-1-


القى الشيخ بجثته الثقيلة على سريره , وفي كل زاوية من جسمه مكان يَأن ومفاصله الروماتزمية المتهرئة لم تتوقف عن الصراخ من شدة الخشونة , تلحف بغطاء ثقيل بجانب زوجته ( ام عابد) وام اولاده الاربعة , حاول ان يقنع عينيه بالنوم ولكن ..لمْ ينمْ , أَفَلت أجفانُ أهلِ بيتهِ إلا هو , ظلَ سهراناً يناجي خلده التائه فيما رآه اليوم , يشعر بألمٍ في دواخله يفوق ألم مفاصله , أحست زوجته أم عابد بأن أسارير زوجها هذه الليلة ملبدةٌ بالغيوم , وهي توشك على الهطول تماماً كما كان جو تلك الليلة الشتوية , فخِبرتُها بالشيخ (عبد الكريم الفضائل) ثلاثين عاما كانَت صائِبة ولن تخطيء هذا اليوم , أرادتْ أن تستكشف سرَ هذا الشرود فنادته :


ام عابد – حجي شو مانمت ؟


الشيخ ( بصوته الأجش ) - لا استوني ارد اغفى بس وجع مفاصلي يا مرة يذبح النوم من عيني .


ام عابد – حجي... البارحة متحجم شبساع رجعت توجعك مفاصلك ؟


الشيخ – قابل اجذب عليج يا مرة ؟


ام عابد – لا حيشاك حجي من الجذب , بس اكَول صاير شي ؟؟ شو احسك مثل الزعلان ... اللي مامرتاح .


الشيخ (بتململ ) – ما صاير شي .


ام عابد – شنو زعلك واحد من الولد ؟


الشيخ – لا ولدي خوش ولد .. تربيتك محد يزعلني


ام عابد مقاطعة : حجي فدوة اروحلك ترة قلبي يحلف بيك شي وما تكول ..وجهك يكَول صاير شي ..حيرتني واني كَلبي الليلة مدري اشلونة ؟؟؟!!


وهنا ...قرر الشيخ ان يفتح بابه ويخبرها بما حصل , استوى على سريره و قال :" اليوم صار موقف وخلاني اخاف , اول مرة اسكت وما اجاوب .."


ام عابد – يا ساتر شكو شصاير حجي ؟؟ خوفتني ؟؟


الشيخ –ابو نورية ...تعرفينة ؟؟!!


ام عابد – ياهو تريد ؟؟ ابن شيخ عواد ؟؟ لو كريم ابو ليلة ؟؟؟


الشيخ – أي هو ..اي..هو كريم


ام عابد – حجي اكو واحد ما يعرف كريم فد واحد شراني سكير , ابو نورية ..من قال وبلا معروف هذا شجابك عليه . يمعود هذا على طول سجينته بجيبه .



الشيخ – اعرف . اعرف .


ام عابد – أي وشصار ؟ شبيه ؟


الشيخ – شفتة واني راجع من صلاة العشا اليوم اني وعابد ..


ام عابد – أي خو ما تداهنت وياه ؟, يمعود استر علينه ..

الشيخ - لا لا كان راجع هو وصاحبه , ما اعرف ..تلاقينا براس الدرب يم بيت حجي اسماعيل الجرك وقت ما كانت الدنيا تمطر حيل .. شافني من بعيد وصاح علي ..

ام عابد : أي , خو ما سمعك حجاية منا منا ..ترة هذا لسانه محد يخلص منه ...


الشيخ – لا لا ابد ..هو شكله كان مهدود حيلة..حسبالي شارب ..وياه رجال يسنده ..صاح علي من بعيد .."حجي عبد الكريم من قالك الله مو رحيم حجي عبد الكريم " ..اني سويت نفسي ما سمعت ..بس ابنك عابد التفت عليه ..راد يرد عليه واني ما خليته ...بس كَاللي الملعون حجاية وراح ...


