الرد على الموضوع
صفحة 4 من 5 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 الأخيرةالأخيرة
النتائج 37 إلى 48 من 51

الموضوع: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد لبيب

  1. #37 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 36 ـ

    بناء على رغبتها، خرج معها ليلة المولد، تزور المقام، تدعو الله أن ييسر الأمور، تكتمل فرحتها. انتفخت بطنها، أصبحت تشبه القربة التي يحملها بائع العرقسوس. بدأت تسير على مهل. تتحسس الانتفاخ. تأمل خيرا. تحلم به وهو يضحك. يتحرك داخل الرحم. يرفسها برجليه، تحلم به أيضا يخربش وجهها، يشد شعرها. تحلم به يحبو، يزحف، يقعد، يمشي.. يقول : أمي، أبي... تتحسس الانتفاخ وتأمل خيرا.. يحيط بها جابر وحمزة عن يمين وشمال، خشية الزحام.. يوسعان لها طريقا إلى المقام. لمحهما فتحي، توارى عن الأنظار سريعا. اندس وسط العشرات واتخذ طريقا منحنيا إلى مكان بعيد. فوجئ بمصطفى يصطحب نرجس. تعجبا للمصادفة التي جمعتهما. قال في تردد :
    ـ أول مرة..
    ـ هل معك أحد ؟
    ـ وحدي..
    كأن النظرات تلومه على المجيء بمفرده. تبادل مع مصطفى أحاديث مختلفة، ثم قال :
    ـ نحن سنزور المقام، ونقرأ الفاتحة، ونصلي لله، ندعوه أن يحقق أمانينا..
    حياهما. اختار أسرع طريق للعودة خشية أن يجد آخرين من المعارف والصحاب. لم يتوقع أن يصادف أحدا يعرفه. قصد أمين يكمل السهرة معه. بداخله مشاعر متضاربة عن الليلة الكبيرة. تريضا معا. دعاه إلى الفرجة على المولد، فرفض.. أكملا السهرة في مقهى الربيع. يلعبان النرد. ثم اتجها إلى الغرزة حيث يجلس عويس بمفرده، يستمع إلى أغاني أم كلثوم من جهازه الصغير. أعد لهما الشاي، قائلا :
    ـ عم حمزة ذهب يزور سيدي إسماعيل الإمبابي هو وابنته وزوجها، اليوم الليلة الكبيرة..
    ثم قال مبتهجا :
    ـ المعلم الله يخليه أنهى الموضوع. اتضح أن السرقة افتراء وكذب. عزيزة بنت شريفة وبريئة.. منهم لله..
    تعبت حميدة. أسنداها عند رجوعهم. الخطوات بطيئة. يبدو أن الزحمة أرهقتها..
    رجع مصطفى ونرجس، وهما يتحدثان عن ترتيبات ليلة الزفاف، ليلة العمر. حددا موعدا الخميس القادم. اتفقت الأسرتان على الموعد. شقة الزوجية فرشت بأثاث بهيج. لم يتبق إلا الزفاف. ما أحلى هذا اليوم لقلبين عاشقين.
    أنب فتحي ضميره. قطع عهدا على نفسه ألا يذهب إلى مسرح العطار مرة أخرى. هذا المكان لا يناسبه. لماذا يرتاده ؟ أمن أجل راقصة ترضي نزوة المشاهدة عنده، يضطر إلى الجلوس مع الحشاشين والعاطلين ؟ بدأ التأنيب يأخذ طابع الحدة. حدث نفسه أنه من الأجدى مقاطعة ثروت. إنه منحرف السلوك. يكفي ما حدث مع عزيزة. بدأ يكرهه. عليه الابتعاد عنه وإلا سيصبح منحرفا مثله. يود أن يتطهر من كل فعل دنيء ويسمو إلى الأرقى والأرفع. هذا ليس شعارا يهتف به، إنما إحساس صادق يتردد داخله، صورة نقية رسمها لنفسه. أبوه مكافح وأمه صابرة وأخواته مهذبات.. لماذا يكون سلوكه الخفي مشينا، بينا ما يجهر به ويظهره هو المبدأ والشرف والقيمة ؟ لا بد يا فتحي أن يكون مظهرك مثل مخبرك.. لا بد.. لا بد..
    وأحس بقبضة يده تتكور ويدفع بها في الهواء، راغبا في فعل شيء ما..
    مارسيل.. نقلته نقلة كبيرة من الانطواء على الذات، إلى الانفتاح على العالم. يكفيه أنه يلتقيها ويحدثها.. تبادله الحديث، تصادقه، تزامله.. مارسيل أصبحت عالمه الداخلي والخارجي. في كلماتها صدق. إنه يرسم لها صورة ملائكية. صارحها بأحواله المعيشية وطموحاته.. بدأت هي الأخرى تحدثه عن أسرتها، والصلوات التي تؤديها في الكنيسة. قال في حماس :
    ـ كلنا ندعو الله.. نصلي له.. كلنا نعبد الله..
    أردفت :
    ـ الله محبة..
    في جيدها تتلألأ السلسلة الذهبية، يتدلى منها صليب صغير..
    تحير في نظرته. هل يمعن النظر في الصليب المتدلي إلى مفرق نهديها، أم إلى البريق المتلألئ في عينيها ؟
    أتى النادل بعصير الليمون. انتقلت به إلى المحاضرات وحاورته في مسائل الهندسة الوصفية العويصة. حياهما أحد الزملاء. ذكرهما بمحاضرة الرياضيات قبل أن يغلق الدكتور باب المدرج، فأخبراه أنهما لا يرغبان في الحضور. استمرآ الجلوس في بوفيه الكلية، حيث يمتد الوقت بهما بامتداد وقت المحاضرة التي امتنعا عن حضورها!
    اتفقا على الانصراف من البوفيه قبل انتهاء المحاضرة بربع الساعة. ستكون المواصلات أهدأ ويمكنهما الركوب بسهولة ويجد كل منهما مقعدا يجلس عليه. ثمة سبب آخر لم يعلناه، هو ألا يخرج الطلبة من المدرج، وهما ما زالا جالسيْن في البوفيه !
    كالمعتاد، انتظر حتى استقلت السيارة العامة المتجهة إلى شبرا، ثم انتظر التروللي باس المتجه إلى إمبابة.
    عندما انصرفت مارسيل، افتقد الحنان والرقة والمؤانسة. تشاغل في تأمل وجوه الواقفين بالمحطة. المحاضرة الثالثة لم تنته بعد. حضر التروللي باس. من الممتع والمريح أن تجد مقعدا خاليا تجلس عليه. تهادى التروللي بسرعته العادية. انشغل عمن حوله بليلة زفاف نرجس ومصطفى. أزف الموعد الذي حدده. احتار فيما يرتديه. ملابسه أصابها البلى. عند بدء الدراسة اشترى سروالا وقميصين. لديه بدلة متوسطة الحال، عمرها ثلاث سنوات. هي بدلته الوحيدة. بدأت تضيق على جسمه النامي. إنه في ورطة. يمكنه ارتداء معطف فوق القميص. تحير قليلا. قفز ذهنه إلى عمته الحبيبة. نزل عند محطة أبي العلاء. سار في شارع بولاق الجديد، قاصدا بيتها. رحبت به كعادتها. بدأ يراجع دروس أولادها في الابتدائي. أخبرها ـ في سياق الحديث ـ أن أحد أصدقائه سيتزوج الخميس القادم.. فهمت المطلوب. أوصته بارتداء بدلة جديدة. لكن الوقت لا يتسع للتفصيل عند الترزي، اقترحت عليه شراءها جاهزة. قالت تشجعه :
    ـ الفلوس موجودة..
    أعطته ما يكفي شراء بدلتين..
    ـ هذا كثير..
    استحثته على شرائها فورا من شارع فؤاد..
    عاد إلى البيت محدثا أمه بلسان يلهج بالثناء على عمته. إنه لا يعرف كيف يسدد لها الدين. قال أبوه :
    ـ عمتك صاحبة واجب، هي تقصد مساعدتك وتشجيعك..
    رد مع اقتباس  
     

