( 7 )

دخل الأب يوحنا بردائه الكهنوتى ، وابتسامته المحايدة . كانت سيلفى قد أخبرت ماهر أن الأب سيأتى ـ فى لحظة ما ـ لتقديم المسحة الأخيرة .
نترت دومينيك من كتفه ورقة شجر يابسة تقاذفها الهواء .
حاول أنطوان أن يضفى على الحجرة طقس الموت . أسدل ستائر النافذة العريضة المطلة على الحديقة . جلل زواياها بجدائل من القماش الأسود ، ووضع على البوفيه ـ لصق الحائط ـ ست شموع فى شمعدانات فضية ، ووضع فى مواجهة السرير إكليل زهور .
حرص على أن يعدها بنفسه . ألبسها أحدث فساتينها ، وجرى بالبودرة على وجنتيها ، وعلى فمها بأحمر الشفاه . حتى الحذاء الذى دس فيه قدميها لم تكن قد ارتدته سوى مرة واحدة ، وضمخ جسدها بعطر الورد الذى كانت تفضله . نزع خاتم الزواج من إصبعها . أعطاه للمسيو ميكيل ..
وضع أنطوان على سقاطة باب الفيلا شريطاً أسود . استبدل بمفرش المائدة ذى الزهور الملونة مفرشاً من البلاستيك . أدار إلى الجدار صورة الأم ..
رنا ماهر إليها بنظرة متأملة ، فى سكونها الهادئ داخل التابوت . من الخشب الماهوجنى . مبطن بالساتان الأزرق . المقبض من المعدن المذهب .
لم تفلح المساحيق فى إزالة شحوب الوجه ، وأحاطت الزهور بالرأس ، وتَغَطّى الجسد المسجى بالمخمل .
تأمل الحانوتى ومعاونه وسائق السيارة . بدت نظراتهم حيادية ، ساكنة ، يؤدون عملاً .
سارت العربة ذات الأشرطة السوداء على حوافها ، والملائكة الصغيرة ، المجنحة ، المطلية بلون الذهب ، على جانبيها . أبطأ السائق لتتواءم العربة مع خطوات المشيعين . مضت الجنازة فى شارع نصوح الهندى إلى الكنيسة ، بالقرب من تقاطع الشارع مع شارع السلطان سليم . سار وراء النعش عشرة أشخاص : الأخوة الأربعة وعياد وماهر ، ورجال من الجيران .
بدت سيلفى متغيرة بفستانها الأسود ذى الكمين الطويلين ، ونظارتها الشمسية ، هى أقرب إلى النحافة ، وكومت شعرها أعلى رأسها ، وخلت يدها حتى من ساعة اليد .
لم يتصور ـ بعد أن أخلى حمل النعش لأنطوان ـ أنه حمل النعش الذى كانت السيدة كاترين راقدة فيه . غمره شعور صعب عليه فهمه .
ترامى قرع جرس الكنيسة ، ببطء ، وعلى تباعد . خيل إليه أن صوت الجرس يختلف ـ هذه المرة ـ عن المرات الكثيرة ، السابقة ، التى ترامى فيها صوته إلى الفيلا . ما يشبه الأسى يسرى فى الدقات المتباطئة ، تخلّف نهاياتها أنيناً خافتاً ، ممطوطاً ، كأنه البكاء .
هل هو ما تسمعه أذناه بالفعل ، أم أنه لا يجاوز التوهم ؟
جلس فى الصف الأول المواجه للمذبح .
الشمعات الحمراء الثلاث فوق التابوت المغلق ، وأريج البخور يضوع المكان .
مثل الحضور ثلاثة صفوف قصيرة فى الوسط . ظلت بقية دكك الصالة خالية . وفى المواجهة صف بمساحة المكان من شمامسة صغار ، أولاد وبنات ، يقرءون من الكتاب المقدس ، وتعلو أصواتهم ـ بإشارات من الأب ذى الجسد الممتلئ ، والبشرة البيضاء المشربة بحمرة ـ بالصلوات والتراتيل . يعمق من تأثيرها عزف الأورغن ، وأضواء الشموع ، وتضوع البخور .
