*برق في خريف*
.........................

عندما رآها مصادفةً على مدخل محطة مصر، رجعت إلى ذاكرته ثلاثون سنةً من الوجْدِ والانتظار. صاح في قلبه توق قديم إلى وجهها الأبيض الجميل الذي لم يُغيره الزمن:
ـ نادية حمدي؟! .. غير معقول!
أشرقت في عينيها ذكرى قديمة، أن تُخرج له مسرحيته الفصيحة «الثائر» في «بيت القاضي» بين الدور الأثرية المُغلقة، بعد تجاربها في إخراج مسرحيات أخرى بالعامية لنعمان عاشور، وسعد الدين وهبة.
صاح في ملامح صوتها حب قديم:‏
ـ محمود عماد؟!!
ما اضطربت ابنةُ الثالثة والخمسين، وهي تقول في جرأة حسدت نفسها عليها:‏
ـ ظللتُ أنتظرك عشرة أعوام .. فلماذا تأخرت عشرين سنة؟!‏
قال ابن الخامسة والخمسين في هدوء:
ـ بل افترقنا ثلاثين!
تقدّمت إلى شباك التذاكر ـ دون أن تسأله عن مقصده ـ وحجزت تذكرتين للإسكندرية!
.. وعندما لاذت به، وتلاشت المسافة بينهما، وجلسا بجوار بعضهما في القطار المتجه إلى الإسكندرية، كان يريد أن يصيح:‏
ـ غبتُ عنكِ ثلاثين سنة .. لأن المسرحية الفصيحة ـ التي لم تخرجيها أبداً ـ ضاعت مني في سيارة أجرة ..
ـ ياه!‏ .. أين؟
.. وبلع ريقه:
ـ في بور سعيد، حينما زرتُها في بداية الانفتاح السعيد!
أخلت للحيرة مكانا في ملامحها، فأضاف ضاحكاً:
ـ لعلي كنتُ أريد أن أُغيِّر نهاية مسرحية «الثائر» التي لم تعجبك.
.. لكن صوتها انبعث فجأة:
ـ ما كان يجب أن تبتعد عني .. انتظرتُك حتى مللتُ الانتظار!
تلاشت ملامح السعادة في وجهه، وترقرقت في عينيها دمعتان!‏
وقال كأنه يحدث نفسه:
ـ أضاعت مني بور سعيد «الثائر» إلى الأبد!!
***‏
أخرجتْ ديوان شعر.
أخذت تقرأ قصيدة حزينة بصوت تمثيلي يبهره كما كان قديماً!
تيقن أنها هي .. نادية حمدي!‏!
لم تشرق الشمس منذ الصباح.
أضاء برق مفاجئ ـ تكرر عدة مرات ـ الظلمة التي اكتنفت عربات القطار ساعة الغروب!
استرق نظرة إليها، ما بالها لم تشخ؟!
أخذ قلبه يدق، كما كان يدق كلما تذكّرها..‏
أغمض عينيه، وتذكر رحلاتهما في قاهرة أواخر الستينيّات وأوائل السبعينيّات، من حدائق الدرّاسة إلى حدائق الأورمان، ذكرياتهما السعيدة في حديقة الحيوان، رحلاتهما للمسارح في مساءات القاهرة المضاءة بلون أزرق عقب هزيمة يونيو الحزين، مظاهرات الطلبة في نهايات عبد الناصر وبدايات السادات، فرحتهما بانتصارات أكتوبر و«سينا يا سينا باسم الله .. باسم الله»، مشاركتهما في انتفاضة الخبز (التي كان يسميها السادات انتفاضة الحرامية)، أغاني الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، الشاي الأخضر، الحسين، .. المطار: يودعها وهي مسافرة إلى فرنسا في ندوة عن التجريب المسرحي، وهي تُداعبه في إلقاء تمثيلي فاردة ذراعيْها:
لكني مهما كنتُ أُحبك أعشقُ فني أكثرَ منكْ
فوداعاً يا ثغراً مهما افترّ لغيري ..
يذكرُ قبلاتي .. أو يتلو شعري
وسأسألُ نجمَ الغربةِ عنكْ
وسأسألُ ريحَ المرفأ عنكْ!
وهو يكملُ:
حتى إن عُدتِ وجدْتِ شبابكَ في صدْري(1)
الأتوبيس النهري، والسياحة الفقيرة ـ كما كانت تُسميها ـ إلى الأهرام، ومكتبة جامعة القاهرة، ومشاغبات الشحاذين لهما وهما يصعدان القلعة، وفرحتهما بليلة الرؤية، وليالي رمضان، وزياراتهما المتكررة لسور الأزبكية للتقليب في الكتب القديمة.
ها هو قد وجدها، ولن يدعها تُفلت منه!
...‏
غاب في عناق الماضي الذي كان وتذكُّر تفاصيله الصغيرة ..‏
أغمض عينيْه ..
.. حين وقف القطار في محطة الرمل..
أغلقت «نادية حمدي» ديوان الشعر .. وضعته في حنو ـ كأنه طفل صغير ـ في حقيبتها، وكانت فتاتان دون العشرين على الرصيف في انتظارها.
عانقت الفتاتين.
قالت في همس لمحمود عماد:
ـ ابنتاي سما .. ورنا ..
وابتعدن.
أشار لسيارة أجرة ..
ووجد نفسه ـ ثانيةً ـ وحيداً في شقته الواسعة!.‏.

الرياض 7/9/2002م
...........................................
(1) من قصيدة لمحمد الجيار.