أحقا مات علي محمود طه؟!

بقلم: أحمد حسن الزيات
....................................

أحقا رفاق علي لن تروه بعد اليوم يُحيي المجالس بروحه اللطيف، ويؤنس الجلاس بوجهه المتهلل، ويدير على السُّمار أكؤساً من سلاف الأحاديث تبعث المسرَّة في النفوس، وتُحدث النشوة في المشاعر؟
أحقا عشاق علي لن تسمعوه بعد اليوم يُنشد القصائد الرقيقة ويُخرج الدواوين الأنيقة، ويصوِّر الحياة بألوان من الشعر والسحر والفتون، في إطار من الجمال والحب واللذة؟
أحقا أصدقاء علي لن تجدوه بعد اليوم يبذل من سعيه ليواسي، وينيل من جاهه ليُعين، ويجعل بيته سكناً لكل نفس لا تجد الدعة ولا الأنس، ومثابة لكل طائر لا يجد الروضة ولا العش؟
أحقا عبادَ الله سكت البلبل، وتحطَّم الجام، وتقوَّض المجلس، وانفض السامر، وتفرَّق الشمل، وأقفر الربيع، وأصبح علي طه الشاعر العامل الآمل أثراً وخبراً وذكرى؟
لقد حدَّثني في تليفون المستشفى يوم الأربعاء، فبشَّرني أنَّ قلبه انتظم، وجسمه صحَّ ووجهه شبا، وأن الأطباء سمحوا له بالرجوع إلى بيته، وأن استقباله في الدار سيعود، وأن مجلسه في (الأميريكين) سينعقد، وأنه سينتظرني يوم الجمعة في مكتبه ليقرأ عليَّ النشيد الأول من ملحمة "اليرموك" التي اقترحتُها عليه، وربما خرج معي بعد القراءة إلى نزهة هادئة في طريق الأهرام؛ ثم ختم عليَّ حديثه الطويل بضحكة حلوة فيها أمل، وعبارة فكهة فيها تفاؤل!
ولكنما كان بين يوم الأربعاء الذي حدثني فيه هذا الحديث، ويوم الجمعة الذي ضرب لي فيه هذا الموعد، يوم الخميس الذي سكن فيه قلبه الطيب فما ينبض بحياة ولا حب، وسكت لسانه الحلو فما ينطق بنثر ولا شعر: طلع صباحه الأسود المشؤوم على غرفة علي وهو يلبس ثيابه ويُداعب أصحابه، وينظر في الداخل فيرى طاقات الزهر تزين المنضدة، وفي الخارج فيرى ممرضات المستشفى يُجمِّلن الممشى، فيهفو الشاعر المعمود إلى أزاهره التي تنفح قلبه بالعطور، وإلى عرائسه التي تغمر قلبه بالشعور، فيخرج ليؤدي ما عليه من المال للمصحة، ومن الشكر للأطباء؛ حتى إذا أبرأ ذمته من حقوق الناس أدار فيمن حوله من أصدقائه وذوي قرباه نظرة فاترة حائرة، ثم أسبل عينيه وخر مغشيا عليه! فخفَّ إليه أساته الذين بشروه بالعافية ووعدوه بالسلامة، وأخذوا يقلِّبونه ويفحصونه فإذا الجسد الجيَّاش بالشباب والقوة هامد لا حراك به ولا حس فيه! وهكذا في مثل ارتداد الطرف ذهب من أرض الآدميين إنسان، وغاب من سماء العبقريين فنان.
والهف نفسي على أحبائه وقد مسَّهم ما مسّني من غصَّة الريق وحرقة الجوى حين نعاه إليهم الناعي! لقد كان كل معنى أقرب إلى علي في أذهانهم إلا معنى الموت، لذلك ظلوا متبلِّدين ساهمين، يُقلِّبون الأكف أسى وحسرة، ويُحرِّكون الألسن إنكاراً ودهشة!
لا يا بديع الزمان! ليس الموت كما زعمت خطباً صعب حتى هان، ولا ثوباً خشن حتى لان! إنما الموتُ نقيض الحياة وبغيضها من أزل الدهر إلى أبده، لا تقترب من مظنته، ولا تأنس بناحيته، ولا تسكن إلى ريحه، حتى يفجأها كالقضاء، ويدهمها كالوحش، ويختلها كاللص! وهل الدنيا كلها بمن فيها وما فيها إلا معركة لا تفتر بين البقاء والفناء والجِدَّة والبلى؟ أرحامٌ تدفع، وأجداثٌ تبلع، وهجوم فيه المرض والشهوة والأثرة، ودفاع فيه الطب والسياسة والخديعة، وصرْعى هذه المعركة الضروس لا ينفكُّون يتناثرون من بين شقي الرحى الهائلة أشلاء لا تُشبع جوف الأرض، ودماء لا تنقع غليل الثرى!