  2. #38 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 37 ـ

    اختفت عزيزة من السوق، كأنها فص ملح وذاب. بحث عنها في كل مكان فلم يعثر عليها. سأل عنها كل الشحاذين والشحاذات الذين قابلهم في منطقة المنيرة وما حولها. بحث عنها في سوق الجمعة، وسوق الجِمال يوم الثلاثاء، ومنطقة سيدي إسماعيل الإمبابي بعد انتهاء المولد. قالت له زميلتها إنها تركت إمبابة كلها، ولا تريد أن تطأ قدمها أرضها بعد ما حدث من محاولة انتهاك لعرضها، والطعن في شرفها. لم يدافع عنها أحد. أصر عويس على أن المعلم قام باللازم. وإن كان لا يعرف بالضبط ما فعل. قال له كبير الشحاذين، والكبير لقب أطلق عليه لكبر سنه :
    ـ اسأل عنها في عزبة الصعايدة..
    لم تطأ قدمه العزبة من قبل. دله الناس إلى الترعة الممتدة موازية لمصانع الشوربجي، المسماة " ترعة السواحل "، وقرب آخرها، يجد العزبة عن يمينه. سكن عشوائي. أقل في المستوى من مساكن المنيرة. لكن القاسم المشترك بينهما البناء دون تدخل المحافظة. برغم العشوائية التي يسير فيها، إلا أنها أحسن حالا من قريته " ميت نِمَا ".
    تعد عزبة الصعايدة نموذجا صارخا للعشوائيات المنتشرة في بعض مناطق إمبابة. نشأت في البداية على يد أحد المهاجرين من قنا إلى القاهرة، الذي استوطن في بادئ الأمر جزيرة الزمالك، ثم تبعه أقاربه، وأقاموا مجموعة من العشش مما أدى إلى تشويه المنطقة. لم يتوقع أحد من الصعيدي المهاجر هذا التوسع الاستيطاني الأخطبوطي. تم نقله هو وأقاربه إلى إمبابة، وتعويضه بقطعة أرض كبيرة عام 1942. استولى هذا المهاجر على بعض الأراضي المحيطة وقام بتقسيمها إلى قطع صغيرة، أقام فوقها العديد من المباني بشكل عشوائي، واستدعى الكثير من أقاربه ومعارفه بالصعيد. قام بتأجير تلك المباني لهم ليضمن ملكية تلك الأراضي والعزوة والسند. وتكونت عائلات كبيرة في العزبة مثل " الصغير " و" الفراشطة "، نسبة إلى مدينة فرشوط بالصعيد، و " النصار " من قنا.. الذين عملوا جميعا بتجارة الجِمال والجزارة، ومنهم من أصبحوا ملاكا للمطاحن والمخابز والعمارات في المنطقة.
    سأل أول فكهاني قابله فاستوضحه :
    ـ عزيزة بنت مَن ؟
    وجم. أردف مؤكدا :
    ـ من أي عائلة ؟
    هو لا يعرف اسم أبيها أو جدها أو أيا من أفراد عائلتها. انتابت الرجل سحب الريبة. لكنه تنفس دخان سيجارته، نافثا دخانها، قائلا :
    ـ على أي حال، امشِ بحذاء الشارع الضيق، لحد ما يقابلك محل بقالة عم محمد، اسأله..
    لم يكن عم محمد أحسن حالا من الفكهاني، وقع في الحيرة نفسها. أفهمه عويس أنها شحاذة في سوق المنيرة. قطع التردد قائلا :
    ـ أحسن حل.. سرْ في العطفة المجاورة، ستجد شحاذا جالسا على الناصية. اسأله، يمكن يدلك..
    بمجرد ما سأل الشحاذ عنها، نادى عليها. يبدو أنها تسكن بالقرب منه. تنهد في راحة. أخيرا استدل عليها. خرجت امرأة من بيت صغير، مدخله قبو مظلم. رنت إليه من تحت لفوق مستغربة. لكنه أكثر منها استغرابا. إنها امرأة في الأربعين. بشرتها لفحتها الشمس الساخنة، وسوّدها قهر السنين. ترتدي جلبابا أسود أميل إلى اللون الرمادي، تلف رأسها بمنديل أسود مغبر، حافية القدمين. قبل أن تبرطم بألفاظ مقذعة، أعطاها ظهره منصرفا، غير عابئ بالسباب الذي نثرته رذاذا في أذنيه !
    صمم على أن يتجول بنفسه في دروب العزبة وأزقتها، ولا يسأل أحدا. قد يلتقيها أمامه.. وفي حارة ضيقة، لفت انتباه الناس من حوله. أوقفه أحد السكان مستغربا سلوكه، لا سيما أن عينيه تنظران في كل اتجاه :
    ـ يلزم خدمة ؟
    تشجع وسأل عنها. كان السؤال أكثر غرابة. تريث الرجل قبل أن يسأل :
    ـ موضوع نسب يعني ؟
    قال يريح نفسه منهيا تساؤله وفضوله :
    ـ جائز.. كل شيء نصيب!..
    حين سأل عن اسم أبيها، قال إنه لا يعرف. أدخلوه غرفة بالدور الأرضي، مرحبين به.. واثقين أنه جاء خاطبا عزيزة، لعله اقتفى أثرها حتى وصل إلى بيتها هنا!.. تورط في لقاء غير مقصود. لابد أن يجاري الأمور حتى يغادر المكان، وإلا ألصقت به تهم لا يتحملها..
    سألوه كيف عرفها ؟ فأجاب بأنه رآها في سوق المنيرة. نظر كل إلى الآخر، أبواها وأخوها.. لكنهم عمدوا إلى تصديقه. ولما حلّ بهم صمت، سأل في جرأة يحسد عليها :
    ـ أين عزيزة ؟
    دخلت بنت السادسة عشر. نظر إليها أبوها شزرا قائلا :
    ـ هذا الشاب رآكِ في سوق المنيرة..
    أنكرت بشدة. عويس حائر. فعزيزة الصغيرة ليست هي الشحاذة المقصودة. وجد كثيرات باسم عزيزة. لكنها ليست واحدة منهن. غمز الرجل أباها مهدئا :
    ـ كله يرجع للنصيب..
    هدأ بالا..
    استأذن عويس واعدا بزيارة ثانية بعد ما تعرف على البيت والأسرة..
    ـ في الزيارة القادمة نتعرف على أهلك..
    ـ إن شاء الله..
    خرج غير مصدق أنه نفذ بجلده. اتجه إلى أقصر طريق يخرجه من العزبة عائدا إلى بيت حمزة، راويا له قصة أغرب من الخيال، عن عزيزة التي لم يجدها. وعن العزبة.. ضحك حمزة قائلا :
    ـ ألم تخف أن يتتبعك أحدهم ويعرف سكتك ؟
    هرب الدم من عروقه..
    ـ كل شيء جائز.. المصائب تحلّ عليّ بالجملة..
    رد مع اقتباس  
     

  3. #39 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 38 ـ

    أحيت الأسرة الذكرى السنوية لوفاة سعاد، حضرها عدد من الأقارب والجيران، وأصدقاء مصطفى، على رأسهم فتحي وأمين وحمزة وعويس.. استند حمزة إلى عكاز خشبي، صنعه مصطفى في الورشة خصيصا له. تلاوة القرآن من الشيخ محمود. حضر أيضا فريد وأخوه وزوجته ونرجس.
    أرجأ مصطفى كل ما يتعلق بحفل الزفاف إلى ما بعد إحياء الذكرى بأسبوع. استأجر شقة بالقرب من سكن الأسرتين. وقام بطلائها، وتركيب اللوحات الفنية والستائر. لم يستغرق كل ذلك إلا أسبوعان..
    اجتمع الوالدان لتحديد موعد الزفاف. اختار مصطفى أول خميس، ووافقه الجميع..
    حفل الزفاف أمنية عمره. أتى بفرقة فنية، مطربا ومطربة وفرقة موسيقية، امتنع عن إحضار راقصة، بناء على توصية الشيخ..
    في الحادية عشرة مساء، انتهى الحفل واستقل العروسان سيارة مزينة، إلى الأستوديو لالتقاط صور الزفاف، ثم قصدا شقتهما..
    بعد أن انصرف فتحي وأمين، أكملا السهرة على مقهى الربيع. دار نقاش أثاره فتحي حول اقتراب امتحان الفصل الدراسي الأول.. أما أمين فقد تخرج في مدرسة السكك الحديدية وحصل على " الدبلوم ".. سيتسلم العمل معاونا لمحطة القنطرة شرق بعد أسبوع. شيء في نفس أمين تغير. أحس أن الوظيفة ترد له اعتباره. كان يحلم براتب شهري يعتمد به على نفسه، فقد ساءت صحة والده، الذي آلمه فشل ابنه في الدراسة.
    " سوف يتفرقَ الشملُ ".. عبارة قالها فتحي، قاصدا أن أمين سيغيب عن ناظريه، منشغلا بعمله الجديد، ومصطفى سينشغل بطبيعة الحال بالحياة الزوجية وأعبائها، وهو منشغل بالمذاكرة والاستعداد للامتحان. قفزت مارسيل إلى خاطره. تحدث عنها حديث معجب، رأى فيها حلاوة الدنيا وعذوبتها..
    كان اللقاء، قبيل سفر أمين.. أمضيا وقتا طويلا لا يريدان لليل أن يمضي، حتى اقتربت الساعة من الثالثة قرب الفجر، فاضطرا إلى الانصراف، كل إلى بيته..
    بدأت الكوابيس تراود حمزة من جديد.. منذ الهجمة الغادرة، التي ناله فيها من اللكم والركل ما أثر على صحته. اعتلت الساق اليمنى، وذهب إلى المستشفى "الميري" فأعطاه الطبيب مرهما مسكنا للألم. استند إلى عكاز وهو يسير. أثر الهَرَمُ على مشيته وجلسته.
    شرد في البعيد، يرنو إلى النفق الذي يمثل عنق زجاجة. النفق مدخل طبيعي للمنيرة ومدينتيْ العمال والتحرير. ثمة مدخل آخر من شارع النيل، لكن النفق، هذا الطريق الحيوي، أشبه بشريان حياة. استرجع العمر الذي ولى، والأحداث العادية والخطيرة.. رحلة عمر طويلة قضاها في هذا المكان..
    صحا من نومه وصدره يعلو ويهبط. نهض يصرخ. هدأ صياحه وسكن ألمه، بعد أن استعاد وعيه وأفاق من نومه.. حمد الله أنه مجرد حلم.. أو كابوس.. لا يهم.. اعتاد على هذا القلق، وعاش به.. يختفي أحيانا، ثم يعود.. زائرا غير مرغوب فيه!..
    رأى في المنام أنه سجين في زنزانة يطل من نافذتها الحديدية، صارخا وهو يرى عمالا يهدمون النفق. ينظرون إليه غير مبالين بصراخه وتحذيراته، كأنهم لا يسمعون، كأنهم يعذبونه بهذه المعاول. نهض من نومه فألفى نفسه ممسكا بعمود السرير..
    استعاذ بالله من الشيطان الرجيم. توضأ وصلى ركعتين.. داعيا الله أن يشفي حميدة من محنتها. الحلم ليس له تفسير إلا حال ابنته، التي توعكت صحتها، واحتار زوجها في التردد على الأطباء. إنه قلق عليها، هذا القلق ينعكس في صورة حلم يفزعه. هكذا قال عويس، الذي لم يستيقظ على صراخه، إنما أفاق حين هزه حمزة من كتفيه مناديا عليه. قال :
    ـ في الصباح، سأذهب لأطمئنك عليها..
    قلق حمزة له ما يبرره. انقطع جابر عن المرور عليه يومين متتالين. الجنين في بطنها يمزق أحشاءها. أعد عويس مشروبا مهدئا من الأعشاب، فسكن الألم، فأعطاها كوبا ثانية. تحدثت إلى جابر، تطلب منه أن يدعو لها، ثم نامت بعد ليلة أرق وألم..
    رد مع اقتباس  
     

