ـ 6 ـ

قال فيصل مصيلحى وهو يعيد الأوراق :
ـ لازلت تصر على السير فى الزقاق المسدود .. فلسطين لن تتحرر بالمقالات ولا بالمظاهرات ..
ثم وهو يهز قبضته :
ـ لن تحررها إلا القوة !
تعمدت اختيار نبرة مهونة :
ـ القوة تملكها الجيوش .. نحن لا نملك إلا المظاهرات والمقالات لتعبئة الرأى العام وإدانة الحكام ..
غاظه تردد " حدتو " فى إدانة ما تفعله عصابتا شتيرن والهاجاناه ضد شعب فلسطين . سأل ، وناقش ، وأبدى الملاحظات . لم يقتنع بأسباب الصمت . وجد فى دعوة الإخوان المسلمين ما لم يفطن إليه . كأنه يتعرف إلى دعوة الجماعة للمرة الأولى . اطمأن إليها . أزالت ما عاناه من ارتباك لصمت جماعته عما يجرى فى فلسطين :
ـ أنا مسلم .. والانضمام إلى الإخوان المسلمين قرار صائب .. متأخر ..
لم ينضم إلى جماعة ولا تنظيم من أى نوع . اهتماماته دينية ، وإن ظلت بلا أطر تحددها . ما يقتنع به يقوله ، أو يفعله . لا يشغله إن صادف قبولاً ، أو واجه الرفض . كنت أحدس انتماءه إلى جماعة الإخوان المسلمين . آراؤه وتصرفاته وضعته فى إطار أراه من خلاله . الأخوان هم الحراس على شريعة الإسلام ، الراعون لمصلحة الأمة . يحدثنى عن دروس الشيخ البنا . آراء الإخوان فى أحوال المجتمع . يدفع لى بكتب ، تدل عناوينها على ما تنطوى عليه : الإسلام فى طور جديد لحسن البنا ، تفسير ابن كثير ، إحياء علوم الدين للغزالى , الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه لعبد القادر عودة ، الاتجاهات الوطنية فى الأدب المعاصر لمحمد محمد حسين ..
قضايا الدين فى المؤخرة من اهتماماتى . تشغلنى قضايا السياسة : الاستقلال ، الديمقراطية ، فساد الحكم . ليست وحدها ما كنت أكتب عنه ، لكنها اجتذبتنى فيما يشبه الدوامة ..
شارك فى حملة التبرعات . وضع على ساعده الأيمن شارة من القماش باللونين الأحمر والأسود ، كتب عليها بخط كبير : انقذوا فلسطين ..
لمح نظرتى إلى الكتاب ـ فى درج مكتبه العلوى ـ عن أعمال المقاومة الشعبية . حدثنى عن تعلمه فك أجزاء المسدس ، وتركيبه ، واستعماله . تدربه على إلقاء القنابل اليدوية . تفرقته بين أنواع المفرقعات والمواد الناسفة وأدوات التفجير ..
قلت :
ـ العنف لن يؤذى إلا المصريين الغلابة ..
فى بالى حوادث إلقاء المتفجرات على معسكرات الجيش البريطانى ، وأماكن تجمعاته ، وعلى نادى الاتحاد المصرى الإنجليزى . أعرف أن الهدف هو إظهار غضب المصريين من احتلال الإنجليز لبلادهم ، وأن عدم الجلاء سيؤدى إلى حوادث أخرى ، مماثلة . هدف جميل ، ومطلوب . أخشى أن تخطئ القنبلة الهدف الأجنبى فتصيب هدفاً مصرياً . عمّق من إحساسى بالخوف والمشاركة وقوع اعتداء على كنيسة فى الزقازيق . اتهم الإخوان المسلمون بأنهم دبروا ، ونفذوا ، ما حدث . كان فيصل يكتفى بقراءة الأخبار . يقرأها جيداً . ربما أعاد قراءتها ، ثم يطوى الجريدة . يضعها على طرف المكتب . لا يسأل ، ولا يستوضح ، ولا يبدى رأياً . حتى النظرة التى أحرص أن تحمل معنى ، يتجاهلها ، يكتم حتى مشاعره . تظل ملامح وجهه ساكنة ، وإن وشت آراءه وتصرفاته بما يخفيه . تكررت رؤيتى له وهو يعيد تلاوة سورتى الأنفال والتوبة ، وهو يقرأ كتب حسن البنا ، وهو يدخل إلى شعبة الإخوان فى بحرى ..
قال :
ـ ليس الأمر كما تتصور ..
أضاف فى لهجة حزينة :
ـ أعادت لى اللجنة العليا للمقاومة طلباً بالسفر إلى فلسطين ..
ثم وهو يشير إلى عينه :
ـ الكشف الطبى أثبت ضعف بصرى ..
وحومت نظراته فى الفراغ :
ـ كنت أريد الانضمام إلى كتائب الإخوان..
قاطعته :
ـ قرأت أن الإخوان يريدون مصر عن طريق فلسطين ..
ـ كذب !.. يريدون فلسطين عن طريق مصر ..
واتجه ناحيتى بنظرة متسائلة :
ـ لماذا لا تتطوع ؟
ـ لم أفكر فى هذا الأمر ..
ـ ستعود فلسطين بالقتال وليس بالكلمات ..
قلت فى هدوء :
ـ ما قلته يصنع من الكلمات شعاراً جميلاً ..
قال :
ـ هل تتصور أن فلسطين ستعود إلى العرب بمقالاتك ؟
وأنا أغالب شعوراً بالعجز :
ـ ما أتصوره أننا لا نتعامل بجدية مع الحدث !