ـ 36 ـ
بناء على رغبتها، خرج معها ليلة المولد، تزور المقام، تدعو الله أن ييسر الأمور، تكتمل فرحتها. انتفخت بطنها، أصبحت تشبه القربة التي يحملها بائع العرقسوس. بدأت تسير على مهل. تتحسس الانتفاخ. تأمل خيرا. تحلم به وهو يضحك. يتحرك داخل الرحم. يرفسها برجليه، تحلم به أيضا يخربش وجهها، يشد شعرها. تحلم به يحبو، يزحف، يقعد، يمشي.. يقول : أمي، أبي... تتحسس الانتفاخ وتأمل خيرا.. يحيط بها جابر وحمزة عن يمين وشمال، خشية الزحام.. يوسعان لها طريقا إلى المقام. لمحهما فتحي، توارى عن الأنظار سريعا. اندس وسط العشرات واتخذ طريقا منحنيا إلى مكان بعيد. فوجئ بمصطفى يصطحب نرجس. تعجبا للمصادفة التي جمعتهما. قال في تردد :
ـ أول مرة..
ـ هل معك أحد ؟
ـ وحدي..
كأن النظرات تلومه على المجيء بمفرده. تبادل مع مصطفى أحاديث مختلفة، ثم قال :
ـ نحن سنزور المقام، ونقرأ الفاتحة، ونصلي لله، ندعوه أن يحقق أمانينا..
حياهما. اختار أسرع طريق للعودة خشية أن يجد آخرين من المعارف والصحاب. لم يتوقع أن يصادف أحدا يعرفه. قصد أمين يكمل السهرة معه. بداخله مشاعر متضاربة عن الليلة الكبيرة. تريضا معا. دعاه إلى الفرجة على المولد، فرفض.. أكملا السهرة في مقهى الربيع. يلعبان النرد. ثم اتجها إلى الغرزة حيث يجلس عويس بمفرده، يستمع إلى أغاني أم كلثوم من جهازه الصغير. أعد لهما الشاي، قائلا :
ـ عم حمزة ذهب يزور سيدي إسماعيل الإمبابي هو وابنته وزوجها، اليوم الليلة الكبيرة..
ثم قال مبتهجا :
ـ المعلم الله يخليه أنهى الموضوع. اتضح أن السرقة افتراء وكذب. عزيزة بنت شريفة وبريئة.. منهم لله..
تعبت حميدة. أسنداها عند رجوعهم. الخطوات بطيئة. يبدو أن الزحمة أرهقتها..
رجع مصطفى ونرجس، وهما يتحدثان عن ترتيبات ليلة الزفاف، ليلة العمر. حددا موعدا الخميس القادم. اتفقت الأسرتان على الموعد. شقة الزوجية فرشت بأثاث بهيج. لم يتبق إلا الزفاف. ما أحلى هذا اليوم لقلبين عاشقين.
أنب فتحي ضميره. قطع عهدا على نفسه ألا يذهب إلى مسرح العطار مرة أخرى. هذا المكان لا يناسبه. لماذا يرتاده ؟ أمن أجل راقصة ترضي نزوة المشاهدة عنده، يضطر إلى الجلوس مع الحشاشين والعاطلين ؟ بدأ التأنيب يأخذ طابع الحدة. حدث نفسه أنه من الأجدى مقاطعة ثروت. إنه منحرف السلوك. يكفي ما حدث مع عزيزة. بدأ يكرهه. عليه الابتعاد عنه وإلا سيصبح منحرفا مثله. يود أن يتطهر من كل فعل دنيء ويسمو إلى الأرقى والأرفع. هذا ليس شعارا يهتف به، إنما إحساس صادق يتردد داخله، صورة نقية رسمها لنفسه. أبوه مكافح وأمه صابرة وأخواته مهذبات.. لماذا يكون سلوكه الخفي مشينا، بينا ما يجهر به ويظهره هو المبدأ والشرف والقيمة ؟ لا بد يا فتحي أن يكون مظهرك مثل مخبرك.. لا بد.. لا بد..