  4. #40 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 39 ـ

    كلما التقى فتحي قال مرحبا :
    ـ أهلا يا باشمهندس..
    وإن لم يكشف عما في دخيلته، فهو يرى فيه المهندس الشاب المتحمس الذي يمكنه الحفاظ على النفق، ويتعهده بالصيانة والترميم. حين سأله :
    ـ متى التخرج ؟
    أجاب :
    ـ بعد خمس سنوات.. ويمكن أن تمتد إلى أكثر من ذلك !
    تنهد في قلق. هل يمد الله في عمره حتى يراه مهندسا ؟ الأمنية ذاتها تعتلج في صدر أبيه. أحس بالزهو لتعلق أبيه وحمزة بالغد البعيد، كذلك عمته.. إنهم ينادونه من الآن باللقب الذي لم يحصل عليه بعد. أما مارسيل، فهي أمله، والبسمة الحانية.. بدّلت قلقه طمأنينة. تغيب عن الكلية ثلاثة أيام، إثر نوبة برد حادة. في اليوم الرابع، لمحته في المدرج يجلس في الصفوف الخلفية، هرعت إليه وقلبها يخفق. جلست إلى جانبه محيية. حدثها عن مرضه، أعطته ملخصا سريعا للمحاضرات والواجبات التي فاتته. تطوعت لتنقل المحاضرات في كشكوله. جلست في البوفيه، تكتب بخطها المنمنم الجميل. حاول الجلوس معها فادّعت أنه سيعطلها عن الكتابة. وعدها ألا يفتح فمه بكلمة واحدة. تساءلت :
    ـ ونظراتك.. كيف أهرب منها ؟
    تضاحكا. واكتفيا بالجلوس معا يتحدثان في أمور عديدة، على أن تنقل المحاضرات في البيت. تركا البوفيه وتريضا في الحدائق الواسعة التي تحيط بمباني الكلية، ثم اختارا مقعدا رخاميا في أطراف الكلية، قرب السور الحديدي، واستظلا بشجرة ضخمة، بعيدا عن أعين الطلبة والطالبات. حكى لها ظروف معيشة أسرته، والده المكافح، أخواته البنات السبع. هو أكبرهن. حكت له عن أسرتها الصغيرة، عن أختها الوحيدة مريم، عن الخلافات المستحكمة بين أبويها. تصارحا طويلا. بدا كأنه يجلس على كرسي اعتراف، يبوح بأدق الأسرار. لكنه لم يبح بكل ما عنده. صارحها بحبه لبنت الجيران، التي تزوجت وسافرت مع زوجها. لكنه لم يبح لها بما كشفه أمين من أنه بكل بنت معجب. إلا أن مارسيل بذكائها فطنت إلى شيء من هذا، حين قالت:
    ـ ألم تقع في غرام بنت أخرى ؟
    نظر إليها صامتا. أراد أن يقول : " أنتِ ".. شيء أسكته فلم يبح. قالت :
    ـ صمتك يدل على أنك عرفت أخريات..
    ـ كيف عرفتِ ؟
    ـ فراستي..
    ـ أنتِ ذكية..
    بدأ يكاشفها بنزعته الهوائية التي أحب التخلص منها. حكى لها عن أمين صديقه الملازم وتعليقاته الساخرة. ازدرد ريقه. قال :
    ـ أحس معكِ أنني أعيش حالة حب صادقة..
    ـ هكذا سريعا.. يا مجنون ليلى ؟
    ـ حبي لليلى كان في سن المراهقة. كنت صغيرا. الآن تكشفت لي أمور عديدة. أنتِ الوحيدة التي أبوح لها بأسراري..
    ساوت بأناملها خصلات شعرها التي بعثرها الهواء، فبدت له أجمل من ذي قبل..
    ـ مارسيل.. لا تحرميني من لحظات السعادة التي أعيشها..
    بادرته :
    ـ لن أحرمك من شيء.. المهم الآن...
    ناظرة إلى ساعتها :
    ـ موعد المحاضرة الثالثة أزف.. هيا يا فتحي..
    تجرأ فشبّك أصابع يده في يدها.. لم تمانع.. سارا صامتين، ثم سحبت يدها قائلة :
    ـ اقتربنا من أنظار الطلبة..
    دق قلبه بفرح جنوني. وصلا المدرج، فلم يجلسا منفصلين كما تعودا. جلس بجانبها. نادت زميلتها في الصف الأول :
    ـ مارسيل.. مكانك محجوز..
    ـ سأقعد هنا..
    وفي البيت، جلس يكتب لها رسالة مطولة، عبر فيها عن أحاسيسه ومشاعره. صارحها بما لم يقو على البوح به.. إنه لا يعرف سر الميل الشديد إليها، حتى أنه يود أن يطير بها إلى مكان بعيد.. رسالة استغرقت خمس صفحات كاملة. تردد في تسليمها الرسالة باليد.. لا يدري لِمَ ؟ وضعها في ظرف، وكتب عليه : " إلى الأخت مارسيل شفيق ".. وأودعها صندوق البريد..
    استغرقت الرسالة عدة أيام، حتى كتب عم ذكري اسمها في القائمة.. نبهها فتحي إلى الرسالة. لم تتعود أن تصلها رسائل بالبريد. هذه أول مرة..
    ـ لكِ رسالة عند عم ذكري..
    شهقت منزعجة :
    ـ من ؟
    ـ عم ذكري موزع البريد بالكلية، وهو فراش مدرج " ج ". وجدت اسمك مكتوبا في " الكشف " اليوم..
    استأذن ليلتقي حسان، وإن كان يتذرع به ليهرب منها ! جلست، بعيدا عن الأنظار، على المقعد الرخامي نفسه الذي كانت تجلس عليه مع فتحي. فضت الرسالة واستغرقت تقرؤها، وقد خالجتها أحاسيس متباينة. فرح طفولي جعلها تعيد قراءتها ثلاث مرات، وهي تعجب لهذا الإحساس الصادق الذي أملى عليه هذه الكلمات.. التقته.. قالت :
    ـ أشكرك على الرسالة..
    أردفت :
    ـ كان يمكنك أن تقول نفس الكلمات، من غير ورقة ولا قلم..
    ـ أخشى أن يهرب مني الكلام..
    ـ أم تخشى أن أهرب منك ؟
    ـ لا أظن أنكِ قاسية إلى هذا الحد..
    ابتسمت. سرت الابتسامة دفئا في قلبه..
    ـ هل تريد ردا على رسالتك ؟
    ـ طبعا.. ماذا ستكتبين في الرد ؟
    ـ أكتب : شكرا يا فتحي..
    ـ الرسالة وصلت..
    ـ إذن لا داعي للرد عن طريق عم ذكري ؟
    ـ ابعثي بها.. لكن.. أأكتب لكِ خمس صفحات، فتردين عليّ بكلمتين فقط..
    ـ أصلها برقية !..
    تضاحكا معا. جلجلت الضحكتان في الفضاء، فأحدثتا عبقا عطر الهواء من حولهما بالمرح..
    رد مع اقتباس  
     

