ـ 4 ـ

اعتدت رؤيتها فى العيادة . أنست إليها مثلما أنست إلى الطبيب . تصيخ السمع ـ مثلى ـ لحكايات العجوز عن المذابح التى عاشها وهو يحاول الفرار بحياته . يسيطر بحديثه علينا ، لا نتململ ، أو نلقى أسئلة . نظل صامتين . نكتفى بالإصغاء ، حتى ينهى ما يحكيه ، فنبدأ فى السؤال عن الغامض والمجهول ..
تحدث عن بوصلة فى داخله ، اتجاهها الوحيد ليس الشمال الجغرافى فى إطلاقه ، لكنها تتجه إلى أرمينية وحدها ، الملامح الواضحة والشاحبة والغائبة . لا معنى لحياة الإنسان بعيداً عن الأمكنة التى ألفها : البشر والبنايات والمناخ والمعتقدات والعادات والتقاليد .
يقطع كلماته بتنهدات ، أو بنظرات صامتة ، متأملة ، لأفق الميناء الشرقية . يبدو ـ فى شروده ـ أنه فى حوار دائم مع نفسه . ربما انعكست مشاعره ـ أثناء الحوار ـ فى بسمة ، أو تكشيرة :
ـ مضى العمر وأنا أعد نفسى للعودة إلى أرمينية ، تسرب دون أن أشعر ..
وشى صوتها بنبرة مجاملة :
ـ متعك الله بطول العمر ..
كانا يتحدثان بالعربية ، وإن ضمنا كلماتهما مفردات بلغة لا أفهمها . أخمن أنها الأرمنية . مرة وحيدة تحدثا باللغة التى لا أعرفها . غلب على ملامحه انفعال . وكانت تصغى باهتمام واضح . أنظر إليها ، أتأملها ، أدقق فى الشعر المنسدل ، والعينين الزرقاوين ، الواسعتين ، والأنف الدقيق ، والشفتين كورقتى وردة . يختلط الزمان والمكان . يبعث الصوت الطفل راحة فى نفسى . أتجاهل نظرة العجوز الفاهمة ..
أطلت النظر إليها ، أنتظر التفاتة قد لا تأتى . لاحَظت اتجاه نظرتى ، فأحسست بالحرج . تشاغلت بالتطلع إلى قارب يصيد المياس فى المينا الشرقية ..
تنبهت على ارتفاع صوتها :
ـ جئت إلى مصر إذن فراراً من مذابح الأتراك ضد الأرمن؟..
قال الدكتور جارو :
ـ لعلى أحببت أن أعمل فى ظروف مواتية ..
ونزع نظارته ، وجرى على عينه بظهر إصبعه :
ـ كان من الصعب أن أعمل فى ظروف توتر دائمة ..
أعاد النظارة إلى موضعها ، واتجه إليها بنظرة حزينة :
ـ سألت عن البداية . ما حدث اختلطت فيه البداية والنهاية ، اختلط فيه كل شىء ، لكننى سأحاول ..
واعتدل فى جلسته :
ـ كل الشواهد والإجراءات وأخبار الصحف دلت على أن إبادة الأرمن على أيدى قوات الأتراك كان مخططاً لها من قبل ، من قبل أن يوجد تبرير العنف الذى اتخذ ذريعة للإبادة . كانوا يخشون فكرة حصول الأرمن على الحكم الذاتى أو الاستقلال . لو حدث فسيفقدون أقاليم مهمة من أراضى الدولة العثمانية ، تشمل أجزاء من اليونان وصربيا وبلغاريا . كتبوا فى صحفهم : يجب أن يباد الأرمن . لقد زاد عددهم إلى درجة أصبحوا معها يمثلون خطورة على العرق التركى . الإبادة هى العلاج الوحيد .