وأحس بقبضة يده تتكور ويدفع بها في الهواء، راغبا في فعل شيء ما..
مارسيل.. نقلته نقلة كبيرة من الانطواء على الذات، إلى الانفتاح على العالم. يكفيه أنه يلتقيها ويحدثها.. تبادله الحديث، تصادقه، تزامله.. مارسيل أصبحت عالمه الداخلي والخارجي. في كلماتها صدق. إنه يرسم لها صورة ملائكية. صارحها بأحواله المعيشية وطموحاته.. بدأت هي الأخرى تحدثه عن أسرتها، والصلوات التي تؤديها في الكنيسة. قال في حماس :
ـ كلنا ندعو الله.. نصلي له.. كلنا نعبد الله..
أردفت :
ـ الله محبة..
في جيدها تتلألأ السلسلة الذهبية، يتدلى منها صليب صغير..
تحير في نظرته. هل يمعن النظر في الصليب المتدلي إلى مفرق نهديها، أم إلى البريق المتلألئ في عينيها ؟
أتى النادل بعصير الليمون. انتقلت به إلى المحاضرات وحاورته في مسائل الهندسة الوصفية العويصة. حياهما أحد الزملاء. ذكرهما بمحاضرة الرياضيات قبل أن يغلق الدكتور باب المدرج، فأخبراه أنهما لا يرغبان في الحضور. استمرآ الجلوس في بوفيه الكلية، حيث يمتد الوقت بهما بامتداد وقت المحاضرة التي امتنعا عن حضورها!
اتفقا على الانصراف من البوفيه قبل انتهاء المحاضرة بربع الساعة. ستكون المواصلات أهدأ ويمكنهما الركوب بسهولة ويجد كل منهما مقعدا يجلس عليه. ثمة سبب آخر لم يعلناه، هو ألا يخرج الطلبة من المدرج، وهما ما زالا جالسيْن في البوفيه !
كالمعتاد، انتظر حتى استقلت السيارة العامة المتجهة إلى شبرا، ثم انتظر التروللي باس المتجه إلى إمبابة.
عندما انصرفت مارسيل، افتقد الحنان والرقة والمؤانسة. تشاغل في تأمل وجوه الواقفين بالمحطة. المحاضرة الثالثة لم تنته بعد. حضر التروللي باس. من الممتع والمريح أن تجد مقعدا خاليا تجلس عليه. تهادى التروللي بسرعته العادية. انشغل عمن حوله بليلة زفاف نرجس ومصطفى. أزف الموعد الذي حدده. احتار فيما يرتديه. ملابسه أصابها البلى. عند بدء الدراسة اشترى سروالا وقميصين. لديه بدلة متوسطة الحال، عمرها ثلاث سنوات. هي بدلته الوحيدة. بدأت تضيق على جسمه النامي. إنه في ورطة. يمكنه ارتداء معطف فوق القميص. تحير قليلا. قفز ذهنه إلى عمته الحبيبة. نزل عند محطة أبي العلاء. سار في شارع بولاق الجديد، قاصدا بيتها. رحبت به كعادتها. بدأ يراجع دروس أولادها في الابتدائي. أخبرها ـ في سياق الحديث ـ أن أحد أصدقائه سيتزوج الخميس القادم.. فهمت المطلوب. أوصته بارتداء بدلة جديدة. لكن الوقت لا يتسع للتفصيل عند الترزي، اقترحت عليه شراءها جاهزة. قالت تشجعه :
ـ الفلوس موجودة..
أعطته ما يكفي شراء بدلتين..
ـ هذا كثير..
استحثته على شرائها فورا من شارع فؤاد..
عاد إلى البيت محدثا أمه بلسان يلهج بالثناء على عمته. إنه لا يعرف كيف يسدد لها الدين. قال أبوه :
ـ عمتك صاحبة واجب، هي تقصد مساعدتك وتشجيعك..