وكقوله تعالى : ( يسألونك ماذا ينفقون ؟ قل : ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ) . فقد سألوا عن بيان ما ينفقون ، فأجيبوا ببيان المصارف التي يجب أن تصرف الصدقات إليها ، تنبيهاً على أن المهم هو السؤال عنها ، فالنفقة لا يعتد بها إلا إذا وقعت موقعها الصحيح . وكل شيء فيه خير فهو صـالح للنفقة .. فالمال صالح لأن ينفق منه ، والطعام ، والشراب ، والجـاه ، والعـون ، حتى مســاعدة الفارس على ركوب فرسه ، ومساعدة أولي الحاجــة إلى مساعدة ، حتى البسمة في وجـه الأخ ، أو الأخت ، أو الزوجة ، أو الولد .
إذن ليس المهم ماذا تنفق ، فهو كثير ومتنوع ، إنما الأهم معرفة المواطن التي يجب أن يكون الإنفاق فيها .
البقرة ، 189
البقرة ، 215
ونعود إلى السائل عن موعد قيام الساعة ، وجواب النبي عليه السلام ، وكيف حول سؤاله عما هو أهم من معرفة موعد قيامها ، ألا وهو : الإعـداد للساعة ، ومن ثَم ليـوم الحساب ؛ إذ قال له : وماذا أعددت لها ؟ والمفاجأة اللطيفة في قول الرجل : لا شيء . وهذه الـ ( لا شيء ) كلمة ناعمة ورقيقة ولطيفة وصادقة ، ويختفي وراءها إفلاس الرجل من كل عمل يبيض الوجه ، أو يرفـع الرأس ، أو يعـلي المقام ، أو يحجز موطئ قدم في الجنة . لا شيء عندي يا رسول الله أؤخره ليوم القيامة .
إلا أن المفاجأة الكبرى بعد قوله : ( لا شيء ) قول الرجل ـ وهو يحصـر إعداده ليوم القيامة ـ كان أعظم ما في الوجود .. أعددت حباً يا رسول الله ! أنا ما أعددت للقـاء الله شيئاً ، لا عمل ، ولا ذخيرة ، ولا ما يدخلني أعتاب الجنة ، إنَّما أعددت حبــك يارسول الله وكفى .
وهل في الوجود أغلى وأروع وأرفع وأعظم من حبك يا رسول الله ؟ لا شيء .. إلا أني أحب الله ورسوله .
وكأنه أراد أن يقول : لو وقفت بين يدي الله يوم الحساب ، ووضع الميزان أمامي ، فلسوف أضع في إحدى كفتيه إيماني بالله وحده والحب الصادق لرسوله فقط ، ولا شيء مع هذا الحب من عمل صالح أباهي بهما وأضعهما في الميزان ..
سأضع إيماني بوحدانيتك يا رب ، وحب محمد ، نبيك ، وحبيبك ، وحبيبي ، فهما كل زادي وعدتي .
أجل ! الحب ديني ، وشريعتي ، ورايتي .. الحب عيني ، وقلبي ، وحياتي ، به أعيش ، وعليه أموت ، وبه أواجه ربي .
يا رسول الله ! إني أحبك ، وأحب كل من يحبك .. وأحب من أرسـلك إلينا ، هذه هي بضاعتي ، ولا شيء غيرها .
وأحسب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم لهذا الجواب ، وبدت على وجهه أمارات السرور ، فقال للرجل : أنت مع من أحببت ؛ فكأنه قـال له : أنت ناجٍ يا أيـها الرجل ! ولسوف تكون في الجنة معي . بشرى لك ثم بشرى .. ستحشر مع من تحب ، وما دمت تحبني فلسوف تكون معي ، وحيث أنـي ـ بفضل الله ومشيئته ـ في الفردوس الأعلى فأنت ـ يا هذا المحـب ـ في الفردوس الأعلى . إن الحب خير شافع .
قال أنس : فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : أنت مع من أحببت . وجر أنس القرص أو اللحاف إلى طرفه ـ كما يقولون ـ فقال : إذن أنا في الجنة ، وأنا في الفردوس الأعلى ، أنا في صحبة حبيبي محمد حبيبي ، فأنا أحبه ، وزيادة على ذلك فإني أحب من يحب رسول الله صلى الل عليه وسلم ، وما دام يحبه أبو بكر ويحبه عمر ، فأرجو أن أكون معهم ، ولو أني لم أعمل مثل أعمالهم .
وتأمل بسيط في صياغة هذه الحوارية فسنجدها أجمل من صياغة الذهب ، وأحلى من أساور الألماس والياقوت والزمرد . فالحوارية سهلة وبسيطة ، حتى ليكاد يفهمها الكبير والصـغير ، والمثقف وغير المثقف ..
فصيحةٌ الكلمات ، ومختصرةٌ العبارات ، ورشيقٌ الحوار ، والصورة المجنحة تحمل الأمل إلى كل المحبين ، وتزيدهم استغراقاً وذوباناً بهذا الحبيب ، والبشرى تلف السائل والراوي وكل من قرأ هذا الحديث وتمتع به .
إن الأسلوب حين يبلغ هذا المستوى الرفيع يكون قد بلغ الذروة في الجمال والإبداع ، والتعبير الفني الرفيع .
ويكفيه فخراً واعتزازاً بانتسابه إلى أرفع أسلوب بديع ، وهو أسلوب محمد صلى الله عليه وسلم .
بكري شيخ أمين
عنواني بحلب
صندوق البريد : 13003 حلب ـ سورية
هاتف المكتب : 2124266 21 00963
هاتف المنزل : 2664752 21 00963
هاتف الجوال : 664752 94 00963
E.MAIL:SHEIKHA@SCS-NET.ORG