قاطعته زوجته : أي شنو ؟ شنو قالك ؟؟


الشيخ : كَاللي مو انت صاحب الخزنة يا شيخ ..مو انت ... منو كَال الكريم ما يغفر لكريم منو كَال ؟؟؟.......


الشيخ يكمل: ..حسيت بالخوف يا مرة ..كأنه واحد يركض وراي بسكين ..استغفرك واتوب اليك .. استغفرك واتوب اليك ..


ام عابد :هي هاي؟؟ عبالي صاير شي ..هسة انته ليش مدوخ راسك حجي؟ هذا تلاكَيه سكران ويهذري ..انت مسويهة اكثر من اللزوم ..حسبالي سمعك حجاية منا منا ولا هددك ...(عادت وتلحفت بغطاءها )


الشيخ : يا مرة .. لا مو هذا الحجي ..كريم واصل له خبر اني كَايل بالجامع انه هو اذا مات ما اصلي عليه ولا اروح فاتحته واقسمت على هذا ...


ام عابد : يا ؟؟ ليش ؟؟


الشيخ ( وقد علا صوته ) : لانه ابوج الله يرحمه ترس راسه الشيب وهو يصلي ويصوم .. وكريم ابو ليلة حواجبه ابيضت وهو يشرب عركَ ويدور نسوان فوكَ مرته ..


ام عابد مقاطعة :لا حجي ليش هيجي .. زودتهة وياه ..والله لو ما كَايل احسن ..ليش تفاول على الرجال ..هو ابو بنات ..وبناته كلهن ما متزوجات ..لا حجي مقصر..


الشيخ (بعصبية ) : يا مرة تالية شيبي وصلاتي وصومي اخلصها واختمها بصلاة على واحد عرقجي قمرجي ؟؟؟ها


ام عابد : حجي بس لا تتعصب اروحلك فدوة ..صوجي اني اللي سالتك ..


الشيخ (يكتم غيضه ) : ام عابد ...( صمت هنية ... فأضاف ) طفي اللالة ونامي ..خليني أنام..


ام عابد تلحفت هي الاخرى بغطاءها وهي تتمتم بكلمات وأطفأت فانوس الغرفة ..وساد صمت النائمين .....ولكن بال المظلوم لا يصمت , ولا خلد الظالم في راحة ولا ذات الخالق تنام ...





-2-


كان الشيخ بين الحلم واليقظة ..لعله لم يكن حلما وكأنه أيضاً لم يكن يقظة ..هو واقع خليط بين الاثنين ..رأى في المنام نفسه وهو يقف على بعد أمتار من دار أبو ليلة ..وعليه ملابس رثة متخرقة ..متعجبا من منظره..فالدار هي نفسها داره ..والسماء قد أمسكت عن مياهها ودموعها .وفي جو الرؤيا رائحة المطر والأرض..تقدم الى الأمام بخطوة يتيمة فَرَنََّ في أذنيه صوت نعليه وهما يخطان الارض ..كل شيء بدا حقيقاً في رؤياه ..سمعَ صوتَ خطى تتقدم باتجاهه ..انفتح بابه المنزل الحديدي ثم برز له طفل صغير ..نظر بإستغراب ..تَمعّن ..نَعم هو طفل صغير جداً يمشي على قدميه ..يتقدم باتجاهه ..كان طفلا جميلاً جداً ..يمشي بإتجاهه حافياً وعلى وجهه ابتسامة آسرة . تقدم الى الشيخ , وشيخنا قد ملكت خلاياه الخوف وانتزع الأمان من لُبِّه ..مد الطفل الصغير يدهُ إلى الشيخ وأمسك بأطراف أصابعه والشيخ ينظر في دهشة عميقة ..يتحسس نعومة أنامله ورقتها وبرودتها..أشار الطفلُ إلى الباب ..كمن يوجهه الى ناحية البيت ثم يدخل ..مشى الطفل أمام الشيخ ..إقتربَ من الباب ..لمسه بيده وأحس ببرودة ذلك الباب الحديدي .طبع ندى يدهِ على مقبض الباب ...دفع الباب قليلا ..سار إلى الامام خطى قصيرة ..نعم هذه ملامح منزل أبو ليلة ...ولكن ذلك الانين القادم من مكان قريب..تقدم الطفل الصغير أمامه كأنه يقوده إلى مكان ما..وقف في منتصف الدار وأشار بيده الصغيرة الى الحديقة ..تقدم بخطواتٍ شيخنا ..نظر الى يساره إلى ناحية الحديقة ..وجد ابا ليلة وهو جالس على الأرض بوضع السجود..مستقبلاً القبلة ..وجده يبكي ..منظر لم يره طوال حياته في القرية ..ابو ليلة بذنوبه الثقال يسأل الرحمة.. وهو يذرف الدموع الثقيلة حتى اغرقت لحيته ..إقترب اكثر ولكنه كان يخاف الاحساس بوجوده ..فزع الشيخ عندما كسر من دون ان يدري غصن شجرة صغير ..ولكن ابا ليلة لم ينتبه لوجوده قط ..لعل ابا ليلة هو الطيف..او ان الشيخ جسم من الخيال.. اقترب اكثر ..واكثر ..سمع دعاء ابا ليلة وهو يقول :