كان قيام الحرب العالمية الأولى فرصة لتنفيذ خطة إبادة الأرمن فى الدولة العثمانية . أذكر يوم الثانى من يناير 1915 ، فى بلدة أورمية الفارسية والمناطق المحيطة بها . انسحب الجيش الروسى المرابط فى المنطقة من سنة 1910 ، وهاجر الأرمن إلى داخل فارس . من تأخر رحيله واجه المذابح المدبرة بواسطة قوات الأتراك والأكراد التى دخلت المنطقة بعد انسحاب الروس . توالت ـ بعد ذلك ـ عمليات التصفية ، حتى على المستوى الوظيفى . أقيل موظفو الدولة الأرمن من وظائفهم ، وجرد العسكريون الأرمن فى الجيش العثمانى من أسلحتهم ورتبهم ، وشكلت طوابير عمل من الجنود الأرمن ، وبدأت عمليات مصادرة واسعة للأموال الأرمنية ، ثم اتخذ قرار بإبادة الأرمن ، والتخلص من القضية الأرمنية . وتكونت بالفعل لجنة ثلاثية للإشراف على تنفيذ برنامج الإبادة . صدرت الأوامر بإبادة كل الذكور الأرمن من سن اثنتى عشرة سنة .
دفعوا الأكراد إلى قتل الأرمن فلا يحدث أى تقارب بينهما ، ويظل العداء قائماً . لم يجد الجنود الأكراد فى هجومهم على البنادر الصغيرة والقرى سوى مقاومة ضعيفة ، بوسائل بدائية . كان أكثر الرجال القادرين مجندين فى جيش السلطان . جرت مذابح جماعية مرتبة ، أبيد فيها البشر ، وأزيلت القرى . لم يبلغ حلب والموصل سوى خمسين ألفاً من حوالى سبعمائة وخمسين ألفاً فى بداية رحلة النفى ..
أذكر من الولايات التى تنقلنا بينها : ديار بكر ، وان ، بتليس ، أرضروم ، خربوط ، بورصة ، أضنة ، موش . تصور قادة تركيا أن الأرمن فى ترحيلهم إلى البلاد العربية ـ عبر الصحارى والجبال ـ سيجدون ظروفاً دينية وعرقية معادية ، ويواصل العرب مهمة إبادة الأرمن . لكن ذلك لم يحدث . قدم العرب العون إلى الآلاف من الأرمن الذين طاردهم الموت ، وواجهوا المجهول ..
قتل الكثيرون فى صحراء " مارات " ، على بعد كيلو مترات من دير الزور ..
طالعتنا دير الزور ـ بعد أيام طويلة ـ فيما يشبه التيه . المدينة تقع على الضفة اليسرى لنهر الفرات . يصلها جسر بالجزيرة الصغيرة فى وسط النهر . أذكر الأشجار والمزروعات التى كانت تغطى مساحات الرؤية فى الجزيرة . تحددت إقامتنا ـ فى الأشهر الأولى ـ داخل الجزيرة . لا فرصة للفرار . يحيط الجنود العثمانيون بالمناطق المقابلة . مراكز حراسة ، تقف على الجسر الموصل بين دير الزور والجزيرة ، والجسر الآخر الموصل بين الجزيرة وأرض ما بين النهرين . كان العرب يعبرون الجسرين فى حرية ، دون أسئلة ، ولا تفتيش . أما الأرمن فلابد من إبراز ما يحملون من وثائق ، وإخضاعهم للمراقبة والتفتيش ..
لاحظت نورا أنى بدأت أتململ فى جلستى ، وهو يعيد ما سبق أن رواه . نورا تنصت ـ أو تتظاهر بالانصات ـ وترنو ناحيتى بنظرة جانبية ، مبتسمة .
قال الدكتور جارو :
ـ تركت تركيا أعداداً من الأرمن يفرون إلى البلاد العربية . أوعزت للعرب بقتلهم ، فرفضوا . وهو ما يحسبه الأرمن للعرب ..
