ـ 9 ـ

أشارت نورا بيدها إلى شارع توفيق ..
قلت :
ـ مظاهرة ..
ـ لماذا ؟
ـ لألف سبب ..
ثم وهى تصلح بأصابعها من فوضى شعرها :
ـ اتهم النقراشى الإنجليز فى مجلس الأمن بالقرصنة ، وعاد ليمارس القهر على المصريين .
كنا واقفين على باب مكتبة دار المعارف . صحبتها لشراء مراجع ، واشتريت كتاب محمد خطاب " المسحراتى " ..
اعتدت أن أقضى ساعات فى مكتبة كلية الآداب ، فى البناية المطلة على شاطئ الشاطبى . أتشاغل بقراءة ما أشعر أنى سأفيد منه فى دراساتى . على الجانب المقابل من الطاولة الخشبية المستطيلة ، اللامعة . تضع نورا المراجع أمامها . تسجل فى بطاقات ما ترى أنه يفيدها فى رسالتها . تومئ برأسها ، دلالة أنها تستعد للانصراف . أسبقها إلى الباب ..
خلفت المظاهرة شارع توفيق . اتسعت مساحتها باتساع ميدان محمد على . انجذبنا نحو الهتافات والزحام . سرنا فى قلب المظاهرة . لم نعرف إلى أين تتجه . اندسسنا فيها ، التصق كل منا بالآخر ، ورحنا نردد هتافات كان الشاب فى مقدمة المتظاهرين يرددها ، ضد الصهيونية والولايات المتحدة ، وبريطانيا .
أرنو بجانب عينى إلى نورا . أشعر أنها قد استغرقت تماماً فى المظاهرة ، والهتافات ، وتكوير قبضات الأيدى ، وتحدى الخطر . يعلو صوتها بالهتاف ، وإمارات النشوة تكسو ملامحها ، وتخبط الأرض بقدميها ، وتلوح .
علا صوت الشاب ـ فجأة ـ بهتافات غير التى كان المتظاهرون يرددونها وراءه : يسقط ملك النساء والحفاء .. لا ملك إلا الله .. فاروق يا نور العين .. أمك مرافقها اتنين .. على ماهر واحمد حسنين .
لم أفكر ـ لحظة ـ فيما علا به صوت الشاب . حتى الهتافات التى رددتها وراءه ، لم أتدبرها ، ولا تنبهت إن كنت قد استمعت إليها من قبل ، أم أنها كانت وليدة اللحظة . مزق الشاب ـ فى مقدمة المظاهرة ـ العلم الأمريكى ، وأحرقه .
عكس التصفيق وترديد الهتافات ، تأييد المطلين من النوافذ ، والواقفين فى المقاهى ، وعلى أبواب البيوت والأرصفة .
هدأت المظاهرة فى اقترابها من شارع فرنسا . لاحت أمام قسم المنشية قوات بوليس ازدحم بها الشارع ، وأقامت الكردونات . خفتت أصوات المتظاهرين وهى تهتف بالنشيد " بلادى بلادى فداك دمى " . تلفتوا يبحثون عن قطع الحجارة ، وأيدى العساكر تحمل الهراوات والبنادق ، والجياد تجرى وسط الجميع ، لا يستطيع حتى العساكر ضبط خطواتها . لجأ العساكر إلى كعوب البنادق ، يضربون ويضربون ، لا يتحرون المواضع التى تتجه إليها ، ولا تشغلهم الآثار الدموية ـ وربما القاتلة ـ التى تحدثها . اختلط وقع الهتافات ، وتماسك الأيدى ، والضربات ، والصرخات ، والصهيل ، والقنابل المسيلة للدموع ، والدماء النازفة ..
***
جاءنى صوتها فى التليفون ـ بعد غيبة أيام ـ فاتراً :
ـ إن أردت ، يمكن أن نلتقى فى موعدنا .
لم تشر إلى المكان ، لأنى كنت أسبقها إلى الكورنيش الحجرى أمام مدينة الملاهى بالأزاريطة . ربما سرنا إلى السلسلة ، أو إلى قبالة تمثال الخديو إسماعيل ، أصحبها إلى مكتبة كلية الآداب . مرتان ، التقينا ـ خارج البيت ـ فى ميدان أبى العباس ، وعلى شاطئ الأنفوشى . زرت معها ـ للبحث عن مراجع ـ المركز الثقافى الأمريكى بشارع فؤاد .
تكلمت عن الموعد ، ولم تحدد المكان .
حدست أنها تقصد الموضع الذى اعتدنا اللقاء فيه .
سرنا فى اتجاه بحرى . خلفنا مرسى القوارب فى الميناء الشرقية ، والشارع المفضى إلى معهد الأحياء المائية ، وقلعة قايتباى ، ومساكن السواحل ، وكومات الحجارة والردم تتسع بها مساحة الأرض أول الأنفوشى ، وورش المراكب . تناهى أذان العصر من مسجد طاهر بك أول شارع الحجارى .