  5. #41 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 40 ـ

    بدأت امتحانات الفصل الدراسي الأول. انشغل فتحي ومارسيل بأدائها يومين كل أسبوع. رغم ذلك لم يشغلهما الامتحان عن اللقاء. قال لها :
    ـ أتمنى نقعد في مكان بعيد..
    ـ وهو كذلك..
    من قبيل المصادفة الحلوة أن يتوافق اليوم الخامس من يناير عيد ميلاد الاثنين.. اليوم نفسه والشهر نفسه، وإن كان يكبرها بعام كامل. مدت يدها بهدية ملفوفة بورق السلوفان..
    ـ كل سنة وأنتَ طيب..
    مد يده هو الآخر وأعطاها هديته المغلفة :
    ـ كل سنة وأنتِ طيبة..
    فض غلاف هديته.. كانت مصحفا مذهبا.. صاح فرحا :
    ـ الله..
    وقبّله..
    فضت غلاف هديتها.. كانت إنجيلا مذهبا.. صاحت فرحة :
    ـ الله..
    وقبّلته..
    توارد خواطر، أم تطابق في المشاعر والطباع، أم أن اتفاق عيد ميلادهما في يوم واحد، قد وحد مشاعرهما ؟
    قالت :
    ـ ترى.. ما أهم شيء في القرآن الكريم ؟
    ـ دعوته للسلام والرحمة.. ترى ما أهم شيء يدعو إليه الإنجيل ؟
    ـ نفس الشيء..
    ـ لماذا إذن تقسو قلوب وفي دينها كل الأسباب التي تجعلها تنبض بالحب والسلام ؟ أما أجدر بالإنسان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ؟
    ـ غباء الإنسان في استيعاب رسالة الأديان.. نحن نقول الله محبة..
    ـ ونقول الله أكبر..
    ـ تقرع الأجراس في الكنائس للدرس والصلاة..
    ـ ويرفع الأذان في المساجد في مواقيت الصلاة..
    دعاها بهذه المناسبة لشرب عصير الليمون في البوفيه. راجعا أسئلة الامتحان واتفقا على صعوبته، من الممكن النجاح بتقدير مقبول..
    انصرفا. انتظر حتى استقلت سيارة الركاب إلى شبرا، ثم استقل التروللي متجها إلى إمبابة.
    راودته خواطر حول علاقته بمارسيل. قد تسرب حبها إلى قلبه. هل تحول الديانة دون الاقتران بها ؟ من الممكن أن يتزوجها وهي على دينها، أو تشهر إسلامها إذا أرادت.. في الحالتين سيقبلها زوجة. إن ما يجمعه الله لا يفرقه إنسان..
    أين أنتَ يا أمين لأبوح لك بلواعج الفؤاد ؟ سافرتَ إلى القنطرة شرق وتركتَ صاحبك لا يجد الصديق الذي يرتاح إليه.
    دخل والده فنهض عن فراشه يستقبله..
    ـ ما أخبار الامتحان اليوم ؟
    ـ الحمد لله..
    قال :
    ـ الأستاذ شفيق يبلغك السلام.. قال إنك ومارسيل أصبحتما صديقين.. لكن..
    انتفض :
    ـ لكن ماذا ؟
    ـ هل هناك صداقة يمكن أن تجمع بين فتى وفتاة ؟
    ـ هذا صحيح في الجامعة..
    وازدرد ريقه..
    ـ على العموم، ربنا يوفقكم..
    قالها وانصرف، تاركا علامة استفهام في عقله. هل فهم الأبوان حقيقة العلاقة؟ إن أباه يعترض على الصداقة، فماذا يكون حاله حين يعلم أنه يحبها ؟
    احتفالا بانتهاء نصف العام الدراسي، دعاها لزيارة عمته. لبت الدعوة. المنزل الذي تقيم فيه بشارع بولاق الجديد، يشي بأنه الأحدث بناء، بالمقارنة بما حوله من بيوت قديمة. رحبت عمته بها، واستقبلتها بحفاوة بالغة. قالت :
    ـ أنتما ضيوفي على الغداء..
    وأعدت مائدة عامرة بالمشويات وأطباق الخضر والمقبلات وسلطانيات حساء الدجاج أمام كل فرد. يتوسط المائدة الدجاج والبط. لم تشعر مارسيل بغربة. ساعدت في عمل سلطة الخضار، مما أتاح لها دخول المطبخ، فابتهجت العمة بها.. قامت معها بجولة في غرف الشقة الواسعة.. غرف النوم، والاستقبال، والمعيشة، وغرفتيْ الأولاد..
    جلسا على صدر المائدة وتجلس عن يمينهما ويسارهما عمته وأولادها.. بعد الغداء، جلسا في الشرفة يشربان الشاي ويتطرقان لأحاديث شتى..
    انصرفت وهي تشكر العمة، وتداعب الصغار..
    حين مدت يدها تحييه قالت :
    ـ هذا يوم من أسعد أيام حياتي..

    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  6. #42 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 41 ـ

    تفرقَ الشملُ، وعانى الوحدة. سافر أمين إلى بلدة بعيدة، وتزوج مصطفى، واعتلت صحة حمزة، وابيضت عيناه قلقا وأرقا. لم يكن يشكو من شيء محدد، إنما يقول لمن يسأل :
    ـ كل حاجة في جسمي توجعني..
    تفرق الشملُ من حوله، وإن عوضت مارسيل كل ذلك، أصبحت عالمه ودنياه. بدأت علاقته تتوطد بحسان، الذي استأجر غرفة بصالة ضيقة وحمام.. يقع سكنه في حي شبرا، بالقرب من سكن مارسيل. حدد حسان يوم الخميس ليزوره. وكان آخر خميس في عطلة منتصف العام. قال له :
    ـ والدي مكافح كأبيك. نحن من أسرتين فقيرتين. هذا يقربنا أكثر..
    يتميز حسان بسعة اطلاعه على الكتب الأدبية والسياسية، دائما يشارك بوجهة نظره في كل قضية. بل إنه يكثر من إثارة القضايا بمناسبة وبدون مناسبة. يتحدث طويلا فينصت له، حتى تخيل نفسه يقوم بدور أمين.. فوجئ وهو ينصت لضيفه بموزع البريد ينادي عليه :
    ـ بوستة.. فتحي رجب..
    هرع يتناول الخطاب، من خله الوفي أمين. استغرق يقرأ بصوت عال، كلمات سطرتها الغربة والحنين إلى الصحاب. اقترب حسان أكثر من الصديق الغائب. قال في مودة :
    ـ قد أصبح صديقي.. أيضا..
    يبدو أن حنين الأصدقاء بعضهم لبعض، قد استبد بالأفئدة الشابة في وقت واحد، فإذا بمصطفى يطرق باب صاحبه فيستقبله هاشا باشا..
    ـ أهلا بالعريس. مضى أسبوعان على الزفاف لم نرك خلالهما..
    قدم له زميله حسان. وكان حديث طويل عن مصطفى وزواجه ممن يحبها. حكى فتحي بإسهاب قصة حبه لنرجس.. أطلعه على خطاب أمين الذي وصل اليوم، وسلامه إليه. التفت إلى حسان قائلا :
    ـ لم يبق إلا عم حمزة الذي لا تعرفه. إذا تعرفت عليه فقد عرفتنا جميعا.
    قال مصطفى :
    ـ والله يا جماعة، عم حمزة يحتاج لمن يسأل عنه في ظروفه الصعبة..
    قال حسان :
    ـ هيا بنا إليه..
    قام ثلاثتهم قاصدين غرزة النفق.. وحسان المغترب في العاصمة، بعد تركه إهناسيا، أحس أنه يتأقلم مع مجتمع غير مجتمعه. الناس معظمهم قريب إلى قلبه. حين سلم على حمزة أحس أنه يحيي أباه الذي تركه هناك. تعارف الجميع كأنهم يعرفون بعضهم بعضا منذ سنين.
    حمزة لا يستغني عن عكازه. قام عويس بالواجب بإعداد براد الشاي، وتشغيل جهاز الترانزستور.. ضاحكه مصطفى :
    ـ ما بك يا رجل يا عجوز ؟ أنت أكثرنا شبابا..
    ضحك ضحكة عريضة كشفت عن أسنان صفراء، غطاها من أعلى شارب كث مخلوط سواده ببياض :
    ـ ربنا يجبر بخاطرك..
    أسهم قليلا، ثم قال :
    ـ أصل بنتي.. مريضة..
    ـ ربنا يشفيها لك..
    قالها حسان متأثرا. همس في أذن فتحي :
    ـ عم حمزة يشبه والدي..
    استغرق حسان في حديث شجي مع حمزة، تطرقا فيه إلى النفق.. هل تقادم النفق يؤدي إلى انهياره ؟ سؤال حائر يدور في ذهنه.. قال حسان بلغة العالِم :
    ـ النفق ليس آيلا للسقوط.. هناك أمور نلاحظها قبل الانهيار، مثل التشققات والتصدعات، أو انهيار جزء بسيط من الجدار.. قال حمزة في حماس :
    ـ كل هذا حدث..
    عقب عويس :
    ـ في الحلم يا عم حمزة..
    التفت إليه :
    ـ أنت دائما تلاحقني، مثل اللقمة في الزور..
    استطرد بعد صمت قصير :
    ـ الحلم نبوءة لما هو آت..
    قال حسان في حماس :
    ـ صدقت..
    انفض السامر، وانصرف فتحي مع حسان، شارحا له معالم المكان.. بادئا بالمنيرة، وهو حي تحول من منطقة زراعية إلى منطقة سكنية رخيصة جاذبة للسكان. امتلأت بالمتزوجين حديثا. تتميز بارتفاع معدلات النمو السكاني بفعل الهجرة إليها من جميع المحافظات. قال حسان :
    ـ أفكر في البحث عن سكن أوسع في المنيرة..
    ـ هذا ممكن..
    ولما اجتازا عرض النفق، مخلفين المنيرة خلفهما.. مشيا في شوارع مدينة العمال. أوضح له أن المدينة أنشئت في بداية الخمسينيات على الضفة البحرية من خط سكك حديد الوجه القبلي على مساحة من الأراضي الفضاء، لإقامة أسر عمال المطابع الأميرية التي تعد إحدى العلامات المميزة لحي إمبابة، حيث انتقلت إليها بعد قيام الثورة، عندما أصدر الرئيس جمال عبد الناصر عام 1956 قرارا بإنشاء الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، وأقام للهيئة مبنى جديدا في إمبابة على مساحة 35 ألف متر مربع، تم تزويده بأحدث ماكينات الطباعة.
    اقتربا من مقهى الربيع، فأشار إليها، قائلا :
    ـ هذا هو المكان المفضل لجلوسنا، أمين وأنا..
    بادره حسان :
    ـ إذن، فلنجلس..
    طفق حسان يشرح التيار الماركسي السائد في مصر، الذي شاب الثقافة المصرية.. ورأيه في قصص نجيب محفوظ ومعاصريه. ظل فتحي مستمعا جيدا، يؤدي الدور الصامت غالبا الذي كان يؤديه أمين..
    رد مع اقتباس  
     