ثم وهو ينقر على المكتب بسبابته :
ـ ما قدمه العرب من مساعدات للأرمن كان ينطوى على مجازفة غير محسوبة . رفض الولاة والرؤساء والموظفون ذوو الأصول العربية أن ينفذوا الأوامر الصريحة بإبادة الأرمن المرحلين ، وواجهوا عقوبات بلغت حد الإعدام . لم ينفذ الوالى العربى فى دير الزور ما تلقاه من أوامر عثمانية . زاد فشيد مبنى لحوالى ألف من أطفال الأرمن ، واستضافهم ـ لفترة ـ فى دير الزور ـ قبل أن يطرد من منصبه . كنت واحداً ـ لك أن تعتبرنى كذلك ـ من المندسين وسط هؤلاء الأطفال ..
فى سبتمبر 1915 تمكنت السفن الإنجليزية والفرنسية الموجودة فى البحر المتوسط من نقل آلاف الأرمن إلى الإسكندرية وبور سعيد . كانت الحياة قاسية . الطعام يصل بصعوبة ، لا يزيد عن خبز وجبن وزيتون وبصل ولبن للأطفال . كنت واحداً ممن يعانون الجوع والمرض والإرهاق والبرد والتيفوس والظروف القاسية ..
أقمت ما يقرب من الشهر فى خيمة ، ضمن قرى من الخيام ، خصصت للمهاجرين الأرمن فى الإسكندرية . جاوز عملى كطبيب مجرد الإقامة فى خيمة . صرت واحداً من أطباء الصليب الأحمر الأرمنى ، إلى جانب أطباء وممرضات من جنسيات مختلفة . أفادتنى مهنتى فى الخروج إلى المدينة . لم ألجأ إلى القفز فوق الأسلاك الشائكة ، ولا إلى التسلل فى ظلمة الليل ..
أضاف فى نبرة تأكيد :
ـ لولا إقامتى القصيرة فى دير الزور ، ما استطعت التنقل مع أعداد ظلت فى تناقص ، إلى حلب ، ومنها إلى الإسكندرية ، لأفتتح هذه العيادة ..
وتنهد :
ـ هذا اختصار لرحلة طويلة ، قاسية ، لا أتصور كيف عشتها .
وأشاح بيده :
ـ ذلك زمن قديم . رويت ما احتفظت به ذاكرتى ..
قالت نورا :
ـ ألم تنس بعض الوقائع ؟
مط شفتيه وهز رأسه :
ـ لا أظن !
رنوت إلى العجوز . آلمتنى نظرة مفعمة بالحزن . أدركت أن الرجل يعانى ..
وهى تدير خصلة الشعر بإصبعها :
ـ لماذا يرتكب الناس هذه الجرائم ؟
واتجهت إليه بملامح متسائلة :
ـ هل اعتبر الأرمن مذابح العثمانيين قدراً ؟
قال جارو :
ـ مشكلة الحركة القومية الأرمنية أنها لم تكن موحدة . لم يحدث تنظيم يحاول منع عمليات العنف والذبح التى راح ضحيتها آلاف الأرمن ..
ولجأ إلى التعبير بيديه :
ـ قلبت الحرب العالمية الأولى كل الحسابات ، وأحدثت ارتباكات فى صفوف الأرمن لم يكونوا قد أعدوا أنفسهم لها ..
ثم وهو يلوح بسبابته :
ـ مع ذلك ، دفع جميع الذين كانوا وراء المذابح حياتهم بواسطة جماعة الطاشناق الأرمنية . أفلح فدائيو الجماعة فى اغتيالهم قبل مرور سبع سنوات على مذابح 1915
واكتسى وجهه إمارات جدية ، وقال كمن يحسم أمراً :
ـ منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى أوائل هذا القرن ، ذبح ما يقرب من المليون نسمة . القرار الذى اتخذه كل الناجين من المذبحة ، وإن لم يعلنه أحد ، هو ألا ننسى ما حدث فى تلك الأيام . نحترم ذكرى من قتلوا . قد ينسى العالم ، لكن ليس من حقنا ، ولا واجبنا ، أن ننسى .