أنصت إلى كلمات الأب التى تتحدث عن انفصال الراحلة عن غربة هذه الحياة إلى فردوس النعيم ، لتبلغ المساكن السعيدة ، وتنسى أحزانها وشقاءها ، ودعوة الأب أن يبلغ الله الراحلة مساكن القديسين ، ويغفر لها جميع خطاياها فى الملكوت السرمدى . وترديده قول بولس الرسول : إذا كان الله معنا ، فمن يكون علينا .
أنهى الأب كلماته بالقول : آمين .
ردد ماهر الكلمة مع الحضور .
قلد الحضور فى ما فعلوه . حرك شفتيه مترنماً بالأنغام التى رددوا كلماتها . وضع علامة الصليب على صدره . ركع مثلهم ، حتى فردوا قاماتهم ، ففرد قامته .
منذ سنوات بعيدة ، زار الكنيسة ـ مع أمه ـ لحفل زفاف . اجتذبه الجو الكنسى : الملابس الكهنوتية ، أنغام الأورج ، الصلوات المنغمة ، رائحة البخور . التماثيل والأيقونات والتيجان والزجاج الملون . ثمة سحر يتسلل إلى نفسه ، مشاعر غامضة لم يستطع تحديدها .
عندما علت الأصوات بالتراتيل ، حاول مجاراتها . حرك شفتيه دون أن يتأكد من أنه ينطق الكلمات نفسها .
قال لأمه :
ـ أحببت صلوات الكنيسة للطقوس التى تقدم فيها !
وتهدج صوته بصدق مشاعره :
ـ وأنا أستمع إلى الأورغن .. تمنيت أن أكون مسيحياً ..
رمقته أمه بنظرة غاضبة :
ـ تهذر ؟
كانت تعيب عليه طبيعته الانفعالية ، ما يخطر فى باله يقوله ، أو يفعله . ربما وجه أقسى الملاحظات فى سهولة وجرأة ، لا يتدبر وقعها فى نفوس الآخرين . تشفق عليه من أنه يعرض نفسه لمشكلات ، يواجه مآزق صعبة .
قال يحاول استرضاءها :
ـ مجرد ومضة تلاشت .. نسيت نفسى فى عزف الأورغن والتراتيل ..
قال القسيس بلهجة مهونة :
ـ قدرنا أن نموت ، وطبيعى أن يسبق الآباء أبناءهم فى الرحيل ..
تأمل المعنى . قال :
ـ أطال الله أعماركم !
أدى القسيس ـ خمن أنه يقيم فى المقابر ـ بعض الصلوات .
عمق من الصمت الذى لف الجميع ، صوت احتكاك التابوت بحواف القبر الطينية والحجرية ، وهو يهبط ليستقر فى القاع ..
بعد أن بلغ النعش قاع التراب ، رش عليه الأب الماء المقدس وهو يردد الأدعية . ألقت دومينيك باقة الورد التى أمسكت بها فوق النعش . ثم بدأ التربى فى إهالة التراب بالجاروف .
همست الأفواه بالصلوات ، وتحركت الأيدى بعلامة الصليب .
شعر بالارتباك ، وأنه يجب أن يبدى تأثره بطريقة ما. رسم الحزن على ملامحه ، وجرى على عينيه بظهر يده .
تبين أنهما مندتان بالدمع .
استداروا عائدين .
وهو يغادر المكان ، تطلع ماهر إلى ما كانت الجنازة قد اجتذبته عن رؤيته : مستطيل الرخام حفر فى أعلاه بحروف إيطالية اسم كاترين فرنسيس ، مدى المقابر إلى البنايات البعيدة ، الشواهد الرخامية ، الصلبان ، صور العذراء ، ووليدها ، الملائكة بأجنحتها المحلقة ، أشجار الجازورينا ، مساحات النجيل الأخضر ، أحواض الزهور والصبار على جانبى الممرات المرصوفة بالبلاط . ما لم يكن يعرفه ولا رآه من قبل .