(11)

كنيسة البازيليك ذات القباب الهائلة، المتداخلة، تتوسط الميدان، والأبراج المتقابلة، ومستطيلات الدوائر المصمتة، ونقوش الصلبان، والأفاريز المحيطة بالأسطح المتعددة، والنوافذ الزجاجية الملونة.
خمن أنها بنيت في الخلاء، ثم أخذت الشوارع والحدائق ـ من حولها ـ شكل الدائرة، تهب ميدان الأهرام اتساعاً، بامتدادها ـ من الواجهة ـ إلي سينما الحرية، وسينما نورماندي، والكوربة، وبالميرا، والأمفتريون، وملاهي أدهم، وشركة مصر الجديدة، وجروبي بشرفته الواسعة المطلة علي مبني الوزارة المركزية، وشركة مصر الجديدة، وسينما بالاس، ونادي سبورتنج، ومن اليمين، صف من البنايات ذات النسق الموحد، تشي الطوابق العالية والأعمدة المنقوشة والأقواس الحجرية والمقرنصات والزخارف والبواكي ببدايات الحي، وتقاطعات الطريق إلي شارعي دمشق وبيروت، وشارع السباق، والميرلاند. فطن إلي مئذنة ـ علي ناصية الميدان ـ تلاصقت الأشجار حولها، أشبه بغابة تفضي إلي شارع بيروت. أدرك أنها لمسجد مما اعتاد وجوده بالقرب من أية كنيسة. من اليسار طريق مترو النزهة، وكنيسة الموارنة، والشوارع المتجهة إلي شارعي الثورة والعروبة، وقصر البارون إمبان بقبابه، وأبراجه المخروطية، وامتزاج عمارته والتماثيل الصغيرة ـ في الواجهة، وعلي الجانبين ـ بين النسقين الهندي والمغولي. من الخلف مستوصف الدليفراند، علي ناصية شارع هارون الرشيد، يستعيد فيه زحام شارع السد ، الدكاكين والأسواق والمقاهي والسيارات وعربات الكارو والحنطور واليد والباعة الجائلين والتندات واللافتات وامتداد المفارق، حتي المدرسة الإنجليزية.
وهو يشير إلي الأبراج والقباب المتلاصقة:
ـ بناية كبيرة.
ومضت شفتاها ببسمة اعتزاز:
ـ أنا كاثوليكية، تابعة للفاتيكان، في هذه الكنيسة يقيم مندوب البابا..
الدرجات الرخامية تصعد إلي الباب الخشبي الضخم، يفضي إلي قاعة رخامية، علي جانبيها أعمدة تعلو إلي السقف العالي، وحجرات مواربة، أو مغلقة. تمازج الهدوء والسكينة والرائحة الذكية الغائبة المصدر.
وقع أقدامهما علي الأرضية الرخام يعمقه الصمت السادر. تشاغلا ـ ربما للتخلص من الارتباك ـ بالنظر إلي الصور والأيقونات والتماثيل والأثاث القليل المتناثر في الحجرة الواسعة.
تبادلا النظرات في جلستهما ـ متقاربين ـ علي الكرسي المواجه للباب المفتوح. خمن أن الحجرة لاستقبال الزوار. تناثر في أركانها مقاعد خشبية أشبه بما صف في قاعة الصلاة بكنيسة الزيتون. الزجاج الملون الشفاف يعكس ضوء النهار. الجدران خالية، إلا من رسم كبير ملون ـ وسط المكان ـ للسيد المسيح في وقفة دعاء. وثمة نجفة لا تتسق بساطتها مع فخامة المكان.
النحنحة المترامية من خارج الحجرة، دفعتهما إلي الوقوف بتلقائية. القامة الطويلة، والنظرة المتجهمة، والملامح الساكنة، حركت في داخله إحساساً بعدم الارتياح، ولعله شعور بالكراهية. أعرف أنك لن توافق، لكن الظروف أجبرتني علي الوقوف أمامك، ولابد أن أنتزع موافقتك.
تكلم ماهر فيما قدما لأجله.
استنكر ـ في داخله ـ ما لجأ إليه من عبارات قد لا ترضي المطران، أو تضايقه، أفضّل السير في الطريق المضيئة، ليتك تعاملنا كما يعامل الأب أبناءه، تعاهدنا علي أن يحترم كل منا ديانة الآخر، وعبارات أخري كثيرة أملاها الارتباك، لم يعدّها، ولا تدبر وقعها في نفس الرجل الذي واجهه بعينين ملتمعتين، ساكنتين.
اتجه المطران بنظرته إلي سيلفي:
ـ أنت مسيحية.. وضع الله هذا الشاب في طريقك لاختبار مدي إيمانك..
وجد في انكسار عينيها ما شجعه، فاستطرد:
ـ عليك أن تثبتي قوة هذا الإيمان..
كانت لهجة المطران هادئة، لكن النبرات بدت متوعدة، كأنها تتعمد بث الخوف في نفسها. آلمته الجرأة التي تصرفت بها الفتاة. خالفت دينها وأسرتها، وفرت مع شاب لا تعرف أصله، لتتزوج منه.
قال إن ما حدث هو غواية من الشيطان، كي تتحدي سيلفي إرادة الله. هددها بأنه لن يكون لها مكان في الكنيسة الكاثوليكية.
واكتست نبراته صرامة:
ـ قد تواجهين بهذا القرار متاعب لا نهاية لها.
ثم وهو يلوح بسبابته أمام وجهها:
ـ لابد أن تراجعي قرارك.
هذا هو الزوج الذي تريده. لا تتصور باباً يغلق عليها مع شخص آخر.
قال المطران:
ـ إذا تزوجت خارج الكنيسة، ستواجهين مصيرك بلا أهل ولا كنيسة..
ثم وهو يهز إصبعه في وجهها:
ـ ستواجهين مصيرك بمفردك.
لاحظ زمّها شفتيها كمن تهم بالبكاء:
ـ ما تنوين فعله يهبط بك إلي مرتبة المومسات..
ضغط ماهر علي يدها لتتماسك أمام كلمات المطران القاسية..
أصر علي الموافقة، وتصر علي الرفض، الموافقة حقي، أما الرفض فلابد أن تبتلعه في النهاية، لا شأن للدين ولا الكنيسة، ولا شأن لك، بقرار زواجنا.
قالت، وهما يتجهان إلي محطة الأتوبيس في الكربة:
ـ لماذا لا تتحول إلي المسيحية؟
أشار إلي صدره بعصبية:
ـ أنا ؟
قالت:
ـ لماذا أتحول إلي الإسلام؟
ـ لأنه يوافق علي زواج الرجل بالكتابية، بغير المسلمة.
وهي تعبر بيديها:
ـ المسيحية لا توافق. المشكلة واضحة!
***
واتاه السؤال. ألقاه دون تدبر:
لم يكن محسن عبد العاطي ـ زميله في إدارة النشر ـ يخفي اعتزازه بأنه من حملة كتاب الله، وكان ماهر يطمئن إلي إلمامه بقضايا الزواج والطلاق والمواريث، وإن شدد علي عدم تفقهه في المذاهب السنية الأربعة، ولا مذاهب الإسلام الأخري.
مط محسن عبد العاطي شفته السفلي:
ـ اسأل الكنيسة!
ـ حصل. قال الأب: كفر!
بحلقت عينا محسن في استغراب:
ـ هل كنت تتوقع موافقته ؟!