"خمسين سنة واني اعصيك وملتهي عن عبادتك ..لا تطردني من رحمتك واني اجيتك ..اغفر لي يا كريم ..يا الله ..شيخ عبد الكريم ما يغلط .. شيخ عبد الكريم ما يغلط.. يصلي ويصوم ويخافك ..عمره ما سوى العيب والحرام ..مو عبد الكريم اللي يحتاج لفته الكريم ..يا ربي يا كريم اغفر لكريم ..الهي لا تعرض بوجهك الكريم عني ولا تعوفني يوم اللي اجيتك "..تجمد الشيخ دهشة وهولا ..وهو يقول في نفسه " كريم ابو ليلة يدعي بهالليل ؟؟!!!"


انفجر كريم بالبكاء خوفا وطمعا..بكاءا يعدي عيون السامعين حتى ان عيني الشيخ عبد الكريم لم تستطيعا ان تحبس انهار الدموع ..كان كريم من كثرة النوح يشهق ..ينوح على عمر قضاه بالعصيان ..وينوح خوفا من ان لا يغفر له , ..انحنى الى الارض وهو يبكي ويصيح "يا كريم ..يا كريم .." ...وهو على هذا الحال حتى سكن كل شيء ... سكت وخبت ذلك النوح ..تجمد جسد ذلك الرجل فما عاد يتحرك منه جزء ...تجمدت مفاصله ..سكون مريب أرعب الشيخ ..مد الشيخ يده..كريم لا يجيب ..دفعه فسقط على جنبه الايسر ..نعم ..مات كريم ابو ليلة ودموع الندم في عينه وبين خنادق وجهه ..عيناه ترسلان طائرا من نور يعرج الى السماء ..وفيهما امل ..لا يعلمه الا الله ..ولا يحتضنه الا الكريم ..مات ابو ليلة ..وفزع الشيخ من مكانه وخرج مندفعا من باب البيت وهو يصيح " مات ابو ليلة ..راح ابو ليلة ..مات ابو ليلة " فناداه صوت وهو يجري بين الدروب ..صوت اخترق كل ذرات المطر..وهو يقول ..يا عبد الكريم كَوم روح ادفن وصلي على كريم " ..تردد الصوت في اذنيه كأذان الفجر ..