لم يتحدث عن أسرته : أبويه ، زوجته وأولاده ، إن كان قد تزوج وأنجب . هو الدكتور جارو فارتان ، المواطن الأرمنى . ثمة شىء يغيب عن وجدانه منذ أجبر على الرحيل . ما حدث قطع الفرع بالجذور ، فقد الصلة بمن ينتمى إليهم ، وإن لم يقتصر حنينه إلى المعانى المطلقة . من المستحيل أن تترك وطنك ، وتتخلى عن البيئة التى ألفتها ، وأحببتها ، إلى عالم تجهله ، ولا تعرف عن ناسه ، ولا عنه ، شيئاً . من المستحيل أن تختلق لنفسك وطناً . الوطن حيث نشأت ، وكونت الصداقات ، وعايشت الذكريات ، وخضت التجارب الحلوة والمرة ، والمغامرات الحسية ، ونسجت العلاقات ، وألفت الأمكنة ، هى ـ فى الذهن ـ والوجدان ـ حتى لو أغمض الإنسان عينيه ..
العيادة هى حدود صداقتنا . حدود العالم الذى تعيش فيه هذه الصداقة . فى حياته مناطق ومساحات أغلق أبوابها جيداً ، أحاطها بأسوار لا يأذن لأحد بالقفز فوقها . لا لقاءات خارج الشقة ، أو البيت . لم يشر حتى إلى مكان إقامته ، بعيداً عن العيادة . التقطت من كلماته أسماء : ترام الرمل ، الإبراهيمية ، طريق الكورنيش ، مدرسة يوغوصيان الأرمنية ، نادى سبورتنج ، مصلحة الجوازات ، التريانون .. لم تشكل قسمات واضحة فيسهل تصورها .
حين أبديت ملاحظة على اتساخ البالطو الأبيض ، تحدثت نورا ـ بعفوية ـ عن تعدد البلاطى البيضاء النظيفة ، المكوية ، فى دولاب حجرة نومه . أدركت أنه يستقبلها فى بيته ، يخصها بما لا أعرفه ، ولا أشار إليه فى جلساتنا . لم أناقش الأمر ـ بينى وبين نفسى ـ ولا خمنت أفقاً مثيراً .
داعبته بالقول :
ـ أتصور أن حياتك موزعة بين البيت والعيادة ، أو فى الطريق بينهما ..
سرح فى هيئة من يتأمل معنى الكلمات ، ثم أومأ موافقاً ..
أطالت نورا التحدث عن زيارة العجوز لكنيسة الأرمن الكاثوليك . كانت زيارته الأولى . تناثرت كلمات : المذبح والتراتيل والأرغن والزيت المقدس والمناولة والشموع والتراتيل ..
أرجع العجوز موافقته على اقتراح نورا بزيارة الكنيسة إلى تقدمه فى العمر . لا بأس من أداء الطقوس الدينية ، حتى لو كانت احتمالات الحساب فى الآخرة ضئيلة .
***
لاحظت نورا ما تعمدته ، وإن تصورت أنى أسترق النظر إليها . راحت ترمقنى بطرف عينها ، كأنها تهم بإمساك اللحظة .
قلت ، واليأس يكاد يغلبنى لأثير اهتمامها :
ـ هل حصلت على الليسانس من جامعة فاروق الأول .. أو من فرع جامعة القائد إبراهيم ؟
قالت :
ـ جامعة فاروق الأول أنشئت فى 1942 . أعتز بأنى سأكون من أولى الحاصلات على الماجستير ..
وأدارت خصلة الشعر بإصبعها :
ـ إذا كنت خريجة أول دفعة فى قسم التاريخ بآداب جامعة فاروق الأول ، فإنى الآن أول طالبة دراسات عليا ..
فطنت ـ وأنا أسترق النظر إلى وجهها ـ إلى الشامة الصغيرة أسفل ذقنها ..
شغلنى ـ فى اللحظة التالية ـ تدبير لقائى بها ، بعيداً عن عيادة الدكتور جارو . أضع فى عينى نظرة ، تشى بصمتها أنى أريد أن أقول لها شيئاً . أصارحها بما أعجز عن البوح به ..
متى ؟ وكيف ؟ وماذا لو نقلت إلى العجوز ما أعرضه عليها ؟ هل تكون النتيجة ابتعادى عن حياة جارو ، وعن حياتها ؟