[في رثاء الأستاذ الدكتور فتحي محمد أبوعيسى، رحمه الله تعالى]
الصقر الفصيح هو شيخي الأستاذ الدكتور فتحي محمد أبوعيسى، أستاذ الأدب والنقد بجامعة الأزهر، والعميد الأسبق بكلية اللغة العربية بالمنوفية....رحمه الله تعالى رحمة واسعة...
درَّسني في مرحلتي الإجازة العليا(الليسانس) والتخصص(الماجستير)، عشتُ معه مساق تاريخ الأدب الجاهلي في السنة الأولى، ومساق نصوص الأدب العباسي في السنة الثالثة، ومساق النقد الأدبي الحديث في السنة الرابعة، ومساق موسيقا الشعر العربي[القديم والحديث] في سنتي تمهيدي التخصص"الماجستير"...
رأيتُ فيه النفس السوية، والقلب الجريَّ والعقل الصحي والفكر النقي... مِنطيق، مُفلق، لسانه صحيح فصيح، لغته ذات سعة تركيبية وكَلِمية نادرة المثال، يمرق الكلام من فمه مروقَ السهم من الوتر، أعذبَ من الماء وألينَ من الهواء، يجري ماء الحِلْم من وجهه، عقلُه راجح، للمحسن مادح، وبفضله ناطق، وما يورده من لفظه صادق، وكذلك العاقل من أحكمته التجارب، ولا يكون حاطبًا مع كل حاطب...
لله دره من إنسان عربي أُعطِي علمًا وخُصَّ فطنةً وفهمًا، مع صفاء ذهن وجودة قريحة ونقاء سريرة، يوادُّ من يوادُّه ويسالم من يسالمه، ويتجنب من يعاديه ولا يُقدِم على شر!!!
في تراثه تُبَلُّ غُلَّتي وتُطفَأ لوعتي، إنه جنة تغُنُّ أشجارُها، وترِنُّ أطيارُها، وتشتجر أغصانها، وتعتنق غُدرانُها، فأرى فيه وجه الحياة الناضر وثغرها البارق وجمالها الساطع وبشرها الضاحك، وخيرًا سائغًا للشاربين...
حرك فيَّ ساكنًا، وأيقظ نائمًا، وأحيا بالمعارف مَيْتًا وأنشط خاملا، رضي الله عنه وأرضاه...
وقد رحل عن دنيانا في يوم جمعة من شهر مايو هذا العام، فقلت فيه هذه البكائية:
ركْب المـنون أمامـنا سيَّـارُ حـقٌّ يـقينٌ، ما له إنكارُ
خضعت له كلُّ الخلائق فطرةً تمضي له الأعلام والأصفار
في كل يوم صرعة نبكي بها عِـبَر لنا، هل تدمعُ الأبصارُ
خطـب جليل هزنا في آنـنا الكـل غَُـمَّ وما بنا سُمَّار
الحزن لوَّن حالنا ومجالـنا الدمع ساد، اسوَّدت الأشعار
الأرض والهةٌ وفيها هـزةٌ في سقفها ناحت لنا الأقمار
غطى رداءُ الحزن كلَّ مغرد وذوت على أحلامنا الأزهار
وغدا الربيع بـلا ربيعٍ عندنا جنس العروبة بالأسى مَوَّار
أرض الكنانة حالـها مكلومة تبـكي حـكيمًا لفظه أذكار
آدابنا ثكلى لفقد وحيدها "فتحي أبوعيسى"، هدًى مدرار
نحيا الرثاء وسيطرت أشجانه لمـا أذاعـت نـعيه الأخبار
الكل بالأحزان بـات مسربلاً إذ غـاب عنـا قائد مِخْيار
فصحى الحديث تلعثَمَتْ وتعجَّمت قـد غاب عنها مفلق مغوار
هذي المساجد ما بها عُمَّـارها فـقـدت خطـيبًا جيله أخيار
ومجامع اللغة الشريفة زلزلت مـا صار فيها الفارس الكرار
"فتحي أبوعيسى" عالم ومـعلِّم فـي كـل فنٍّ عُـمرُه أسفار
في الأزهر الصافي ارتوى كل الهدى وروى الجـميـع فشأنه إعمار
في محـفل العلماء نجم ساطع شـهدت له أجيـالنا الأحرار
أعطى الفصاحة عقله وجهاده أحـيا الجـزالةَ نصُّه الدوَّار
إن يفخروا بالنقد كان عميده رجـل التراث تحبـه أشعار
لفـتاتـه فـي شعرنا قِيثارةٌ لـذَّت بـها بجـلالة آثـار
ولسانه ذَرِبٌ طـليق مُمْتعٌ بفـرادةٍ وحـلاوة تُخـتار
عاش الحياة مُعمِّرًا لا ينثني مَـن لا يُعمِّر مُـدِّعٍ خوَّار
سيسجل التاريخ أن نتاجه شهدت له الأمصار والأعصار
الله يغـفر ذنـبه ويزيـده طـوبى له فمـثاله الأطهار
د/صبري فوزي عبدالله أبوحسين
25/6/2008م