  7. #43 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 42 ـ

    تفرقُ الشملِ أعطى لكل امرئ فرصة للتأمل واستشراف مستقبل يختلف من واحد لآخر. التفرقُ شيء طارئ تفرضه ظروف الحياة وملابساتها. خصوصية كل صاحب قد لا ينفع معها إلا البعد الاضطراري عن الجماعة والعزف المنفرد على أوتار حزينة.
    حمزة مصابُه في ابنته المريضة، وحَمْلِها الصعب، وانعكاسات المرض على الحَمْل. مصابُه أيضا في وهن صحته وعجز ساقيه عن السير بصورة عادية، فاتكأ على عكاز، واعتمد على عويس يدبر له أمور معيشته. عويس الذي كان ضيفا ثقيلا أصبح في أشد الاحتياج إليه.. يقضي حوائجه، ويعد المشاريب لزبائن الغرزة. الترانزستور الصغير ـ أيضا ـ لا يستغني عنه حمزة. يستمع إلى الأخبار وخطب الزعيم. بدأت القلاقل مع إسرائيل، وازدادت حدة الخطب حماسا ووطنية.
    يعيش مصطفى حياة ناعمة. أذن له والده بالغياب عن الورشة في شهر العسل، لكن الشهر أصبح اثنين، فتدخل الأب يعيده بالقوة الضاغطة للورشة مصدر رزقه.
    تناثرت أقاويل بين الشباب عن استدعاء قوات الجيش الاحتياطية، لكنها لم تتأكد بعد. خمن مصطفى أنه سيكون ضمن المطلوبين. فاجأها قوله. لزمت الصمت لا تعقب. ولما صارح الشيخ محمود في هذا، أكد له أنه سمع مثل ما سمع. قال الأسطى حسين لابنه :
    ـ إن صح ما نسمعه، سيكون الجيش درسا مفيدا لك.. يخرجك من حياة الكسل التي تعيشها الآن..
    انشغل فتحي بأداء الامتحانات ولقاْْْءاته مع مارسيل.
    لا حديث لعويس إلا عن عزيزة. كلما رأى بنتا اعتقد أنها تشبهها، حتى قال لنفسه : " أصبحتَ مشغولا بعزيزة مثل انشغال عم حمزة بالنفق ".. أكد له أنه سيلقاها ذات يوم، بينا نفى حمزة أن أوهاما تلعب برأسه، معتبرا النفق شريان الحياة لإمبابة، فلماذا لا نهتم بسلامته وصيانته ؟
    جابر شقي بحميدة، التي ترتفع حرارة جسمها حينا فيجري بها إلى مستشفى الحميات المطلة على النيل، فيحجزونها بضعة أيام حتى تشفى، وتواتيها آلام الوضع حينا آخر.. لا يدري ما إذا كان الحَمْل سببا في مرضها، أم أن المرض شيء عارض.
    يجلس أمين في استراحة الهيئة القريبة من المحطة التي يعمل بها. يحن لإمبابة وصديق العمر.. من وقت لآخر، يستبد به الحنين فيسطر صفحات الخطاب، وينتظر الرد من صديقه..
    أزفت امتحانات آخر العام. انقطع فتحي للمذاكرة، في الوقت الذي التهبت الحدود الشرقية مع إسرائيل. ثمة أنباء عن حشود إسرائيلية في حدودها مع سوريا. حشدت مصر قواتها.. كثرت خطب الزعيم يواجه بها صلف العدو. الإشاعات حول استدعاء القوات الاحتياطية، أصبحت واقعا.. استدعي مصطفي الذي ترك نرجس، تعاني أعراض الحَمْل. رصد أمين تزايد حركة القطارات إلى غزة والعريش، وتدفق المركبات العسكرية في أنحاء مختلفة من شبه جزيرة سيناء. نذر الحرب تدق أجراس الخطر. يتذكر حمزة بطولات الجيش والشعب في حرب 1956. ارتفعت يداه إلى عنان السماء يدعو لمصر بالنصر، رافعا كفيه :
    ـ ربنا ينصرنا على أعدائنا..
    في إحدى المحاضرات، دخلت مارسيل المدرج متأخرة عشر دقائق. لم يكن التأخير بالوقت الهين لدى أستاذ الهندسة الوصفية، فمنعها من الدخول، ونادى على فراش المدرج عقب دخوله. استاء فتحي لما حدث. غلا الدم في عروقه. كيف يحرج مارسيل أمام زملائها بهذه الصورة المستفزة ؟ واحتجاجا على ما حدث، نهض من مكانه، وخرج في أثرها، تضامنا.. ضحك الطلبة لموقفه. حدث هرج ومرج وتعليقات من هنا وهناك، بينا جمد الدكتور في وقفته منتظرا استعادة الهدوء. قال طالب من الصفوف الأمامية، سليط اللسان :
    ـ بينهما حكاية حب طويلة..
    فازدادت الضحكات والهمهمات..
    بعد انتهاء المحاضرة، بحث حسان عن صديقه وقد التهبت أعصابه.. بحث عنهما في كل شبر من أرض الكلية، حتى قادته قدماه إلى الأطراف، بالقرب من السور الحديدي الخارجي. رآهما يجلسان معا، فتحرج أن يعلن عن وجوده، عامدا إلى الاختفاء، لكنهما لمحاه، فنادى فتحي عليه، ونادت مارسيل، فتوقف عائدا إليهما..
    ـ لا مؤاخذة.. لم أقصد شيئا..
    بعد صمت حائر، تذرع بأمر لم يقتنعا به :
    ـ لكَ خطاب عند عم ذكري..
    تحرك الثلاثة معا، واستأذنت مارسيل في منتصف الطريق لتصحب زميلة لها.. صارح فتحي بما حدث بالمدرج. نصحه أن يقيد علاقته بها. الكل يتحدث عن قصة حب بينهما. بادره فتحي في ثورة :
    ـ هل الحب عيب ؟
    ـ أقاويل الطلبة حوّلت الموضوع إلى مادة للانتقاد. طبيعتنا الشرقية تغلب على تصرفاتنا، مهما تظاهرنا بالتمدن والتحضر.
    أضاف مغيرا الموضوع :
    ـ لم أقصد شيئا حين تحججت بخطاب لك عند عم ذكري. كان لابد من الحيلة.
    توجها إلى البوفيه يشربان الشاي. لمحهما عم ذكري، فاتجه إلى فتحي مهللا :
    ـ لكَ خطابان..
    هرع إلى الركن الذي ينتحي فيه بالخطابات.. خطاب من أمين، وثان من مصطفى. ابتسم حسان وقال لصديقه :
    ـ صدق حدسي..
    رجع إلى حسان يقرأ الخطابين بصوت جهوري. حدثه أمين عن التحركات غير العادية للجيش، وحالة الطوارئ في عمله، بعد ما زاد عدد مرات التقاطر. عربات القطار إما للركاب محملة بالجنود، أو لنقل العتاد. زادت كثافة المناورات في السكك الحديدية.
    حدثه مصطفى عن وحدته العسكرية في غزة، مقدمة صفوف الجبهة، طالبا منه أن يدعو لمصر بالنصر. قال إنه فخور بأنه سيدافع عن حدود مصر.. إلا أنهم طلبوا من القائد أن يزيد حجم التدريب وخاصة أنهم تركوا حياة الجندية منذ سنوات عديدة. وفعلا عمل القائد على إعادة تدريبهم على اللياقة والكمائن واستعمال السلاح، بقدر ما يسمح لهم الوقت..
    أوصاه بالسؤال عن أسرة زوجته، الأستاذ فريد وحرمه.. وأن يطمئنه على نرجس.. الحامل في شهرها الثالث.. ويطمئنه ـ أيضا ـ على الشيخ محمود..
    أعلن جمال عبد الناصر في خطبة له غلق مضايق تيران، فالتهبت الجبهة، وخيمت نذر الحرب على سماء المنطقة.
    قام رجال الدفاع المدني بتجربة صفارات الإنذار. وطلا الأهالي زجاج النوافذ باللون الأزرق. وحفرت الخنادق للاحتماء داخلها. وبنى الأهالي أمام مداخل المنازل، سواتر من الطوب الآجر بارتفاع متر ونصف المتر.. قال حمزة لعويس :
    ـ لم أعد أفرق بين صفارات الإنذار التي يجربونها وصفارة القطار، وهو يعبر فوق النفق. صفارة القطار تشبه النواح..
    رقدت حميدة في المستشفى وقد أصابتها حمى النفاس. هرع حمزة يلازم ابنته، وإن عجز عن التحرك السريع. قام جابر وعويس بكل شيء بحيث جعلاه يجلس على كرسي بجانب ابنته طريحة الفراش. تتوجع حميدة بآه لا تنطق غيرها. عازفة عن الطعام والشراب. وضعوا كمادات الثلج فوق رأسها، إلى جانب تعاطيها الحبوب الخافضة للحرارة. طفقت تهذي وتغيب عن الوعي، نائمة، ثم تصحو على الآه الموجعة. انهمرت دموع حمزة. ربت عويس على ظهره، وقد هزه المشهد. قال بصوت خفيض :
    ـ ربنا كبير.. ربنا يزيح عنها المرض.. قادر يا كريم..
    رد مع اقتباس  
     