عرفت عليا منذ سبع وعشرين سنة على الضفاف الخضر من مدينة المنصورة، وكان منذ عرفته شاباً منضور الطلعة، مسجور العاطفة، مسحور المخيلة، لا يُبصر غير الجمال، ولا ينشد غير الحب، ولا يطلب غير اللذة، ولا يحسب الوجود إلا قصيدة من الغزل السماوي ينشدها الدهر ويرقص عليها الفلك!
كان كالفراشة الجميلة الهائمة في الحقول تحوم على الزهر، وترف على الماء، وتخفق على العشب، وتسقط على النور، لا تكاد تعرف لها بُغية غير السبوح، ولا لذة إلا التنقل. ثم تتبّعته بعد ذلك في أطواره وآثاره فإذا الفراشة الهائمة على أرباض المنصورة تُصبح (الملاح التائه) في خضم الحياة، و(الأرواح الشاردة) في آفاق الوجود، و(الأرواح والأشباح) في أطباق اللانهاية؛ وإذا الشاعر الناشئ يغدو الشاعر المحلِّق تارةً بجناح المَلَك، وتارةً بجناح الشيطان، يشق الغيب، ويقتحم الأثير، ويصل السماء بالأرض، ويجمع الملائكة والشياطين بالناس.
كان علي ـ واحسرتاه عليه! ـ من أصدق الأمثلة للشاعر الذي خلقته الطبيعة، والشاعر الذي تخلقه الطبيعة يكون في ذاته وفي معناه نشيداً من أناشيد الجمال، ولحناً من ألحان الحب؛ فيكون شاعراً في أخلاقه ومُثُله وأحلامه وهندامه وسلوكه، وفي نمط حياته وأسلوب تفكيره وطريقة عمله وطبيعة صداقته.
وأشهد لقد كان علي ـ برَّد الله ثراه ـ نسَقاً فريداً في الصفاء والوفاء والمروءة والمودَّة. كان لا يطوي صدره على ضغينة، ولا يُحرِّك لسانه بنقيصة، ولا يقبض يده عن معروف، ولا يعقد ضميره على غدر؛ فلم تدَع له هذه الصفات النادرة عدوا، لا في نفسه ولا في الناس، فعاش ـ ما عاش ـ وادِع البال في سلام الحب وأمان الصداقة.
قضى عليٌّ عمره بالعرض لا بالطول، وقدَّرَ عيْشه بالكيف لا بالكم، وجعل همَّه في الحاضر لا في المستقبل، ونظر إلى الشعر نظر البلبل إلى الشدو، فكان يصدر عنه بالطبيعة إعلاناً لوجود، وإبرازاً لنفس، وكمالاً لصورة، وجمالا لحياة! لذلك كان شعره تعبيراً صادقاً عن شعوره، وتصويراً ناطقاً لهواه، ونظاماً متسقاً مع خلقه وطبعه في الحرية والأصالة والوضوح والأناقة والسهولة والسلامة.
إن حياة علي محمود طه كانت أشبه بالطيف، خفق خفوق المَلَك على حواشي الروض ثم عبر، أو الحلم نعم به رائيه في إغفاءة الفجر ثم زال، أو حبَّات الندى تلألأت في وجه الصباح ثم ذهبت في متوع الضحى، أو قطرات المطر سطعت في نفح النسيم ثم تبدّدت في عصْفِ الريح. فالحزن على وفاته حزن على حبيب قضى، وخير مضى، ووفاء غاض، وفن ذهب. فإذا بكَيْنا فإنما تبكي علينا لا عليه، وإذا سألْنا الله العوض منه فإنما نسأله لنا لا له. وكل ما نملكه للفقيد العزيز أن ندعو الله أن يتغمده برحمته، وأن يُنزله منازل الأبرار في نعيم جنتِه.
........................................
*مجلة "الرسالة"، العدد (856)، في 7/2/1369هـ (28/11/1949م)، ص1641، 1642.