أمسكت بساعدى . ساعدتها على القفز ـ بأقدامنا الحافية ـ على الكورنيش الحجرى ـ قبالة قصر أم البحرية ذى الطابع الشرقى والطوابق الثلاثة ـ إلى داخل الشاطئ . إلى اليسار ثكنات الحرس الملكى ، وقصر رأس التين ، وإلى اليمين البيوت التى تآكلت واجهاتها بملح البحر ، وفى الأفق تعلو الجزيرة الصغيرة
مد الموج يلامس الرمال . تضوى لحظات ، ثم تعود الرمال إلى انطفائها ، بامتصاصها للماء ، وبحرارة الشمس ..
يترامى صوت ارتطام الأمواج بالصخور ، أسفل الكورنيش الحجرى ، ترافقه صيحات النورس ، وهبات الريح المندفعة من ناحية الشمال ..
جلست فوق الكورنيش . تحتضن ساقيها ، وترنو إلى الأفق . يترامى صوت تكسرات الأمواج . وثمة بقايا طحالب وأعشاب وقناديل بحرية ، واندفعت كابوريا نحو حجر داخل الرمل ..
انداحت دفقة هواء مفاجئة . طار أسفل فستانها ، فظهرت ساقاها وما فوق ركبتيها . تملكتنى رغبة أن ألمس البشرة الوردية ، الناعمة ..
لاحظت أنى أختلس النظر ، فشبكت يديها على الركبتين ، ونطق التوتر فى ملامحها ..
قلت لمجرد أن يدور حوار :
ـ لكل إنسان حلم .. وحلم هذا الصياد تركز فى السنارة التى تنتهى بها القصبة .. إنها وسيلته بالطعم الملتف حولها لاجتذاب السمك !
قالت :
ـ قرأت حكاية عن صياد طلعت شبكته بعروسة بحر ، عرضت عليه أن يطلق سراحها لقاء مساعدته فى الحصول على ما تضمه أعماق البحار من كنوز وثروات ..
قلت وأنا أغوص فى زرقة عينيها :
ـ عروستى لا تعادلها كنوز الدنيا كلها !
كنت أرى فى عينيها أسئلة كثيرة ، وإن لم تجرؤ على مصارحتى . أدركت أنها تخفى وراء الابتسامة التى تملأ الوجه ما تعانيه . راعيت ميلها إلى الصمت . لم أشأ أن أسألها فى ما قد لا تجيب عنه ..
ـ أين كنت ؟
ـ لم أترك حجرتى ..
ـ لماذا ؟
عانيت ارتباكاً ، فتنقلت نظرتى بين الرضوض والكدمات الزرقاء فى ساقها ، والقوارب التى تصيد المياس فى خليج الأنفوشى . رفعت الجونلة ـ بعفوية أربكتنى ـ إلى ما فوق الركبتين ، وأشارت بيدها :
ـ زميل فى الدراسات العليا ظن نفسه كازانوفا ..
قالت إنها لم تبح لأحد بذلك السر . اختصتنى بما أطالت كتمه فى نفسها . حتى نظرات الخواجة أندريا القلقة ، وأسئلة الأم ، اكتفت أمامها بالصمت . ما حدث أكبر من أن تحاول استعادته : حصاره لها فى الشقة المغلقة . نظرته الشهوانية ، المتوعدة ..
قال من بين أسنانه :
ـ لماذا أنت هنا ؟
ـ لنذاكر معاً ..
ـ فقط ؟
هزت رأسها :
ـ فقط ..
ـ هل هذا كل ما تملكه فتاة أرمنية ..
أدركت ما يفكر فيه :
ـ أولاً .. أنا مصرية ..
ورمته بنظرة ساخطة :
ـ ثانياً .. هل الأرمن يختلفون عن بقية البشر ؟!
التف ساعداها ـ بتلقائية ـ حول وجهها . تتقى الصفعات التى فاجأها بها ، صفعات قاسية ، رافقتها عبارات قاسية ، وشتائم . لف شعرها حول قبضته . اجتذبها . طرحها على الأرض . ظل يوجه إليها اللكمات والصفعات ، والشتائم ..
ـ تملكنى شعور أنه يريد قتلى !.. يضرب ليقتل لا ليؤذى !
ـ لماذا ؟
وهى تهز راحة يدها :
ـ لا أعرف .. لا أعرف ..
وأنا أغالب التردد :
ـ آسف .. لكن هل كان يتوقع شيئاً ؟..
شوحت بيدها :
ـ لا أعرف ذلك النوع من التوقعات !
وغامت فى عينيها سحابة دامعة :
ـ أستعيد الموقف فلا أجد ما يبرر فعلته إلا أنه مجنون ..
سكت قليلاً ، ثم قلت :
ـ هل رويت ما حدث للأسرة ؟
ـ النتائج السلبية سأتحملها بمفردى !
داخلنى شعور أنى أراها للمرة الأولى . ليست هى الباحثة التى ألتقى بها فى عيادة الدكتور جارو ، ولا الصديقة التى تصحبنى إلى بيت أسرتها ، ومكتبة كلية الآداب ، وكورنيش الشاطئ ، بل ولا حتى الفتاة الجميلة بشعرها الأصفر ، وعينيها الزرقاوين ، وأنفها الصغير . هذه فتاة أخرى . تهبنى ثقتها ، تحدثنى عن معاناتها ، وما كتمت روايته .
***