  8. #44 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 43 ـ

    يفخر الأستاذ شفيق بصداقته لرجب. نمت العلاقة بينهما في دروس الفرنسية التي جمعتهما على منضدة واحدة. نمت أكثر حين التحقا بكلية واحدة. ينتهز فرصة عيد ميلادها فيهديها إنجيلا. ما أرق مشاعر المحبين وأحاسيسهم المرهفة.
    دلف إلى حجرتها. أعاد النظر إلى الهدية. مارسيل نائمة وهي تحتضن مريم. حرص على أن يلج الحجرة ويخرج منها دون أن يسمع له صوت يقلق الأختين. عاد يستلقي بجانب سنية، إلا أن مريم استوقفته، منادية. خرج معها إلى الصالة. همست :
    ـ مارسيل عندها مشكلة..
    ـ لما تصحو، نحلها..
    ـ لا يا بابا. أريد أن أحدثك بعيدا عنها..
    نظر إلى ساعته. الثانية عشرة. الوقت متأخر.. وإزاء إصرارها، جالسها في الصالة. روت له صداقتها لفتحي. عقب الأب :
    ـ أعرف هذا..
    صمتت برهة، استطردت بعدها :
    ـ أقصد أنها أحبته وهو يحبها..
    صمت..
    ـ مارسيل تهيم في الخيال. تظن الصداقة حبا. لا بأس من مسايرتها..
    ـ الموضوع خطير..
    انزعج..
    ـ خطير !.. ماذا تقصدين ؟
    لعب الفأر في عبّه، خشية أن تكون زلت معه. حكت له الصغيرة كل كلمة قالتها أختها عن علاقتها به، وعن أستاذ الهندسة الوصفية الذي طردها من المدرج، وعن رد فعل فتحي، بخروجه طواعية، تضامنا معها..
    ـ إنسان نبيل، آلمه ما تعرضت له زميلته.
    ـ الموضوع خطير يا بابا.. ليس بالبساطة التي تتصورها..
    ـ أنتن يا بنات تضخمن الأمور الصغيرة..
    ـ ألا تعلم أن هذه العلاقة صارت حديث الطلبة ؟
    ـ إذن الموضوع خطير..
    شبّك أصابع يديه مطأطئ الرأس..
    سألها :
    ـ هل أمك تعلم شيئا ؟
    ـ لم أحكِ لها..
    ـ حسنا فعلتِ..
    مارسيل لم تنم. أحست بحركة أبيها حين دخل الغرفة وخرج منها بصحبة مريم. أحست به وهو يتأمل الإنجيل الهدية. أرهفت السمع لهمسات مريم. نهضت وانضمت إليهما في الصالة. اختصر الأب الحديث :
    ـ مريم حكت لي.. هذه علاقة عادية.. لكن الضجة بين الزملاء هي التي كبّرت الموضوع..
    أطرق هنيهة ثم قال :
    ـ خلي بالك.. علاقتي بالأستاذ رجب لا تمس.. هو زميل وصديق أعتز به وأحترمه..
    تشجعت مارسيل لكلماته.. قالت مريم :
    ـ يبقى.. كل واحد يروح لحاله..
    ـ ما هذا يا مفعوصة ؟ أنا ورجب كل واحد يروح لحاله ؟
    ـ أقصد.. مارسيل وفتحي..
    قالت مارسيل بصوت متحشرج :
    ـ هل ذنبنا أن لكل منا دينا يختلف عن الآخر ؟
    ـ هذا ليس ذنبا..
    ـ هل أجرمنا ؟
    ـ إطلاقا..
    فكر مليا في المأزق الحرج الذي يكاد يعصف بابنته. لابد من إجراء جراحة لإنقاذهما. التمادي في العلاقة لن يؤدي في النهاية إلى شيء.
    ـ لابد يا بنات من الموافقة على ما قالته ماما..
    انزعجت مارسيل..
    ـ هل تريد مني الزواج من ناجي، وأنت أشد الرافضين له ؟
    ـ هناك ضرورة..
    ـ ألا يكفي الابتعاد عن فتحي ؟
    ـ ارتباطك بناجي سوف يخرس الألسن..
    بكت..
    لم يكن فتحي بأحسن حالا منها، فقد آلمه ما سمعه من حسان، من ضرورة إنهاء العلاقة.. هذه أول قصة حب ينبض بها قلبه. عرف قبلها ليلى وسعاد وأخريات.. من بعيد لبعيد.. مارسيل اقترب منها وصادقها وأحبها. أرقه سهاد أطار النوم من عينيه. وفي الصباح، قرر أن يتحدى مَن حوله، ويفرض على الجميع تلك العلاقة المبرأة من النزوة..
    مرت من أمامه. تحاشت الحديث معه. نادى عليها :
    ـ مارسيل..
    توقفت. تحاملت. كادت تضعف. تماسكت. قالت :
    ـ فتحي.. كل شيء نصيب. تقدم لي طبيب ووافق أهلي..
    ـ مارسيل.. أحبك..
    ـ حب ضائع..
    ـ كيف ؟ الحب يصنع المعجزات.. يمكنني إقناع أهلك.. أنتِ مسيحية وأنا مسلم. لكننا حبيبان..
    ـ حبنا يسير في طريق مسدود..
    طأطأ رأسه في الأرض. لم يستطع النطق بكلمة واحدة. تمالك نفسه. قال في ألم :
    ـ حبنا قدر..
    ـ لنحتفظ بصداقتنا الجميلة..
    اغرورقت عيناها بالدموع..
    تدخل حسان الذي ظهر فجأة. وقف بينهما قائلا :
    ـ خطوبة مارسيل سترفع الحرج عنكما، وتبقى علاقتكما، علاقة زميلين عزيزين..
    وجم الاثنان. تبادلا نظرات حائرة..
    رد مع اقتباس  
     

  9. #45 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 44 ـ

    كتب الطبيب في قصاصة ورق اسم نوع من الحقن، يبتاعونه من صيدلية خارجية. هذه الحقن غير متوافرة بالمستشفى. ناول القصاصة لجابر فخطفها عويس، قائلا في شهامة :
    ـ خلِّ عنك..
    طار بالورقة، عازما أن يعود إلى سكنه ويبيع الترانزستور، أو يرهنه.. عم حمزة ليس في جيبه مليم واحد، وجابر مثله. مرض حميدة أتى على كل ما ادخراه من نقود هزيلة. سار بحذاء سور المستشفى وعرج على شارع طلعت حرب، وهو ينهب الشارع قفزا. كل دقيقة لها ثمن. حميدة بين الحياة والموت. أتاه صوت في جنح الظلام يستجدي المارة :
    ـ لله يا محسنين..
    ذهل. يا الله. عزيزة !..
    ـ كيف حالك يا عزيزة ؟
    رنت إلى وجهه. عرفته من صوته وشكله وقوامه النحيل. قالت :
    ـ عويس !..
    سأل عنها وعن أحوالها. أين تسكن ؟
    ـ أسكن !.. سكني وعيشتي كلها على الرصيف. قد أغيره إلى رصيف آخر حسب حالة الجو والشمس. أجلس نهارا في الظل، وأختبئ ليلا من برودة الشتاء أسفل الكوبري..
    حكى لها عن حال حميدة، وأنه في عجلة من أمره كي يبيع الترانزستور أو يرهنه ـ وهو غال عنده ـ كي يشتري لها الحقن. قالت :
    ـ معي ما جاد به المحسنون. سأذهب معك.
    ـ كلك مروءة يا عزيزة..
    صادفا صيدلية قريبة، فقصداها واشتريا الحقن. فرح عويس بعثوره على عزيزة، كأنما عثر على كنز، وفرح أكثر بشرائه الحقن، دون أن يفرط في جهازه الأثير. انتحى بها في ركن من الصالة الطويلة، يقف على أخبارها وأحوالها.
    ـ الحال لا يسر. ثروت الملعون عملها.. فوجئت باثنين من الفتوات يحملانني بالقوة إلى شقة غير شقته، وقضى وطره.. منه لله..
    صاح مصدوما :
    ـ عملها.. النذل..
    بكت بحرقة. قاومته بكل ما أوتيت من قوة. طرحها أرضا ورقد فوقها، بعد أن شل ذراعيها عن الحركة. ضربته بقدمها. إزاء مقاومتها الشرسة، لانت عريكته. بدا حَمَلا وديعا، يعتذر عن فعلته. جرت إلى الباب تفتحه. نصحها بدخول الحمام تغتسل حتى لا يشك الجيران في شيء. صدقته. غسلت وجهها وذراعيها بالماء والصابون. أفاقت من هجمة الشيطان. مد يده بكوب عصير كنوع من الاعتذار. نصحها بألا تحكي شيئا مما حدث لأحد. وعدته. ثم شربت العصير.. فأحست بدوار، وغابت عن الوعي.. حين أفاقت، وجدته نائما بجوارها، وقد هتك عذريتها. لطمت وجهها وصرخت. كمم فاها، وحذرها من التمادي في الولولة. أجهشت بالبكاء من جديد.. طيب عويس خاطرها. قالت :
    ـ لم أسرق، ولم أزن . كنت أبحث عن عمل شريف أعيش من رزقه، ولما لم أجد، لجأت لطلب المساعدة من أهل الخير..
    جلس بجانب سرير ابنته، يدعو الله، يقرأ القرآن مما يحفظ وهو يسير. قال لجابر :
    ـ الظاهر يا جابر أن الكابوس الذي جسّم لي انهيار النفق، قد فُسر الآن.. فَسره مرض حميدة.. أهناك ضرر أكبر من هذا ؟!
    ـ ربنا يزيح عنها..
    قامت عزيزة بخدمتها ومساعدتها في قضاء حاجتها، ووضع كمادات الثلج على رأسها. ما فتئ حمزة يدعو الله أن يلطف بها..
    ـ اللهم إني لا أسألك رد القضاء، لكن أسألك اللطف فيه.
    في الصباح، أتاهم الطبيب مهرولا، وأمر بإدخالها غرفة العمليات. الحالة حرجة لا تحتمل الانتظار. لابد من فعل شيء، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لم يجب الطبيب عن أسئلتهم الحائرة. قال جملة واحدة لم يكررها :
    ـ الشفاء من عند الله.
    أغلقت غرفة العمليات. بدأ فريق الأطباء في أداء مهمتهم السريعة بإجراء عملية قيصرية لإخراج الجنين حيا أو ميتا، حيث يشكل وجوده خطرا على الأم المريضة. هكذا توصلوا فيما بينهم، بعد مناقشات صعبة.
    خارج الغرفة المغلقة، انتظر حمزة وجابر وعويس وعزيزة وعنايات ـ أخت جابرـ ومحفوظ.. وجوم خيم على الوجوه، وصمت أطبق على الشفاه. لحظات صعبة ارتفعت فيها أكف الضراعة إلى الله العلي القدير.
    خرج طبيب، وأغلق الغرفة خلفه. سأله جابر، أجاب :
    ـ مبروك.. رزقت بولد..
    بادره حمزة جزعا :
    ـ والأم يا دكتور، كيف حالها ؟
    ـ ننتظر حتى تفيق من البنج..
    وضعوها هي والرضيع على نقالة، ونقلوهما إلى الغرفة.
    بدأت تحرك أهدابها. ولا تقوى على قول شيء، سوى الآه الموجعة تخرج من صدر ذبيح !..
    أمسك جابر بيدها. السخونة ما زالت تسكن جلدها. طبع حمزة قبلة على جبينها. تنبهت إليه :
    ـ خير يا بَه..
    رنت إليه عيناها الكسيرتان. ثم التفتت إلى جابر توصيه :
    ـ خلي بالك من ابني..
    كلماتها أبكت الجميع..
    أغفت قليلا، بينا الممرضة تتابع زجاجات الجلوكوز، ونبض قلبها، وتنفذ تعليمات الطبيب في جرعات العلاج..
    رد مع اقتباس  
     