قبل ان يلوح الفجر وقته..فزع الشيخ عبد الكريم من نومه وقد امتلأ جبينه عرقاً ..وعيناه ملآنتان بالدموع ..نظر حواليه فالكل نيام ..نفض الدثار من فوقه وتوجه الى شماعة الملابس ..تغطى بعباءته الشتوية وعمامته ..هنا تنبهت زوجته ام عابد لاستيقاظه المبكر وحالته المستعجلة ..فتادته " ابو عابد هاي وين ..حتى ما صار وكت تروح للصلاة بعد وكت حجي .." ..لم يجبها الشيخ بحرف حتى ..فتح باب الغرفة وخرج فقامت وراءه تناديه وتساله سبب هذا الغموض ..لم ينطق ببنت شفة ..خرج من البيت متوجها نحو بيت كريم ..يجوب الدروب..في ساعة عادت الدنيا لتبكي فيها ..والبرد فيها لف كل شيء ..خرج اولاده من البيت يبحثون عن ابيهم الشيخ ..أضاعوه ..وما وجدوا غير عمامته نابتة في الطين..وصل شيخنا الى الدار ..احس بنفس الحلم وكأنه يعاد ..اقترب من الباب ..ونظر الى المقبض ..نعم وجد أثراعلى المقبض ..وكأن اثر يد ما محت ماء الندى ..طرق الباب فلم يجبه أحد ..طرقه اخرى واخرى فلم يجب أحد ..طرق الباب بعنف ..صحََّى كل من بالدار وحولها ..استغرب الجميع مجيئه في هذه الساعة واستنكروه..وخاصة لما اخبرهم برغبته في رؤية ابيهم ..فتحوا له الباب ..دخل بخطوات قصيرة بطيئة نفسها الخطوات القصيرة البطيئة التي مشاها في منامه ..تذكر ان كريم كان ينام في حديقة منزله ..التفت يسارا..كان المشهد هو ذاته من غير ذلك الطفل الصغير..رأه نائما على جنبه الايسر وقد غطاه احد بغطاء خفيف ... تأكد له ان كل ما رأه كان يقظة ولم يكن حلما ..فالحال نفسها حاله....جلس بجانبه واهل داره يغدقون عليه بالاسئلة ..وكان من هول المصاب جامدا لا يجيب ..نظر الى ابو ليلة وعيناه مفتوحتان تبرقان برسالة الى السماء...صاح باعلى ما يستطيع "ماااااااااااات كريم ..مااااااااااااات كريم ..يا ويلك يا عبد الكريم ..يا ويلك يا عبد الكريم ...يا ويلك " ..عمت الدار وغصت بالجيران وبعائلة الشيخ ..ابو ليلة مات هذه الليلة والشيخ اول من نعاه ..واكثر من بكى عليه ..منظر لا يوصف ..فالشيخ لم يتنازل عن كلمته يوما لأَجَل من هذا المخلوق ..فكيف وهو اول الحاضرين ..ومن اخبره؟؟ ..دار في صدور الناس شك وباطل ..ما طال الامر ساعة الا وكريم يُغَسل ويُكفن ..والشيخ من كَََفَنه ومن غَسّله ..عيون الناس تُبرق لبعضها اتهاماتها ونواياها ..والشيخ في صدره وجع وخوف وظلم يؤلم احشاءَه ..حُمل الجثمان لكي يُورى في مَقبرة المدينة ..جنباً الى جنب مع اخوته وولده الوحيد ..وبينا هو يسير ..وإذا بأحد تلاميذه يهمس في أذنيه "مولانا مو كلت يوم الجمعة الفاتت عن ....مولانا تعرف انت التفريط باليمين كبيرة ..." اراد ان يجيبه ..أراد أن يقف بالتابوت لكي يخبره ما رأى ..ضج في أضلعه الحزن والندامة اخترقت كل ستار ..فناداه "ولدي ..ولدي .." ولكن حديثه قطعه صوت أذان الفجر .."الله اكبر الله اكبر " ...فأكمل " الله كريم يا ولدي ..الله كريم "