  10. #46 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 45 ـ

    أين أنتَ يا صديقي ؟
    أين أراضيك ؟
    هذا المساء، تكاثرت غيوم، واشتعل القلب حزنا. كم كان بودي أن أحدثك عن مارسيل البيضاء. نعم هي بيضاء. هكذا أحب أن أصفها. بيضاء البشرة، بيضاء الزي، بيضاء القلب. سوء الطالع هذه المرة ـ ككل مرة ـ لازمني.. فإذا حبيبة القلب الأخيرة، نجمة أخرى تنطفئ سريعا من سماء حياتي. وددت ألا أبوح بعلاقتي بها، حتى لا تقول لي عبارتك الأثيرة : " أنتَ بكل بنت معجب ". وددت أن أبرهن لك، في الوقت المناسب، أن حبي لها لا تقتلعه الرياح ولا تقوضه الأعاصير. وأنني لست هوائي النزعة، وأنني أعيش حالة حب حقيقية..
    وضع القلم على المنضدة، واسترجع ما حدث. كيف يحكي حكاية حبه من أولها ؟ هل تفي الرسالة بالمطلوب ؟ هل يستطيع التعبير عن مشاعره وأحاسيسه ؟ فليحاول..
    بدأ يسرد وقائع حبه لها. توقف عن الكتابة مرات عديدة، مترددا، حائرا، وفي آخر الرسالة طلب منه الرأي والمشورة.
    كتب رسالة لمصطفى يحييه في هذه الظروف الدقيقة التي يمر بها الوطن.
    تغيبت مارسيل عن المحاضرات. قلق عليها. استبدت به رغبة في السؤال عنها. قصد منزلها في جرأة غير معهودة. فتحت مريم الباب، ابتسمت وهي توسع له الطريق :
    ـ تفضل..
    جلس في الصالة، بجانب المنضدة التي تلقى عليها دروس الفرنسية. طال الانتظار. قدمت مريم عصير المانجو. سأل عنها، فأتاه صوت الأم مقبلة نحوه :
    ـ مارسيل عند خالتها..
    ـ تغيبت عن المحاضرات، فأتيت أسأل...
    صمت مطبق أحاط بالثلاثة..
    قال بصوت خفيض :
    ـ قالت لي مارسيل إن طبيبا خطبها..
    ـ لم يتقدم بعد..
    ـ أعتذر عن أي خطأ بدر مني..
    ـ عبرت عن مشاعرك.. ليس في هذا خطأ.. نحن بشر..
    فرحت مريم بالهدوء الذي شمل الأم، بعد العاصفة التي هبت أمس بينها وبين أبيها. ابتسمت وقالت لفتحي :
    ـ أعمل شايا ؟
    لم يتوقع هذه المقابلة الودية، فشجعته على القول :
    ـ هل يحق لي اعتبار مارسيل أختا لي ؟
    ـ أختك وزميلتك..
    هدأت زوابعه بعض الشيء. انصرف وشيء من السكون يطمئنه. كان حسان قد أوجعه بكلماته. طلب منه الابتعاد عنها حرصا علي سمعتها أمام زملائها. راجع حسان فيما قال. طمأنه إلى أنه استقبل بحفاوة، إلا أن حسان لم يغير موقفه..
    التقاها في ميدان عبده باشا. مرت ثلاثة أيام لم يرها خلالها. قال في عتاب :
    ـ لماذا كذبت عليّ ؟
    ـ فيم الكذب ؟
    ـ قلت إن طبيبا تقدم لخطبتك..
    ـ سيتقدم..
    ثم قالت بنبرة حادة :
    ـ فتحي.. علاقتنا مآلها الفشل. نحن نسير في طريق مسدود.
    تردد لا يعرف كيف يحسم الأمور. قال في أسى :
    ـ فرحت بك. كدت أعلن للعالم حبي.. كدت.. أتحدى بكِ العالم..
    ـ دعك من أحلام الشعراء..
    ـ لست بشاعر.. إنها لغة القلب..
    ـ أردت أن أعفيك من حرج لا تستطيع أن تواجهه مع أهلك..
    ـ ما الحل إذن ؟
    ـ لنكن أصدقاء.. وكفي..
    ـ كيف ؟
    ـ كالصداقة التي تربط والدي بوالدك.. كالزمالة التي جمعتهما معا..
    وافترقا. كل سار بمفرده.. متجهين إلي الكلية !
    رد مع اقتباس  
     

  11. #47 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 46 ـ

    من يضمد الجراح ؟
    لفظت حميدة أنفاسها في المساء. لم يشعر بموتها أحد. تيقظت من نومها وقد ذهبت عنها آلام المرض. هكذا في لحظة من الزمان يرحم الله فيها عبده. زوجها نائم علي الكنبة المواجهة للسرير, وهي ترقد علي السرير وفي حضنها الوليد. أغفى حين وجدها تغط في سبات عميق. تفصد جبينها بحبات العرق. استيقظت, رنت إلي الوليد بركن عينيها. تحسست وجهه ورأسه, نهضت لتضعه في حجرها, تضمه إلي صدرها, تقبل جبينه, وخده الأيمن فالأيسر. تقبل فمه, شعر رأسه.. ضمته أكثر.. كم سنة مرت وهي تحلم به ؟.. أرقدته في مكانه.. نادت علي عنايات كي ترضعه.. حضرت مسرعة.. حرصت أن تناولها الوليد بنفسها..
    ـ خذي بالك منه..
    ـ إنه في عينيّ..
    عادت تستلقي علي الفراش.. أحست براحة.. أغفت عيناها.. حلقت ملائكة من حولها.. رأتهن يمسكن بحمزة الصغير يطوفن به في أرجاء الغرفة, وفي أيديهن شموع.. كأنه السبوع.. ما شاء الله.. يحرسك الله يا ولدي.. فتحت عينيها.. شهقت شهقة مفاجئة من صدرها.. ثم غابت عن الدنيا، واستراحت في ضجعتها..
    عادت عنايات تضع الطفل مكانه.. تتحسس رأسه ووجنتيه.. نادت علي حميدة.. قبل أن تخرج.. لكن حميدة لا تتحرك.. لا ترد.. علا صوتها بالنداء, لم يلب النداء سوي الفراغ.. احتد الصوت.. فأيقظ جابر.. تنبه.. قال لها :
    ـ دعيها نائمة..
    كأنها لم تسمع.. هزت كتفها وهي تنادي بصوت متحشرج, بدأت تقلق..صرخت :
    ـ جابر يا أخويا.. تعال شوف حميدة..
    انطلق صراخها صواتا أيقظ كل من في البيت والبيوت المجاورة..
    لم يتملك حمزة نفسه من البكاء، حين جاءه الخبر.. تلعثم لسان عويس حين شاء أن يواسيه, سبقت الفتي دموعه.. احتضنه.. وقد غرق الاثنان في نهر الدموع !
    انكب علي المذكرات والكتب والمحاضرات، استعدادا لامتحان آخر العام بعد غد السبت الثالث من يونيو.. عليه أن يئد جراح القلب. دخلت أمه تحمل صينية الشاي, تقول :
    ـ لا تتعلق بالمستحيل..
    فهم مقصدها. وضعت الصينية بجانبه وخرجت وهي تدعو له بالنجاح. استبد به الشوق لرؤية أمين ومصطفي، اللذين ذهبا إلى سيناء في مهمتين مختلفتين. عم حمزة أتعبه وهن الصحة, وعويس حكي له ما فعله ثروت بعزيزة.. وحميدة بين يدي الله.. وهو.. عليه أن يئد جراح القلب.. إذا زهت وردة في بستان قلبك, اقطفها واستمتع برحيقها.. لكنها لن تدوم لك.. أأنت بكل بنت معجب حقا ؟ أم هو سوء الحظ يلازمك منذ كنت طفلا, تميل إلي الانطواء, وتحب من طرف واحد. لا تغنم بفرحة ينبض بها قلبك.
    فوجئ بابن الشيخ محمود يطرق الباب، وينعي إليه وفاة حميدة. نهض واقفا وارتدى ملابس الخروج على عجل. هرع إلى عم حمزة يواسيه ويشد أزره. التقى الشيخ محمود وجابر وعويس ومحفوظ وآخرين لا يعرفهم. جلسوا على كراسٍ اصطفت بمدخل النفق، يلتفون حول حمزة، يستمعون إلى آي الذكر الحكيم. كان النفق مظلما، وحركة السيارات بطيئة. حضر الفتوة ورجاله فزاحموا المكان..
    عاد يواصل ما قطعه من مذاكرة. إلا أنه من حين لآخر يفكر في مارسيل التي هجرها أو هجرته. لا يدري بالضبط مَن ترك الآخر, ويفكر في حمزة وجابر ومصابهما. ويستبد به الشوق إلى صديقيه البعيدين..
    بعد أداء الامتحان، التقى مارسيل عرضا، فحياها وحيته. سألته عن الامتحان وسألها.. وانصرفا.. اتخذ من حسان رفيقا. تحدثا عن الوضع المضطرب على جبهة القتال. هل سنحارب أم هي أزمة سياسية ؟
    يوم الاثنين موعد امتحان الفيزياء. وزع المراقب ورق الإجابة والأسئلة في التاسعة تماما. لم تمض دقائق حتى سمع دوي المدافع. اضطرب قليلا. سأل أحد الطلبة المراقب :
    ـ بدأت الحرب..
    طمأنه المراقب. وجه الكلام لكل الطلبة بأن يواصلوا الامتحان..
    مر الوقت عصيبا. بعض الطلبة فقد أعصابه، وسلم الورقة دون أن يخط حرفا واحدا..
    التقى حسان خارج اللجنة. وازدحم الطلبة وهم يقولون بعضهم إلى بعض : هي الحرب كتبت علينا..
    وفي الشارع، تعطلت المواصلات.. حيث وجهت سيارات هيئة النقل العام لخدمة جبهة القتال وأمور الدفاع المدني. سيارات محملة بأفراد الاتحاد الاشتراكي يهتفون بحياة مصر والنصر. ساد الشارع اضطراب. ثمة تفاؤل بأن النصر آت. اضطر فتحي وحسان ومارسيل إلى السير على الأقدام إلى شبرا. ملأت مكبرات الصوت الشوارع والميادين، تذيع البيانات العسكرية، بحسب ما ترد إلى الإذاعة. كم طائرة أسقطناها للعدو ؟.. خمسا.. أصبحت ثمان.. عشرا.. خمس عشرة.. عشرين.. أربعين.. كلما زاد العدد اشتعل الحماس وزاد التفاؤل بالنصر. مشى بمفرده من شبرا إلى إمبابة. لم يحس بتعب وهو ينصت للبيانات العسكرية المبشرة بالنصر. أحمد سعيد مذيع صوت العرب ينادي بصوته الحماسي :
    ـ أبشروا يا عرب.. تم تحرير جبل المكبر...
    رد مع اقتباس  
     

  12. #48 رد: نص رواية « نفق المنيرة » لحسني سيد ل 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 47 ـ

    أثاره ما سمعه من عزيزة. الشاب الوقح استباح عرضها. استلقى على ظهره عند مدخل الغرزة، ناظرا إلى اتساع السماء وقد غيبت الغيوم القمر. أنّب نفسه. هو الذي عرض عليها الخدمة في منزل ثروت. لو لم يطعه في البحث عن شغالة، ما حدث شيء مما حدث. ألقى باللائمة على نفسه. كيف يصلح الخطأ ؟ كيف يرأب الصدع ؟ أعز ما تفخر به البنت عفافها. ما من موضوع تتدخل فيه إلا ويفشل. أنت وش نحس. دعك مما قاله الرجل الطيب عم حمزة من أنك وش خير. من أين يأتي هذا الخير ؟ حميدة توفيت وهي تضع الجنين. لحظة مريرة واجهت حمزة وجابر. كل الأمور تسير إلى نهاية مأساوية. من الأفضل ألا تعرض غيرك للتهلكة. صحيح أن كل شيء بيد الله. لكن هل تستطيع أن تعفي نفسك من هذا النحس المصاحب لك ؟
    لاحظ محفوظ من الشرفة المقابلة قلق عويس، يفترش الأرض على غير عادته، ممددا جسمه الهزيل على حصيرة، واضعا رأسه على وسادة صغيرة، محلقا في ملكوت الله، ونجوم السماء تتناثر نقطا مضيئة. نهض يرحب بجاره، الذي قال :
    ـ فيم انشغالك ؟ وأين حمزة ؟
    ـ كان الله في عونه. نائم على السرير..
    أطلقت صفارات الإنذار فدلفا إلى الحجرة، يجلسان على الكنبة، ويهمسان بالحديث، حتى لا يقلق حمزة. إلا أن قلقه دون سبب معروف. انتفض وهو نائم، وصرخ.. زعق :
    ـ الحقوني.. النفق سيقع على رأسي..
    هرع عويس. دلّك جبهته وهو يقول :
    ـ اللهم اجعله خيرا..
    تنبه إلى من حوله. نهض يرحب بمحفوظ. تحدث عن مواجعه، وضميره الذي يؤنبه. حكى لهما قصة الوغد المدعو ثروت. وما فعله في المسكينة عزيزة. قال جزعا :
    ـ أنا السبب..
    قال محفوظ ملطفا :
    ـ أنت قصدت خيرا..
    سأله عما يمكن عمله من أجلها. قال محفوظ :
    ـ ادع لها..
    أردف حمزة :
    ـ وادع لمصر بالنصر..
    قال عويس وهو قلق :
    ـ ماذا لو أصلحت الخطأ وتزوجتها ؟
    سأله محفوظ مستغربا :
    ـ أأنت الذي زنيت بها ؟
    أجاب حمزة :
    ـ المفروض أن ثروت يبادر بإصلاح خطئه..
    بادره عويس :
    ـ كيف ؟
    قال حمزة :
    ـ يتزوجها..
    قال عويس :
    ـ لن يفعل.. إنه وغد..
    بادر بإعداد الشاي، والدنيا ظلام دامس. رجال الدفاع المدني يجوبون الشوارع، طالبين من الأهالي إطفاء الأنوار !.. دويّ المدافع يسمع في كل اتجاه.. تعيش البلاد في مأساة مع عدو شرس يحارب في كل الجبهات. مأساة الوطن في كل عين تنظر إليها، ومأساة عزيزة تعيش في قلبه الجريح. ناولهم الشاي وقال في مفاجأة لا يتوقعها أحد :
    ـ ما رأيكم في أن أتزوجها..
    قال محفوظ مستغربا :
    ـ تتزوج من ؟
    ـ عزيزة..
    ـ كيف ؟
    ـ لن أستطيع الوقوف ضد ثروت. لكن المسكينة ما ذنبها ؟ لابد أن نرد لها كرامتها..
    يئن حمزة متوجعا :
    ـ خلي بالك.. لقد حملت سِفاحا.. فكيف الزواج ؟
    ـ إذن.. أرفع قضية رد شرف ضده..
    ـ لا تكن أهوج..
    ـ لابد من حل يا جماعة..
    ذات مساء.. توجه إلى شحاذة زميلة لها، وسأل عنها، أجابت :
    ـ لم أرها البارحة. لا أعرف أين ذهبت ؟
    بدأ يبحث عنها، مرة ثانية.. وهو مصمم على عقد قرانه عليها.. كرد اعتبار للبنت المسكينة ! ولكن أين هي ؟
    نشط الكل في البحث عنها.. عويس وجابر وحمزة ومحفوظ.. لكن.. ما من حس، ولا خبر..
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. نص كتاب «روائي من بحري» لحسني سيد لبيب
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 22/03/2009, 02:44 PM
  2. ليشهد العالم..
    بواسطة ابو مريم في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 30/12/2008, 05:09 PM
  3. قراءة في رواية «نفق المنيرة» لحسني سيد لبيب
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 18/03/2008, 09:28 AM
  4. الأميرة دعاء
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى الواحة
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 03/01/2008, 03:53 PM
ضوابط المشاركة
  • تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •